• ×

وقفات حول كتاب (العصبية القبلية من المنظور الإسلامي)

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

وقفات حول كتاب (العصبية القبلية من المنظور الإسلامي)
عبدالله بن علي بن محمد العسكر

إن لله سبحانه وتعالى خلق الخلق في هذه الحياة الدنيا للإبتلاء والامتحان فمن صبر فقد أفلح ونجح، ومن تضجّر فقد خاب وخسر والله سبحانه جعل الناس في هذه الدنيا متفاوتي الأذواق مختلفي الوجهات متنوعي الأنساب (إن سعيكم لشتى)(1) فمنهم من جعله مسؤولا وسيحاسبه عن مسؤوليته سواء كان حاكماً أو محكوماً، قاضياً أو متخاصماً، غنياً كان أو فقيراً سيداً أو مسوداً وكل سيسأل عن عمله يوم القيامة.

قال ابن حزم:-

(فقد جعل تعارف الناس بأنسابهم غرضاً له تعالى في خلقه إيانا شعوباً وقبائل فوجب بذلك أن علم النسب علم جليل رفيع إذ به يكون التعارف وقد جعل جزءاً منه تعلمه لا يسع أحداً جهله، وجعل تعالى جزءاً يسيراً منه فضلا تعلمه، يكون من جهله ناقص الدرجة في الفضل، وكل علم هذه صفته فهو علم فاضل، لا ينكر حقه إلا جاهل أو معاند، فأما الفرض من علم النسب، فهو أن يعلم المرء أن محمداً صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى إلى الجن والإنس بدين الإسلام، هو محمد بن عبدالله القرشي الهاشمي، الذي كان بمكة ورحل منها إلى المدينة، فمن شك في محمد صلى الله عليه وسلم - أهو قرشي- أم يماني، أم تميمي، أم أعجمي، فهو كافر غير عارف بدينه، إلا أن يعذر بشدة ظلمه الجهل، ويلزمه أن يتعلم ذلك ويلزم من صحبه تعليمه أيضاً)(2) ثم قال رحمه الله:

(ومن الفرض في علم النسب أن يعرف الإنسان أباه وأمه وكل من يلقاه بنسب في رحم محرمة يجتنب ما يحرم عليه من النكاح فيهم، وأن يعرف كل من يتصل به برحم توجب ميراثاً أو تلزمه صلة أو نفقة أو معاقدة أو حكماً فمن جهل هذا فقد أضاع فرضاً واجباً عليه لازماً له من دينه)(3)

ثم قال رحمه الله: (فإن لم نعرف أنساب الأنصار، لم نعرف إلى من نحسن ولا عمن نتجاوز وهذا حرام، ومعرفة من يجب له حق في الخمس من ذوي القربى ومعرفة من تحرم عليهم الصدقة من آل محمد صلى الله عليه وسلم ممن لا حق له في الخمس ولا تحرم عليه الصدقة وكل ما ذكرنا فهو جزء من علم النسب) (4) فبهذا يتبين أن معرفة الإنسان لنسبه ومحافظته عليه مندوباً إليه في الشرع، كما ورد في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال منسأة في الأجل مرضاة للرب) والشرع جعل للقبائل فضلاً وميزة بما عملت، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أفخاذ الأنصار رضي الله عنهم ففاضل بينهم، فقدم بني النجار ثم بني عبدالأشهل ثم بني الحارث بن الخزرج، وذكر بني تميم وبني عامر بن صعصعة وأخبر أن مزينة وجهينة وأسلم وغفاراً خير منهم يوم القيامة، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن بني العنبر بن عمرو بن تميم من ولد إسماعيل، ونسب الحبشة إلى أرفدة، ثم لما نزل قوله تعالى: ((وأنذر عشيرتك الأقربين))(5) نادى قريشاً بطناً بطناً ولو أنه عليه الصلاة والسلام رأى أن في مناداة قريش بأفخاذها تفرقة وسوءاً، لاكتفى عليه الصلاة والسلام بمناداتهم بالقبيلة الأم وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أعلم الناس بالأنساب وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه حينما أرسل هجاءه على الكفار، أمره أن يأخذ ما يحتاجه من علم الأنساب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكذلك كان عمر وعثمان وعلي وجبير بن مطعم رضي الله عنهم علماء في الأنساب.

كتبت ما مضى بعدما قرأت كتاباً للأخ العزيز والجار السابق الكريم د. خالد بن عبدالرحمن الجريسي جعل عنوانه (العصبية القبلية من المنظور الإسلامي) يقع في مائة وثمانين صفحة طبعته الأولى عام 1427ه، ووزع بإسراف منذ صبيحة يوم عيد الفطر المبارك 1427/10/1ه وبآلاف مؤلفة وكان الأجدر بالأخ الكريم ألا يتعجل بالكتابة في هذا الموضوع وأن يتريث وقتاً كثيراً في إخراجه حتى يجمع النصوص ويقارن بينها، وأن يناقش الأدلة من جميع الوجوه، من الإيجاب والمنع.

وإن مما حداني تكرارا على الكتابة ما قاله الأخ د. خالد في صفحة (31) (علمنا أن الأوعية الاجتماعية - القبائل والأنساب، كان كثير منها مبنياً على أساس غير صحيح، يدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (أخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح) وأن سلامة الأنساب وطهارتها لم تتضح ولم تكتمل إلا بالإسلام والإلتزام به، وعلمنا يقيناً أن الافتخار بالأنساب إنما هو دعوى جاهلية محضة).

ولي مع الأخ خالد في هذا النص وقفات:

(أ) ما هو الدليل القاطع الذي استند إليه بأن كثيراً من القبائل والأنساب مبني على أساس غير صحيح، فلعل دليلك ما ذكرته في الصفحة السابقة بأن عائشة أخبرت عروة رضي الله عنهما بأن النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء، وهذا ليس دليل على الأكثر ولكنه دليل على التنويع.

(ب) هل ورد نص صريح على أن أنساب الجاهلية ساقطة وأنها لا يثبت بها الانتساب، أكاد أجزم أن ليس هناك دليل وأعوذ بالله أن يثبت، وإلا فلماذا نسب الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وقال:-

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبدالمطلب

فأنت تعلم أخي خالد أن عبدالمطلب مات جاهلياً، فلو كان في نسبه شك لما افتخر الرسول به، ولذلك كل أصحابه على اختلاف أهل السير في تعدادهم ينسبون إلى آبائهم وأجدادهم الجاهليين.

(ج) المحرم في الشرع الفخر بالأحساب، أما معرفة النسب فلم يمنع من معرفته والسؤال عنه (ولكن الإسلام لم يجعل الأنساب ما كان لها من شأن في الجاهلية من حيث المفاخرة بها، بل جعل التقوى مفخرة للإنسان (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فحلت التقوى محل حمية الجاهلية وفخرها بالآباء، وأصبح الأكرم هو الأتقى، ولكن ذلك لم يمنع المسلمين الأولين من الافتخار بأنسابهم والحفاظ عليها، حتى أن الرسول الكريم الذي نادى في خطبة الوداع (إن مآثر الجاهلية موضوعة ألا فلتذهب نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء) كان نفسه حريصاً على حفظ الأنساب ولذلك قال: أنا ابن عبدالمطلب، وكان يفخر بقومه فيقول (نحن بنوا النضر بن كنانة) ثم يذكر صلى الله عليه وسلم بأن الله جعل العرب بيوتاً (فجعلني في خيرهم بيتاً) بل كان يخشى أن يلوث نسبه، فقد استأذنه حسان في هجاء المشركين فقال له: كيف بنسبي قال حسان لأسلنك منهم كما يسل الشعر من العجين، ورغم هذه الدعوة الصريحة التي جاء بها القرآن، إلى الافتخار بالتقوى فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حض على تعلم الأنساب وحفظها فقال: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم) فجعل غاية التعلم صلة الأرحام وليس التفاخر بالأحساب، ودعا إلى التمسك بها والابتعاد عن ادعائها، فقال صلى الله عليه وسلم (ليس رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر بالله، ومن ادعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوأ مقعده من النار) فكان الناس في صدر الإسلام يتعلمون الأنساب كما يتعلمون الفقه)(6)، وكانوا إذا قصدوا سعيد بن المسيب للتفقه في الدين، قصدوا عبدالله بن ثعلبه ليأخذوا عنه الأنساب، كما ذكره ابن عبدالبر في الانباه)

فالاعتبار بالقبائل والفخر بالانتساب إليها كان معمولاً به في العهد النبوي، فكان صلى الله وسلم يوزع الجيش على حسب القبائل فيجعل الميمنة لقبيلة كذا والميسرة لقبيلة كذا وهو من باب التحفيز وشحذ الهمم، (وما فرض عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم الديوان إذ فرضوه إلا على القبائل، ولولا علمهم بالأنساب ما أمكنهم ذلك) (7) وقد استمر العرب في حفظهم لأنسابهم في عهد بني أمية بل وليس ذلك قاصراً على الإنسان بل نجد ذلك واضحاً في تنسيبهم لخيلهم ولإبلهم بل ومزروعاتهم ولهم في ذلك أشعار وآثار معروفة، أما في عهد بني العباس فقد اتسعت رقعة بلاد الإسلام، وانتشر في بلاد أهلها من ليس من العرب واختلط من صفا نسبه من العرب الفاتحين بكثير ممن لا نسب لهم من الأعاجم، وظهرت بتأثير العناصر غير العربية كالفرس والعناصر ذات الدين النصراني أو اليهودي أو التي لا نسب لها ظهرت نزعة الحط من شأن العرب وتعداد عيوبهم وذكر مثالبهم، وأرجو الأخ خالد أن يتسع صدره لبعض الملحوظات:- (1)استشهاده وفقه الله بحديث (تنكح المرأة لأربع) كما في ص (95) على أن المقصود هو الدين ولا اعتبار للأمور المذكورة في الحديث، وهذا غير صحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته فاطمة بنت قيس عن معاوية وعن أبي الجهم لما خطباها قال: (أما معاوية فصعلوك لا مال له) فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتبر المال هنا، فكيف نقول إنه لا عبرة إلا بالدين فقط دون نظر إلى الصفات الأخرى، ولم يسقط الرسول صلى الله عليه وسلم المرغبات إلى المرأة من حسب وجمال ومال، لكنه بين أن الدين من أفضل المرغبات حينما قال (فاظفر بذات الدين تربت يداك).

(1) استشهد الأخ خالد في عدة مواضع بتزويج النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة من زينب جحش بنت عمه صلى الله عليه وسلم على أن الكفاءة في النسب ليست شرطاً، لكن هذا الشاهد منقوض عليه، فهو استدل بزيد بن حارثة على أن بعض الناس أصابه الرق عرضاً وإلا فله نسب معروف، فما دام زيد معروف النسب وإنما أصابه شيء في الجاهلية واشتراه حكيم بن حزام لخديجة، وخديجة وهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم زوجه من بنت عمه لأنه يعرف أن له نسباً شريفاً، فالخلاصة أن قصة زيد لا يصح الاستدلال بها في هذا الموضع على كل الوجوه.

(2) تمنيت لو أن المؤلف وضع الاستبانة التي قام بتوزيعها على مجموعة محددة من الناس لو وضعها كاملة في الكتاب حيث ظهر لي من خلال ما ذكر منها أنها غير دقيقة، فكم نسبة للشعب العربي وضع الاستبيان، وفي أي منطقة، وهل نتائج الاستبيان تعتبر قطعية الدلالة. ولننظر فقد ذكر الأخ خالد في ص (91) سؤاله في الاستبانه عن أسباب انتساب بعض الأسر إلى غير القبائل وذكر من بين خيارات الإجابة أن من الأسباب هو الزواج من امرأة غير قبيلية. وهذا الجواب ليس سبباً بل هو نتيجة من نتائج التعصب القبلي الذي يحذر منه المؤلف، ولو اعتبرناه سبباً للزم منه (الدور) كما في عرف الأصوليين، وهذا ما يظهر لي أنه قد تكون هذه الاستبانة غير دقيقة.

(3) عد الأخ خالد في مؤلفه الكفاءة في النسب من أكثر مظاهر العصبية شيوعاً وعنف في ذلك كثيراً، ولكنني أدعو المؤلف إلى الرجوع إلى كتب الفقه في المذاهب الأربعة كلها، ليرى أن الشرط معمول به في غالب المذاهب، وبنيت عليه أحكام في فسخ النكاح إذا لم يرض أحد الأولياء بالتفاوت في النسب بين الزوج والزوجة وغير ذلك، وكان الجدير بالأخ خالد أن يحقق القول في هذه المسألة ويطيل البحث فيها ويقارن بين الأدلة، دون تجن على ما عليه عمل جمع كبير من أهل العلم.

(4) لماذا لم يتطرق الأخ خالد لبعض الشعائر التي اعتبر فيها النسب أساساً في التقديم، كاعتبار الشرف عند قسم الغنائم، والتفريق بين ذي النسب وغيره في الدية والقصاص وفي أمور كثيرة.

(5) هو يذكر في ثنايا كتابه جملاً كثيرة مفهومها أن القبلية هي سبب الفرقة بين المسلمين وسبب التناحر، وهذا فيه تجن كبير وظلم عظيم، فالمسلمون قبيليهم وغير قبيليهم وأن اجتمعوا في اللحمة والنسب كما يرجوه الأخ خالد، لديهم أسباب كثيرة فرقتهم من اتباع المذاهب الضالة والنحل الخبيثة.

(6) الأخ خالد ذكر مساوئ للعصبية القبلية، وياليته حينما ذكر ذلك ذكر محاسن القبلية المحمودة، ومنها أن الإنسان ربما يهم بعمل مخالف للمروءة في مكان خال حينما يغره الشيطان فمتى ما ذكر أن قبيلته ستعاتبه وتعيب عليه توقف حالاً، ومنها أنها دعم للإنسان وسند في الملمات، فإذا ما وقعت عليه دية أو تحمل غرامة ولديه عشيرة مباركة تحملت عنه أو ساعدته، ومنها أن العقلاء في القبائل إذا رأوا أن قبيلتهم ستذهب إلى مهاوي الردى نزعوها من تلك الأماكن وخاصة إذا عاش الناس في غربة، فلقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء). ورواه أحمد من حديث ابن مسعود وفيه: من الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل والذين يصلحون إذا فسد الناس).

(7) الأخ خالد يتأوه كثيراً من العصبية القبلية في البلاد ومن قرأ كلامه، ظن أن بلادنا فيها من عنصرية (بريتوريا) أو عزلة (الهنود الحمر) في الولايات المتحدة، مع أن الواقع يخالف ما ذكره، فغير القبيليين فيهم الوزراء والعلماء والتجار ومنهم أهل الحل والعقد ولهم منزلة في المجتمع وكل منهم يسمع، أرجو أنني قد وفقت في مناقشتي للأخ خالد في كتابه (العصبية القبلية من المنظور الإسلامي) والذي حتم عليّ معرفته باتساع صدره لقبول الرأي الآخر، راجياً من الله عز وجل أن يجنبني وإياه وبلادنا شر القبلية المتعصبة والشعوبية القادمة الظالمة، وللقارئ الكريم تحيتي.


الهوامش

1- الآية رقم 4من سورة الليل.

2-3- 4جمهرة أنساب العرب لأبي محمد علي بن حزم الأندلسي. تحقيق عبدالسلام هارون، الطبعة السادسة، دار المعارف المصرية.

5- الآية رقم 214من سورة الشعراء.

6- طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب، تأليف السلطان الملك الأشرف عمر بن يوسف بن رسول، الطبعة الأولى عام 1422ه، دار الآفاق العربية المصرية.

7- ابن حزم. أنظر رقم (2)

المصدر: صحيفة الرياض.

بواسطة : hashim
 1  0  7473
التعليقات ( 1 )

الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    21-07-33 07:45 صباحًا الشريف إبراهيم بن داود الذروي :
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة

    أجدت والله الرد و أعنت أخاك وقد تسبب هذاالكتاب بالكثير من النزعات والإشكالات التي نحن فب غني عنها
    أمل أن يقراء د خالد ماكتبته ويعيه بقلبه
    أثابكم الله وجعله في موازين حسناتكم ودمتم بخير من الله
-->