تحقيق موقف علي بن أبي طالب من خلافة أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما-
المصدر: بحوث حول الخلافة والفتنة الكبرى للدكتور خالد كبير علال حفظه الله .بسم الله الرحمن الرحيم
تضاربت الروايات التاريخية و الحديثية في تحديد موقف علي بن أبي طالب من تولي أبي بكر الصديق رضي الله عنهما- للخلافة (سنة 11هجرية ) ، و اختلفت اختلافا كبيرا ، و قد قسّمتُها إلى أربع مجموعات ، الأولى ذكرت أن بني هاشم- من بينهم علي- رفضوا مبايعة أبي بكر .و الثانية قالت أن عليا بايعه تحت التهديد و الإكراه .و الثالثة ذكرت أنه سارع إلى مبايعته طواعية دون إكراه . و الرابعة قالت أنه تأخر عن البيعة 6 أشهر ثم بايعه . فأين الخبر الصحيح من بين هذه الروايات المتضاربة ؟ . أولا : عرض الروايات :
تضم المجموعة الأولى خمس (05) روايات ، الأولى مفادها أن بني هاشم من بينهم علي- لما بلغهم خبر بيعة الناس لأبي بكر الصديق غضبوا ،و قال العباس : فعلوها و رب الكعبة ؛ و قال بعضهم : نحن أولى بمحمد ،و قال آخر : بنو هاشم أولى بالخلافة ،و أن قريشا أخذتها بالتمويه[1] .
و الرواية الثانية مضمونها أن عليا و العباس تأخرا عن بيعة أبي بكر الصديق ، فشاور عمر بن الخطاب الصحابيين أبا عبيدة بن الجراح و المغيرة بن شعبة في أمر هؤلاء ، فقالا له : عليك بإعطاء العباس نصيبا في هذا الأمر ، يكون له و لعقبه ، لقطع الطريق أمام علي بن أبي طالب ؛ فاتصل عمر بأبي بكر الصديق و ذهب الجميع إلى العباس ليلا ،و كلّموه فيما اتفقوا عليه ، فرفض مطلبهم و قال لأبي بكر : إن كان هذا الأمر حقا للمسلمين فليس لك أن تحكم فيه ، و إن كان لنا فلا نرضى ببعضه ؛ ثم ذكّره بأنه من آل محمد ، فتركوه و خرجوا من عنده[2] .
و أما الثالثة من المجموعة الأولى- فمفادها أنه لما جُددت البيعة لأبي بكر الصديق أمام عامة الناس ، خرج إليه علي بن أبي طالب ، فلم يُبايعه و قال له : أفسدت علينا أمورنا ،و لم تستشر ،و لم ترع لنا حقا ؛ فقال أبو بكر الصديق : بلى و لكن خشيتُ الفتنة[3] .
و الرواية الرابعة وردت في كتاب الإمامة و السياسة المنسوب لابن قتيبة الدينوري (ت276هجرية) ،و فيها أنه لما بايع بنو هاشم أبا بكر الصديق بالخلافة ، جيء بعلي بن أبي طالب ، فأبى أن يُبايع ، و قال : لا أبايعكم ،و أنتم أولى بالبيعة لي ، و أنكم غصبتم أهل البيت حقهم ، و أنكم حاججتم الأنصار بأنكم أولى منهم ، لأن الرسول منكم و من قرابتكم ؛و أنا أجادلكم بنفس المنطق ، فنحن أولى منكم بالرسول حيا و ميتا . فقال له بشير بن سعد الأنصاري : إن الأنصار لو سمعوا ما قلته الآن لبايعوك ، لكن الأمر قد فات بمبايعتهم لأبي بكر الصديق . ثم تزعم الرواية أن عليا لما لم يُؤخذ برأيه- أركب زوجته دابة و خرج بها ليلا إلى مجالس الأنصار ، فكانت أي فاطمة- تسأل الأنصار النصرة ، فيقولون لها : ( يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ،و لو أن زوجك و ابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ، ما عدلنا به )) ، فيقول علي بن أبي طالب : (( أفكنتُ أدع رسول الله صلى الله عليه و سلم- في بيته لم أدفنه ، و أخرج أنازع الناس سلطانه ، فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له ،و قد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم ))[4] .
و الرواية الخامسة هي أيضا وردت في كتاب الإمامة و السياسة المنسوب لابن قتيبة ، و تزعم أن عليا و قوما معه رفضوا الخروج لبيعة أبي بكر الصديق ، فأرسل إليهم عمر بن الخطاب ، فناداهم فلم يخرجوا للبيعة ، فطلب أي عمر- الحطب ليحرق الدار و من فيها ، فخرج من كان في الدار و بايعوا أبا بكر ،و لم يخرج علي لأنه (( زعم أنه قال : حلفتُ أن لا أخرج ،و لا أضع ثوبي على عاتقي حتى أجمع القرآن ))، ثم منعت فاطمة عمر بن الخطاب من الدخول ، فرجع إلى أبي بكر و أخبره بالأمر ، فأرسل أي أبو بكر- مولاه قنفد ليدعوا له عليا فأبى علي ، و رجع مولاه إليه ، فبعثه ثانية إلى علي ، فأبى المجيء ؛ ثم ذهب عمر مع جماعة إلى بيت علي ، فلما رأتهم فاطمة نادت بأعلى صوتها و استغاثت بالرسول-عليه الصلاة و السلام- ، فعاد بعض من كان معه و دخل الباقون إلى البيت ، و أخرجوا عليا و أخذوه إلى أبي بكر الصديق ، فأبى أن يُبايعه ،و هدده الحاضرون بالقتل ،و طلب عمر من أبي بكر أن يقتله ، فلم يوافقه و ترك عليا مادامت فاطمة إلى جنبه ، ثم تزعم الرواية أن عليا خرج إلى قبر النبي-صلى الله عليه و سلم- و هو يصيح و يبكي[5] .
و أما المجموعة الثانية التي ذكرت أنه حدث إكراه في دعوة علي لبيعة أبي بكر ، فتضم ثلاث (03) روايات ، أولها ما رواه المؤرخ ابن جرير الطبري ، عن زكريا بن يحي الضرير ، عن أبي عوانة ، عن داود بن عبد الله الأودي ، عن حميد بن عبد الرحمن الحميري ، أنه عندما بايع الناس أبا بكر الصديق تخلّف علي بن أبي طالب و الزبير بن العوام ، و قال الزبير : لا أغمد سيفي حتى يُبايع علي فلما بلغ أمرهما لأبي بكر الصديق و عمر بن الخطاب ، قال عمر : خذوا سيف الزبير و اضربوا به الحجر ، ثم ذهب إليهما و قال لهما : لتبايعان طائعين ، أو لتبايعان كارهين ، فبايعا[6] .
و الرواية الثانية ذكرها الطبري ، و فيها : حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد بن كليب قال : ذهب عمر بن الخطاب إلى منزل علي ، و فيه الزبير و رجال من المهاجرين ، فقال لهم : و الله لأحرقن عليكم أو لتخرجنّ للبيعة ، فخرج الزبير حاملا سيفه ، فعثر و سقط السيف من يده ، فوثبوا عليه و أخذوه منه[7] .و إلى هنا توقف الخبر ،و لا نعلم ما حدث بعد ذلك حسب ما زعمته هذه الرواية .
و الرواية الثالثة من المجموعة الثانية هي أيضا رواها الطبري ، و فيها : حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن رجل ، عن عِكرمة ، عن عبد الله بن عباس أنه جرى بينه و بين عمر بن الخطاب زمن خلافته- ، فكان مما قاله له ابن عباس : إن قريشا صرفت الخلافة عن بني هاشم حسدا و ظلما[8] .و كلامه هذا يعني أن عليا و بني هاشم أُجبروا على البيعة و السكوت عن حقهم الذي زعمته الرواية .
و أما المجموعة الثالثة التي ذكرت أن البيعة تمت طواعية- فتضم ثلاث روايات ، أولها ما رواه الطبري من أن عليا ما إن سمع ببيعة الصديق خرج مسرعا لابسا قميصا دون إزار و لا رداء عليه ، كراهية أن يتأخر عن البيعة ، فذهب إليه و بايعه و جلس بجانبه ، ثم بعث يطلب ما ينقص من ثوبه[9] .
و الرواية الثانية مفادها أنه لما جلس أبو بكر الصديق للبيعة ولم ير عليا سأل عنه ، فقام أناس من الأنصار و أتوا به ، فقال له أبو بكر : ابن عم رسول الله و ختنه ، أردتَ أن تشق عصا المسلمين ؟ ! ، فقال علي : لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم- ، و بايعه .و عندما لم ير الزبير بن العوام سأل عنه ، فجيء به إليه ، فقال له :ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- و حواريه ، أردت أن تشق عصا المسلمين ؟ ! فقال له : لا تثريب يا خليفة رسول الله ،و بايعه[10].
و الثالثة رواها الطبري ،و هي رواية عامة عن مواقف الصحابة من بيعة أبي بكر الصديق ، يندرج فيها موقف علي بن أبي طالب و بني هاشم ، مضمونها أنه لم يتخلف أحد من المهاجرين عن بيعة أبي بكر الصديق ، و أنهم تتابعوا على بيعته من غير أن يدعوهم[11] .
و أما المجموعة الرابعة - التي ذكرت أن عليا تأخر عن البيعة ستة أشهر- فتضم أربع روايات ، أولها ما رواه المؤرخ اليعقوبي من أنه لما سمع أبو بكر الصديق و عمر بن الخطاب ، أن جماعة من المهاجرين و الأنصار في بيت علي بن أبي طالب ، ذهبا مع بعض الناس إليه في بيته و هجموا على من فيه ، فخرج إليهم علي بالسيف ، فتصدى له عمر و كسر سيفه ،و دخلوا إلى البيت ، فخرجت إليهم فاطمة و قالت لهم : و الله لتخرجن أو لأكشفن شعري و ادعوا الله ، فخرجوا من بيتها ؛ ثم بقي من كان مع علي أياما دون بيعة ، ثم بايعوا أبا بكر فُرادى ، أما علي فلم يُبايعه إلا بعد ستة أشهر [12] .
و الرواية الثانية ذكرها المؤرخ المسعودي ، و فيها انه لما جُددت البيعة لأبي بكر الصديق-بعد بيعة السقيفة- و بايعه الناس البيعة العامة ، خرج إليه علي بن أبي طالب ،و قال له : (( أفسدتَ علينا أمورنا ،و لم تستشر و لم ترع لمنا حقا )) ، فقال أبو بكر : بلى و لكن خشيتُ الفتنة ))[13] .
و الثالثة وردت في كتاب الإمامة و السياسة المنسوب لابن قتيبة الدينوري ، و فيها أن عليا رفض مبايعة أبي بكر ،و كان يخرج بزوجته فاطمة إلى الأنصار يطلب مساعدتهم له لأخذ حقه المغصوب ، و عندما حاول أبو بكر و عمر إجباره على البيعة رفض ، و خرج إلى قبر الرسول-عليه الصلاة و السلام- يصيح و يبكي ، لكنه عندما تُوفيت زوجته فاطمة ، أرسل إلى أبي بكر بأن يأتيه إلى البيت ، فلما حضر قال له علي : (( لم يمنعنا أن نبايعك إنكارا لفضيلتك ،و لا نفاسة أي حسدا- عليك ،و لكنا كنا نرى أن لنا في الأمر حقا ، فاستبددت علينا )) ، ثم وعده بالبيعة غدا بالمسجد الجامع ، فلما حان الوقت تكلّم علي ، و عظّم حق أبي بكر و ذكر فضيلته و سابقته ثم بايعه ، فقال له الناس : أصبت يا أبا الحسن و أحسنت ؛ ثم لما تمت البيعة بقي أبو بكر ثلاثة أيام يستقبل الناس و يقول لهم : قد أقلتكم في بيعتي ، هل من كاره ؟ ، هل من مُبغض ؟ ، فيقوم علي في أول الناس و يقول : و الله لا نقيلك و لا نستقيلك أبدا ،و قد قدمك رسول الله صلى الله عليه و سلم- لتوحيد ديننا ، من ذا الذي يُؤخرك لتوجيه دنيانا ))[14] .
و الرواية الأخيرة الرابعة من المجموعة الرابعة- هي ما رواه البخاري و مسلم في صحيحيهما ،و مفادها أنه لما تُوفي رسول الله عليه الصلاة و السلام- أرسلت فاطمة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها من أبيها ، فقال لها أنه سمع رسول الله يقول : (( لا نورث ما تركناه صدقة ، إنما يأكل آل محمد من هذا المال )) ، و لم يُعطيها ما طلبت ، و قال أنه يتبع سنة الرسول-صلى الله عليه وسلم- في هذا المال ؛ فغضبت فاطمة و هجرته و لم تكلّمه إلى أن تُوفيت بعد ستة أشهر من وفاة رسول الله عليه الصلاة و السلام- . فلما تُوفيت التمس علي بن أبي طالب مصالحة أبي بكر و بيعته ، إذ لم يكن بايعه في تلك الأشهر ، و كان له وجه عند الناس في حياة زوجته فاطمة-رضي الله عنها- ، فلما تُوفيت استنكر وجوه الناس و التمس مصالحة أبي بكر و بيعته ، فأرسل إليه بالمجيء إلى بيته ، فلما حضر أبو بكر ، اعترف له علي بفضله و قال له: إنني لم أحسدك على خير ساقه الله إليك ، لكنك (( استبددت علينا بالأمر ، و كنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه و سلم- نصيبا )) ، فقال له أبو بكر ، : إن قرابة النبي عليه الصلاة و السلام- هي أحب إليّ من قرابتي ، و أما (( الذي شجر بيني و بينكم من هذه الأموال ، فلم آل فيها عن الخير ،و لم أترك أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم- يصنعه فيها إلا صنعته )) ، ثم تكلم علي و وعده بالبيعة في المسجد بعد صلاة الظهر من نفس اليوم ، فلما حان الوقت قام أبو بكر في الناس و أخبرهم بأمر علي و تخلّفه ، فنهض علي بن أبي طالب و قال للناس ما كان قاله لأبي بكر في بيته ،و بايعه أمامهم ، ففرحوا به و استحسنوا فعله[15] .
________________________________________
[1] اليعقوبي :تاريخ اليعقوبي ،بيروت، دار صادر، دت ، ج2 ص: 124 .
[2] نفس المصدر ، ج2 ص: 125، 126
[3] المسعودي : مروج الذهب و جواهر المعدن ، الجزائر ، دار موفم للنشر ، ج 2 ص: 355 .
[4] ط الجزائر ، دار موفم ، 1989 ج1 ، ص: 18، 19 .
[5] ج1 ص: 20 و ما بعدها .
[6] تاريخ الطبري ، ط1 بيروت ، دار الكتب العلمية 1407 ج2 ص: 233-234 .
[7] نفس المصدر، ج 2 ص: 233 .
[8] نفس المصدر ، ج 2 ص: 578 .
[9] نفس المصدر ، ج2 ص: 236 .
[10] عبد الله بن أحمد : السنة ،ط1، الدمام، دار ابن القيم ، 1406 ج2 ص: 554 . الحاكم : المستدرك ،بيروت ، المكتبة العلمية 1990 ج 3 ص: 80 .و البيهقي : السنن الكبرى ، مكة، دار الباز، 1994 ج 8 ص: 183 .و ابن كثير : البداية ، بيروت ، مكتبة المعارف ، دت ،ج 5 ص: 261 . الذهبي : الخلفاء الراشدون ،ط1 بيروت، دار الجيل ، 1992 ص: 6 . السيوطي : تاريخ الخلفاء ، ط1 مصر، مطبعة السعادة، 1952 ص: 69
[11] تاريخ الطبري ، ج 2 ص: 235 .
[12] تاريخ اليعقوبي ، ج2 ص: 126 .
[13] مروج الذهب ، ج 2 ص: 126 .
[14] الإمامة و السياسة ، ج1 ص: 19-25 .
[15] انظر : البخاري : الصحيح ، حققه ديب البغا، ط2 ، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1987 ج4 ص: 1549 .و مسلم : الصحيح ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي، د ت،ج3 ص: 1380 .
الحلقة الثانية:
1. تحقيق الروايات السابقة :
كانت تلك الروايات هي أشهر الروايات التي ذكرتها المصنفات التاريخية و الحديثية عن موقف علي بن أبي طالب من بيعة أبي بكر الصديق ،و هي التي سأُخضعها للنقد إسنادا و متنا- لنميز صحيحها من سقيمها .
فالمجموعة الأولى التي ذكرت أن عليا رفض البيعة- أول رواياتها ذكرها المؤرخ اليعقوبي بلا إسناد[1]، و هذا يعني أنها فقدت شرطا أساسيا من شروط تحقيق الخبر في علم الجرح و التعديل ، مما يُدخلها مباشرة في دائرة الضعيف أو الموضوع-أي المكذوب[2]- . و أما متنها فهو أيضا لا يصح لأنه يخالف ما ثبت في القرآن الكريم و السنة النبوية و التاريخ الصحيح أن الرسول عليه الصلاة و السلام لم يوص لأحد من بعده بالخلافة ، و إنما هي شورى بين المسلمين تتم بالاختيار الحر[3] .
و الثانية هي أيضا رواها اليعقوبي دون إسناد ، لذا فهي تدخل مباشرة في دائرة الضعيف أو الموضوع ، لأنه قطع الطريق أمامنا من إمكانية نقدها بواسطة الإسناد ، و أصبحت مجرد دعوى عارية عن الدليل ، و الدعوى لا يعجز عنها أحد . و أما متنها ففيه وصف لأبي بكر و عمر بالتآمر و الحرص على الخلافة ، و هذا غير صحيح لأنه يتنافى تماما مع الثابت من أخلاقهما الحسنة ،و قد صحّ الخبر أن الصحابة بايعوا أبا بكر و رضوا به ، دون إكراه و بلا طلب منه[4] .
و الرواية الثالثة-من المجموعة الأولى- رواها المؤرخ المسعودي بلا إسناد[5] ، فهي إذا ضعيفة من حيث السند ؛ و أما متنها فإن كان المقصود من قولها أن عليا قال : (( لم ترع لنا حقا )) ، أنه أراد أن الخلافة حق له و أخذها منه أبو بكر ، فهو زعم باطل ترده النصوص الصحيحة الكثيرة التي تُثبت أن الخلافة شورى بين المسلمين ،و أن الرسول-عليه الصلاة و السلام لم يوص لأحد من بعده بالخلافة[6] . و إما إن كان المقصود من ذلك أن له حق المشاورة ، في اختيار الخليفة و لم يُدع إليه ، فهو كلام صحيح ، لكن غيابه لم يكن مقصودا ، فعندما بويع أبو بكر في السقيفة كثير من الصحابة لم يكن حاضرا ، منهم علي و الزبير ، فبايعوه في البيعة العامة في المسجد[7] .
و أما الرواية الرابعة فإسنادها لا يصح ، لأن من رجاله : أبو عون بن عمرو بن تميم الأنصاري ،و عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري[8] ، الأول مجهول ،و الثاني ضعيف[9] . و أما متنها فهو لا يصح أيضا ، لأنه سبق و أن ذكرنا أن عليا لم يدع الخلافة لنفسه و لا لأهل البيت[10] ،و أن رسول الله عليه الصلاة و السلام لم يستخلف أحدا من بعده .و أما قولها أن الخلافة في قريش ، فهو أمر مقرون بما ذكرته الأحاديث الصحيحة من أن الخلافة في قريش مقرونة بإقامة الدين و العدل و عدم العصيان[11] ؛ فهي ليست فيهم من باب التأبيد ، فإذا فقدت قريش أولويتها و أهليتها و كفاءتها ،و لم تلتزم بتلك الشروط انتقلت منها الخلافة إلى غيرها من القبائل و الشعوب الإسلامية ، و كلنا نعلم أن الخلافة خرجت من بني العباس و انتقلت إلي العثمانيين الأتراك .
و الرواية الخامسة هي أيضا إسنادها لا يصح ، لأن رجاله هم أنفسهم رجال الرواية السابقة- أي الرابعة- و أما متنها فهو أيضا غير صحيح للمعطيات الآتية :
أولها هو أنني بحثتُ في عشرات المصادر من كتب التراجم و الرجال و التواريخ عن مولى لأبي بكر اسمه : قنفذ أو قنفد ، فلم أعثر له على أي ذكر . كما أنه من المستبعد جدا أن يبعث أبو بكر مولى له ليتوسط بينه و بين علي في أمر غاية في الأهمية ،و يترك كبار الصحابة الذين لهم مكانة لدي علي .
و المعطى الثاني هو أن الرواية زعمت أن عليا أبى الخروج من بيته حتى يجمع القرآن ،و هذا زعم لا مبرر له ، لأن القرآن الكريم لم يتهدده أي خطر و لم يكن في بيت علي ، لأنه كان محفوظا في الصدور ،و مكتوبا متفرقا عند كبار كُتاب الوحي زمن رسول الله عليه الصلاة و السلام- ثم جمعه أبو بكر الصديق ،و وحد مصحفه عثمان بن عفان رضي الله عنه-[12] .
و المعطى الثالث هو أن مقتضى هذه الرواية-أي الخامسة- أن عليا كان معاديا و مخاصما و مفارقا لأبي بكر ، و هذا زعم غير صحيح ، لأنه من الثابت تاريخيا أن عليا لم يكن مفارقا و لا معتزلا لأبي بكر بُعيد توليه الخلافة ، بل كان مصاحبا له و في خدمته[13] . و المعطى الرابع هو أن الرواية زعمت أن فاطمة استغاثت بالرسول عليه الصلاة و السلام- ،و هذا تصرّف لا يصدر عنها ، لأنه لا يجوز شرعا الاستغاثة بالنبي و لا بغيره من الناس ، في حياتهم و مماتهم ،و لا تكون الاستغاثة إلا بالله تعالى[14].
و آخرها أي المعطيات- هو أن التصرفات و السلوكيات المشينة التي نسبتها الرواية لأبي بكر و عمر و فاطمة و علي-رضي الله عنهم- تتنافى مع أخلاق الصحابة عامة ،و مع أخلاق هؤلاء الأربعة خاصة .و لا يُعقل أيضا أن يحدث ذلك النزاع المزعوم المصحوب بصراخ فاطمة و صياح علي و بكائه ،و تهديدات عمر بالحرق ، و المسلمون و بنو هاشم و بنو عبد مناف يتفرّجون دون حراك لنصرة علي و زوجته من ظلم أبي بكر و عمر المزعوم !! .
2.
________________________________________
[1] انظر : تاريخ اليعقوبي ، ج2 ص: 124 .
[2] انظر : محمود الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، الجزائر ، دار رحاب د ت ، ص: 33 .
[3] انظر : قوله تعالى (( و أمرهم شورى بينهم )) ،و (( أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم )) ، فأولي الأمر من المسلمين مطلقا دون تخصيص .و أنظر أيضا : ابن كثير : البداية ، ج 5 ص: 263 . و البخاري : المصدر السابق ، ج 1 ص: 53، 1110، 1157 .و السيوطي : تاريخ الخلفاء ، ص: 6 ، 7 .
[4] انظر : ابن حبان : صحيح ابن حبان ، حققه شعيب الأرناؤوط ، بيروت مؤسسة الرسالة ، ج 2 ص: 145 و ما بعدهما . و البخاري : الصحيح ، كتاب الحدود ، باب : رجم الحبلى في الزنا .و أحمد بن حنبل : المسند ، مصر مؤسسة قرطبة ، د ت مسند العشرة المبشرين بالجنة .
[5] انظر : مروج الذهب ، ج2 ص: 355 .
[6] سبقت الإشارة إلى بعضها ، و أنظر أيضا : عبد الله بن أحمد بن حنبل : السنة ، ص: 216 و ما بعدها . و ابن كثير : البداية ، ج 5 ص: 264 . أحمد بن حنبل : المصدر السابق ، ج 1 ص: 114
[7] انظر : ابن حبان : المصدر السابق ، ج2 ص: 145 .و البخاري : المصدر السابق ، كتاب الحدود ، باب رجم الحبلى في الزنا.
[8] انظر : الإمامة و السياسة ، ج1 ص: 8 ، 17 .
[9] انظر : ابن أبي حاتم : الجرح و التعديل ، ج6 ص: 252 . و العقيلي : الضعفاء ، ط1 بيروت، مؤسسة الرسالة 1404ج 2 ص: 273 .و الذهبي : المغني في الضعفاء ،حققه نور الدين عتر ،د م، د ن، دت ج1 ص: 345 .
[10] سنذكر روايات أخرى عن ذلك قريبا .
[11] انظر: الضياء المقدسي : الأحاديث المختارة ، مكة المكرمة، مكتبة النهضة الحديثة، 1410ج 4 ص: 403-405 ، ج6 ص: 143-144 .و الهيثمي : مجمع الزوائد ، القاهرة، دار الريان للتراث ، 1407 ج 5 ص: 192 .
[12] انظر : البخاري : الصحيح ، كتاب التفسير ، باب (( لقد جاءكم رسول من أنفسكم )) ،و كتاب فضائل القرآن ، باب جمع القرآن .
[13] سنفصل ذلك قريبا .
[14] ابن تيمية : قاعدة جليلة في التوسل و الوسيلة ، الجزائر ، دار الشهاب ص: 199 و ما بعدها .
الحلقة الثالثة:
1. و أما روايات المجموعة الثانية التي ذكرت أن عليا بايع مُكرها- فأولها رواية الطبري ، و إسنادها لا يصح لأن من رجاله : زكريا بن يحيى ،و حميد بن عبد الرحمن الحميري ، الأول ضعيف ،و الثاني لم يثبت أنه روى عن أبي بكر و عمر بن الخطاب[1] . و أما متنها فلا يوجد فيه تصريح بالإكراه في بالبيعة ، و كل ما في الأمر أن الرواية زعمت أن عمر بن الخطاب جاء بعلي و الزبير و خيّرهما بين أن يُبايعا طائعين أو مُكرهين ، فبايعا دون ذكر للكيفية التي تمت بها البيعة .
و الرواية الثانية إسنادها غير صحيح ، لأن من رجاله : محمد بن حميد الرازي (ت248هجرية) ،و زياد بن كليب (ت110 أو 120هجرية) ، الأول ضعيف كثير المناكير ،و الثاني بينه و بين الحادثة انقطاع لم يكن شاهد عيان فيها ، و لم يرو عن الصحابة و إنما روى عن التابعين[2] . و أما متنها فتخالفه الروايات الصحيحة في بيعة علي و الزبير لأبي بكر ، التي لم تذكر حكاية خروج الزبير بالسيف و سقوطه من يده[3] .
و الثالثة-من المجموعة الثانية- إسنادها غير صحيح ، لأن فيه رجلا مجهولا لم يُذكر اسمه ،و فيه محمد بن حميد الرازي ،و هو ضعيف كثير المناكير[4] . و أما متنها فهو الآخر لا يصح ، لأن فيه ما يُشير إلى أن الصحابة أخذوا الخلافة من أهل البيت ظلما و حسدا و أجبروهم على البيعة ،و هذا غير صحيح لأنه ثبت بالنصوص الصريحة أن الرسول عليه الصلاة و السلام- لم يستخلف أحدا من بعده ،و لا أوصى بالخلافة لأهل بيته[5] .
و أما روايات المجموعة الثالثة التي ذكرت أن عليا سارع إلى البيعة- فأولها رواية الطبري و إسنادها لا يصح لأن من رجاله : سيف بن عمر التميمي ،و هو ضعيف متروك الحديث ، قيل عنه : فِلس خير منه[6] . و أما متنها ففيه أن عليا خرج مسرعا لبيعة أبي بكر ، و هذا ترده الرواية الصحيحة التي ذكرت أن عليا و الزبير تباطآ بعش الشيء في بيعته ثم لما استدعاهما بايعاه [7] .
و الرواية الثانية إسنادها صحيح[8] ، قال عنه الحافظ ابن كثير : و هذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة بن مالك عن أبي سعيد الخدري[9] .و أما متنها فلا علة فيه و لا شذوذ ، و فيه تصريح بأن أبا بكر لما لم ير عليا و الزبير في البيعة العامة استدعاهما ،فحضرا و بايعاه طواعية .و قد قال أبو بكر بن خزيمة عن هذه الرواية (( جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث أي هذه الرواية- فكتبته له في رقعة و قرأت عليه ؛ فقال : هذا الحديث يساوي بدنة-أي ناقة- فقلتُ : يسوي بدنة ، بل يسوي بدرة كيس من الدراهم- ))[10] .
و الرواية الثالثة -من المجموعة الثالثة إسنادها لا يصح ، لأن من رجاله : سيف بن عمر التميمي ،و الوليد بن عبد الله بن أبي ظبية البجلي ، الأول ضعيف و يروي عن المجهولين ،و الثاني مجهول[11] .و أما متنها فهو يخالف الرواية الصحيحة السابقة الذكر ، و التي ذكرت أن عليا و الزبير تباطآ بعض الشيء ، فأرسل إليهما أبو بكر فحضرا و بايعاه .
________________________________________
[1] أنظر: الذهبي : ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، ط1 بيروت، دار الكتب العلمية 1995 ج2ص: 110 . و أبو الحجاج المزي : تهذيب الكمال ، حققه بشار عواد، بيروت ، مؤسسة الرسالة، 1980 ج 7ص: 382
[2] انظر : الذهبي : نفس المصدر ، ج 6ص: 126، 127 .و المِزي : المصدر السابق ، ج 9 ص: 505 .
[3] سنذكر الروايات الصحيحة التي تخالف ذلك لاحقا .
[4] الذهبي : المصدر السابق ، ج 6 ص: 126، 127 .
[5] سبق ذكر بعض تلك النصوص و سيأتي ذكر طائفة أخرى قريبا .
[6] الذهبي : نفس المصدر ، ج 3 ص: 353 .
[7] الرواية الصحيحة هي الرواية الثانية من هذه المجموعة .
[8] انظر : عبد الله بن أحمد بن حنبل : السنة ، ج2ص: 554 .و الحاكم النيسابوري : المستدرك على الصحيحين ، ج3 ص: 80.
[9] البداية و النهاية ، ج 5 ص: 262 .
[10] نفس المصدر ، ج5 ص: 261 ، 293 .
[11] انظر : الذهبي : الميزان ، ج 3 ص: 353 .و ابن حجر العسقلاني: لسان الميزان ،ط 3 بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1986 ج6 ص: 223 .
الحلقة الرابعة:
1. و أما روايات المجموعة الرابعة- التي ذكرت أن عليا تأخر عن البيعة 6 أشهر-
فأولها رواية المؤرخ اليعقوبي ، فهي غير صحيحة ، لأنه رواها بلا إسناد ،و لأن متنها مُنكر و مُستبعد جدا ، و تخالفه الرواية الصحيحة في بيعة علي لأبي بكر في البيعة العامة بدون إكراه .
و الرواية الثانية هي أيضا لا تصح ، لأن المؤرخ المسعودي رواها بلا إسناد ،و لأن متنها ترده الرواية الصحيحة في بيعة علي لأبي بكر في البيعة العامة ، و لأن لعلي أقوال صحيحة في صحة خلافة أبي بكر و اعترافه بها سنذكرها قريبا .
و الرواية الثالثة إسنادها لا يصح ، لأن من رجاله : أبو عون عمرو بن تميم الأنصاري ،و عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري ، الأول مجهول ،و الثاني مذكور في الضعفاء[1] .و أما متنها فهو لا يصح أيضا ، لشذوذه و مخالفته لصحيح الأخبار ، لأنه أولا نص على أن عليا أدعى أنه صاحب الحق في الخلافة ،و أن أبا بكر أخذها منه ظلما و عدوانا ،و هذا زعم باطل تخالفه نصوص القرآن الكريم و السنة النبوية ،و الصحيح من التاريخ و أقوال علي بن أبي طالب[2] .
و ثانيا إن هذه الرواية فيها إهانة كبيرة لعلي بن أبي طالب ، فهل يُعقل أن صحابيا جليلا مثله ، يخرج بزوجته ليلا إلى الأنصار ، يستنصرهم بها على أبي بكر ؟! و أليس من العار و من الجبن و من النذالة و من الكذب و البهتان أن يُروى أن عليا خرج بزوجته يستجدي بها ،و أنه ذهب إلى قبر الرسول-عليه الصلاة و السلام- و هو يصيح و يبكي ؟ ! و لماذا ترك بني عمومته من بني العباس و بني أمية و ذهب إلى الأنصار الذين بايعوا أبا بكر ، ليطلب منهم المساعدة ؟ . و مما ينقض ذلك الزعم أنه قد صحّ الخبر أنه لما بُويع أبو بكر بالخلافة جاء أبو سفيان إلي علي و حّرضه على أبي بكر فأبى عليه و زجره[3] .
و ثالثا إن في هذه الرواية تناقضا ، و ذلك أنها زعمت أن عليا اتهم الصحابة بظلمه ،و أنه خرج بزوجته يستجدي بها ،و أنه كان يصيح و يبكي و يشتكي ، ثم أنها تذكر في الأخير أنه أي علي- بايعا أبا بكر بعد 6 أشهر ، و أنه قال له : (( و الله لا نقيلك و لا نستقيلك أبدا ، قدمك رسول الله-صلى الله عليه و سلم- لتوحيد ديننا ، من ذا الذي يؤخرك لتوجيه ديننا ؟ ))[4] ؛ فإذا كان هذا هو موقفه من أبي بكر و خلافته ، فلماذا كل ذلك الإنكار و الامتناع ، و الصراخ و البكاء ،و العناد و الاتهامات ،و الاستجداء لطلب الأعوان ؟ ! . ألا يدل ذلك على أن الرواية برمتها محض افتراء و بهتان ؟ .
و أما الرواية الرابعة من المجموعة الرابعة- التي رواها البخاري و مسلم و نصّت على أن علي بن أبي طالب لم يبايع أبا بكر إلا بعد 6 أشهر ، فهي رواية صحيحة الإسناد ، لكن متنها يخالف الرواية الصحيحة- الثانية من المجموعة الثالثة- التي نصت على أن عليا بايع أبا بكر يوم البيعة العامة ، لذا فلابد من إزالة هذا الإشكال للجمع بين الروايتين .
لكن قبل الجمع بينهما أذكر طائفة من الشواهد التاريخية الصحيحة تزيد الرواية الثانية من المجموعة الثالثة - التي نصت على بيعة علي لأبي بكر يوم البيعة العامة - تزيدها قوة و رجحانا ، أولها إنه قد صحّ الخبر أنه بعد وفاة الرسول-عليه الصلاة و السلام- بليال صلى أبو بكر صلاة العصر و معه علي ابن أبي طالب ، فلما انقضت الصلاة خرجا يمشيان معا ، فوجدا الحسن بن علي يلعب مع الأولاد في الطريق ، فحمله أبو بكر و قال : (( يا بابي شبه النبي ، ليس شبيها بعلي )) ،و علي يضحك[5] . فهذه الحادثة جرت بعد ليال من وفاة رسول الله ، و لم تحدث بعد ستة أشهر ، فلو كان علي بن أبي طالب مخاصما لأبي بكر و غير مبايع له ، لأعتزله ،و لما وُجدت هذه العلاقة الأخوية الحميمة ، فهما : يصليان معا ،و يمشيان معا ،و يمزحان معا.
و الشاهد الثاني هو أنه صحّ الخبر[6] أن بعد شهرين و أيام من وفاة الرسول-عليه الصلاة و السلام- خرج أبو بكر الصديق إلى بلدة ذي القصة -بضواحي المدينة المنورة -، شاهرا سيفه لمحاربة المرتدين ، فاعترضه بعض الصحابة و نصحوه بالرجوع إلى المدينة على أن يتولوا هم المهمة ، فكان من بينهم علي بن أبي طالب ، فأخذ براحلة أبي بكر و قال له : إلى أين يا خليفة رسول الله ، أقول لك ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم- يوم أحد : لَم سيفك ، و لا تفجعنا بنفسك ، و أرجع إلى المدينة ، فوالله لئن فُجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا ، فسمع منه و رجع[7] .
فهذا الخبر دليل قوي على مبايعة علي لأبي بكر في حياة زوجته فاطمة ، أي قبل 6 أشهر ، فهو قد خاطبه بالخلافة ، و أظهر حبه العميق له . و أيُعقل أن يكون علي منكرا لخلافة الصديق ،و مخاصما له ، ثم يصدر منه ذلك الفعل ؟ ، أوليس من صالحه-إن كان لم يُبايع- أن يترك أبا بكر يخرج للقتال لعله يُقتل ليتخلّص منه ؟ ، لكنه فعل عكس ذلك فدل على مبايعته لأبي بكر و حبه العميق له .
و الشاهد الثالث هو أنه لما تُوفي الرسول-عليه الصلاة و السلام- ذهب العباس و فاطمة-رضي الله عنهما- إلى أبي بكر الصديق يطلبان منه ميراثهما من رسول الله ، و هو : أرضه من فدك ،و سهمه من خيبر ، فاعتذر و قال لهما أنه سمع النبي عليه الصلاة و السلام- يقول : (( لا نورث ما تركناه صدقة،و إنما يأكل آل محمد في هذا المال ))[8] . فذهابهما إليه طلبا للميراث دليل على أنهما يعترفان به خليفة للمسلمين .
و الشاهد الرابع هو أنه رُوي بإسناد جيد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه-لما بايعه الناس بالخلافة ، خطب فيهم و قال لهم: إنه لم يكن حريصا على الإمارة و لا سألها ، فقبل الناس منه ، و تدخل علي و الزبير رضي الله عنهما- و قالا (( ما غضبنا إلا أنا أُخرنا عن المشورة ،و أنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها ،و أنه لصاحب الغار ،و أنا لنعرف شرفه و خيره ، و لقد أمره رسول الله-صلى الله عليه و سلم- أن يصلي بالناس و هو حي ))[9] . فكلامهما هذا يدل على أنهما غضبا بعض الشيء عندما لم يحضرا بيعة أبي بكر في السقيفة ، لأنهما كانا غائبين ككثير من الصحابة ، لكنهما مع ذلك قد بايعا أبا بكر في البيعة العامة ، و اعترفا له بالفضل و الخيرية ،و أنه أحق الصحابة بالخلافة .
و الشاهد الخامس هو أنه رُوي-بإسناد صحيح- أنه لما بُويع أبو بكر بالخلافة ذهب أبو سفيان بن حرب إلى علي بن أبي طالب ، و قال له : ما بال هذا الأمر- أي الخلافة- في أقل قريش قلة و أذلها ذلا أي قبيلة تيم التي ينتمي إليها الصديق- ، و الله لئن شئت لأملأنها عليه أي على أبي بكر- خيلا و رجالا ، فقال له علي : لطالما عاديت الإسلام و أهله يا أبا سفيان ، فلم يضره ذلك شيئا ، إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا[10] . فهذا الخبر فيه دلالة واضحة على أن عليا لم يكن رافضا لخلافة أبي بكر ، و أنه بايعه عندما نهر أبا سفيان و قال له : إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا ؛ فلو كان رافضا للبيعة ،و معتقدا أن أبا بكر اغتصب منه الخلافة ، لتعاون مع أبي سفيان للإطاحة بأبي بكر ، و سيتعاون معهما بنو أمية و بنو هاشم ،و هم أقوى قبائل قريش ، لكنه لم يفعل ذلك و أغلظ القول لأبي سفيان . و واضح من هذه الحادثة أنها تمت مباشرة بعد مبايعة أبي بكر بالخلافة و في حياة فاطمة بنت رسول الله .
و قد نص على ذلك ابن جرير الطبري صراحة[11] ؛ مما يدل أن عليا قد بايع أبا بكر عندما بايعه الناس و لم يتخلف عن بيعته .
و الشاهد السادس هو أنه لا يوجد أي مبرر شرعي يؤيد الزعم بأن عليا امتنع عن بيعة أبي بكر أو تأخر عنها ستة أشهر ، لأن القرآن الكريم قد حسم أمر الخلافة ، فقد جعلها شورى بين المسلمين ،و رسول الله عليه الصلاة و السلام- تُوفي و لم يوص لأحد من بعده وصاية أمر و إلزام ، كما أنه قد صح الخبر أن علي بن أبي طالب ، كان يقول : خير الناس بعد الرسول-صلى الله عليه و سلم- أبو يكر و عمر .و قال : إن النبي عليه الصلاة و السلام- لم يعهد لنا في الإمارة شيئا[12] . فهل يصح بعد هذا أن يُقال أن عليا امتنع من بيعة أبي بكر ، أو تأخر عنها 6 أشهر ؟ .
و الشاهد السابع هما خبران لا إسناد لها ، أذكرهما كدليلين ضعيفين مساعدين يتقويان بالشواهد الصحيحة السابقة و يندرجان فيها ، أولهما إنه عندما ارتدت العرب علي إثر وفاة رسول الله- و أرسل أبو بكر جيش أسامة إلى شمال الجزيرة العربية ،و قلّ الجند بالمدينة المنورة ، و طمع فيها كثير من الأعراب و راموا الهجوم عليها ، عين أبو بكر على مداخل المدينة حراسا يبيتون بالعساكر لحمايتها ، فكان من بين الذين عينهم حراسا : علي بن أبي طالب ،و الزبير بن العوام ،و طلحة بن عبيد الله ،و سعد بن أبي وقاص،و عبد الرحمن بن عوف[13] رضي الله عنهم- ، فهل يُعقل أن يكون علي و الزبير من بين قادة أبي بكر المُعينين ،و هما لم يُبايعانه و لا يعترفان بشرعية خلافته ؟ . أفلا يدل وجودهما من بين حراس أبي بكر ، على أنهما بايعاه و كانا في خدمته ،و أنه كان يثق فيهما ،و أنهم كلهم كانوا إخوة متحابين متعاونين .
و الخبر الثاني هو أنه رُوي أن أبا بكر الصديق لما ارتد العرب و طلبوا منه إعفائهم من دفع الزكاة ،و رفض مطلبهم ، أستشار كبار الصحابة في أمر هؤلاء ، فكان منهم : عمر بن الخطاب ،و علي بن أبي طالب ،و طلحة بن عبيد الله ،و الزبير بن العوام رضي الله عنهم فقالوا له : نعم نقبل منهم ذلك . لكنه عارضهم و أصر على قتالهم و رفض طلبهم[14]. هذه الحادثة كانت مباشرة بعد وفاة النبي-عليه الصلاة و السلام- و مبايعة أبي بكر ، فلو كان علي و الزبير مخاصميّن له و رافضين لخلافته ، لاعتزلاه و ما كانا من بين مستشاريه .
و بذلك يتبيّن لنا من تلك الشواهد أن عليا لم يتخلّف عن بيعة أبي بكر و لم يكن رافضا لخلافته ، و إنما كان من المعترفين بخلافته و من محبيه و مستشاريه ،و من كبار رجال دولته .
و أما رواية البخاري و مسلم الرواية الرابعة من المجموعة الرابعة- التي نصّت على أن عليا تخلّف عن بيعة أبي بكر ، و لم يُبايعه إلا بعد ستة أشهر- على إثر وفاة زوجته فاطمة فهي رواية لا تناقض ما قلناه إذا ما أزلنا ما فيها من إشكال و التباس و غموض .
أولا إن في هذه الرواية إدراجا لكلام الشهاب الزهري أحد رواة الخبر- في متن الرواية دون إشارة لذلك ،فأصبح كلامه جزءا منها ؛ و الدليل على ذلك أن الرواية نفسها رواها الطبري في تاريخه و أبو عوانة في مسنده ،و عبد الرزاق الصنعاني في مصنّفه ، و ذكروا أن الزهري-أثناء روايته للخبر- سأله رجل: هل علي لم يُبايع أبا بكر إلا بعد 6 أشهر ؟ ، فقال له : نعم و لا أحد من بني هاشم بايعه ، حتى بايعه علي[15] . فهذه الزيادة المقحمة في الخبر ليس لها إسناد ،و لا يٌعد الإسناد الأصلي إسنادا لها ؛ و مما يُؤكد ذلك أن الرواية نفسها رواها أحمد بن حنبل دون أن يذكر تلك الزيادة المقحمة[16] . و ضعّفها الحافظ أبو بكر البيهقي ،و قال أنها زيادة لم يُسندها الشهاب الزهري[17] . فهي إذا رواية مرسلة[18] ،و من المعروف عند المحدثين أن الشهاب الزهري كان كثير الإرسال ،و أن مراسيله كالريح ليست بشيء[19] .
و ثانيا أننا إذا حذفنا من رواية البخاري و مسلم الزيادة المُقحمة- أي المدرجة- تصبح تشير بوضوح إلى أن سبب الخلاف بين علي و أبي بكر رضي الله عنهما- ليس هو الخلافة و البيعة ،و إنما هو قضية الميراث ، لذا قال أبو بكر لعلي: (( و أما الذي شجر بيني و بينكم من هذه الأموال ، فلم آل فيها عن الخير ،و لم أترك أمرا رأيتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم- يصنعه فيها إلا صنعته )) . لكنها-أي الرواية بلا زيادة- أشارت إلى أن عليا بايع أبا بكر في المسجد ، فما تفسير ذلك ؟ أجاب عن ذلك الحافظ ابن كثير ، فذكر أن عليا بايع أبا بكر مرتين ، و أن بعض الرواة لم يفهموا ذلك و اعتقدوا أن (( عليا لم يُبايع قبلها أي بالبيعة الأولي- فنفى ذلك ، و المُثبت مُقدم على النافي ، كما تقدم و لما تقرر )) ، ثم أكد على أن عليا بايع أبا بكر في أول يوم أو في الثاني من وفاة رسول الله عليه الصلاة و السلام- لأنة-أي علي- لم يٌفارقه في وقت من الأوقات ،و لم ينقطع في الصلوات خلفه ،و خرج معه إلى ذي القصة لمحاربة المرتدين ، لكن بسبب الميراث و غضب فاطمة من أبي بكر ، راعى علي خاطرها بعض الشيء ، فلما تُوفيت بعد 6 أشهر من وفاة رسول الله عليه الصلاة و السلام- رأى أي علي أن يجدد البيعة لأبي بكر كما هو وارد في الصحيحين[20] .
و ثالثا إن مما يٌؤيد ما قاله ابن كثير أن الحافظ ابن حجر العسقلاني وافقه فيما قاله عن بيعة علي لأبي بكر[21] .و أنه سبق و أن أوردنا طائفة من الشواهد التاريخية الصحيحة التي نصت على أن علي بن أبي طالب بايع أبا بكر منذ الأيام الأولى من بيعة السقيفة و لم يتخلف عن بيعته طويلا ، ثم بعد هذه البيعة جدد له البيعة ثانية بعد 6 أشهر . و بذلك يتبين مما سبق ذكره- أن عليا-رضي الله عنه- لم يكن يعتقد أنه هو الخليفة الشرعي بعد رسول الله ،و لم يكن رافضا لخلافة أبي بكر الصديق ، و قد بايعه طواعية من دون إكراه منذ البيعة العامة ، و أن التباطؤ الذي ظهر منه و من الزبير بن العوام سببه الغضب عندما فاتتهم المشورة يوم السقيفة ، التي فاتت كثير من الصحابة أيضا .
و بذلك يتبين مما سبق ذكره- أن عليا-رضي الله عنه- لم يكن يعتقد أنه هو الخليفة الشرعي بعد رسول الله ،و لم يكن رافضا لخلافة أبي بكر الصديق ، و قد بايعه طواعية من دون إكراه منذ البيعة العامة ، و أن التباطؤ الذي ظهر منه و من الزبير بن العوام سببه الغضب عندما فاتتهم المشورة يوم السقيفة ، التي فاتت كثيرا من الصحابة أيضا .
________________________________________
[1] انظر: ابن أبي حاتم : الجرح و التعديل ، ج 2 ص: 129، 130 . العقيلي: الضعفاء، ج 2 ص: 273 .و الذهبي: المغني في الضعفاء، ج 1 ص: 345 .
[2] سنذكر قريبا بعض أقواله .
[3] السيوطي: تاريخ الخلفاء ، ص: 67 .
[4] ابن قتيبة : الإمامة و السياسة ، ج1 ص: 24-25 . و أشير هنا إلى أن هذا الكتاب منسوب لابن قتيبة الدينوري(ت276هجرية) ، و نسبته إليه غير ثابتة و الأرجح أنه منحول عليه ،و مؤلفه مجهول.
[5] احمد بن حنبل : المسند ، ج 1 ص: 8 . و البخاري : الصحيح ، ج 3 ص: 1036 ، 1370 .
[6] رواه الدارقطني و رجاله : عبد الله بن عمر ،و سعيد بن المسيب ،و الشهاب الزهري ، و هؤلاء كلهم ثقات ،و أما عبد الوهاب بن موسى الزهري ، فهو أيضا ثقة . انظر : ابن حجر : لسان الميزان ، ج 4 ص: 91 .و رواه أيضا زكريا الساجي ، ورجاله : عائشة أم المؤمنين ،و عروة بن الزبير ،و هشام بن عروة ،و عبد الوهاب بن موسى الزهري ، و هؤلاء كلهم ثقات ،و أما أبو الزناد عبد الله بن ذكوان ، فهو أيضا ثقة . انظر : ابن أبي حاتم : الجرح و التعديل ، ج 5 ص: 49 .
[7] ابن كثير : البداية ، ج 6 ص: 707 .و السيوطي : تاريخ الخلفاء ، ص: 75 .
[8] مسلم : الصحيح ، ج 3 ص: 1381 .و أحمد : المسند ، مسند أبي بكر ، رقم الحديث : 55 .
[9] ابن كثير: المصدر السابق، ج 5 ص: 262 .و الذهبي: الخلفاء الراشدون ، ص: 8 . و الحاكم : المستدرك ، ج 3 ص: 70 .و البيهقي: السنن الكبرى ، ج 8 ص: 152 .
[10] السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص: 67 .
[11] تاريخ الطبري، ج 2 ص: 137 .
[12] عبد الله بن أحمد بن حنبل: السنة ، ج 2 ص: 570، 578 .و أبو بكر الخلال : السنة ، الرياض، دار الراية، 1410ج 1 ص: 289، 291 .
[13] ابن كثير: البداية ، ج 6 ص: 702 .و ابن الجوزي: المنتظم ،حققه عبد القادر عطا، ط1 بيروت، دار الكتب العلمية، 1992 ج 4 ص: 75 .
[14] ابن الجوزي: نفس المصدر، ج 4 ص: 74، 75 .
[15] انظر : تاريخ الطبري،ج 2 ص: 236، 237 .و مسند أبي عوانة ،ط1 بيروت، دار المعرفة، 1998 ج 4ص: 251 .و مصنف عبد الرزاق، ط2، بيروت، المكتب الإسلامي، 1403ج 5 ص: 473 .
[16] فضائل الصحابة ، ط1 بيروت، مؤسسة الرسالة، 1983 ج 1 ص: 362 .
[17] ابن حجر: فتح الباري ، بيروت ، دار المعرفة، 1379 ه ج7 ص: 494-495 .
[18] أي أنه أرسلها و أطلقها و لم يكن شاهد عيان لها ،و لم يذكر لنا من الذي رواها و كان شاهد عيان فيها . و المرسل في علم مصطلح الحديث هو الحديث الذي سقط منه الصحابي ، كأن يقول التابعي مباشرة : قال رسول الله . محمود الطحان: تيسير مصطلح الحديث، الجزائر ، دار رحاب د ت ، ص: 70 .
[19] أبو سعيد العلائي: جامع التحصيل ، ط2 بيروت، عالم الكتب، 1986 ج 1 ص: 37، 99 .
[20] ابن كثير: البداية، ج 5 ص: 262 ، 286 .
[21] فتح الباري ، ج 7 ص: 494-495 .
المصدر: موقع الالوكة.