• ×

التـاريخ عند الحافظ ابن أبي شيبة

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
[size=5]
التـاريخ عند الحافظ ابن أبي شيبة
إعـداد: الدكتور سليمان الرحيلي
أستاذ مشارك بقسم التاريخ والحضارة
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
مجلة الجامعة الاسلامية العدد 103 104

ملخص البحـث
عني علماء الحديث خلال القرون الثلاثة الأولى بتدوين التاريخ وذكر مروياته، وعلى رأسهم أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت 235 هـ) صاحب المصنف، سواء من خلال أبوابه كالمغازي والجهاد والفضائل أم من خلال كتبـه الأخرى كالتاريخ والجمل وصفين والفتوح التي وصلتنا مضمومة للمصنف عدا الفتوح فهو مفقود.
ويتناول هذا البحث التعريف باختصار - بأهمية المصادر الحديثية في دراسة التاريخ ثم التعريف بالمصنف وملامح عصره وذكر مؤلفاته، ثم يفصّل في دراسـة التـاريخ ومعرفة منهجه وموارده فيه، وفروعه عنده، مثل المعارك والفتوح وتواريخ المدن والأقاليم وتراجم الأعلام وآداب الحرب ومعاملة أهل الذمة, مع مقارنة بالمصادر التاريخية المبكرة ما أمكن، والإشارة إلى بعض ما انفرد به أو حفظه من الروايات التاريخية التي فقدت مصادرها أو انخرمت من الموجود منها.
والله ولي التوفيق.

مقدمــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم.
تمثل كتب المصنفات والصحاح والسنن مصدراً مهماً من مصادر التاريخ الإسلامي المبكر، فهي لا تخلو من ذكر فتح أو غزوة أو سرية أو وصف متوقف أو حادثة أو مكان أو قول خليفة أو قائد أو والٍ ترجمت له، فتزيد من التفصيل المذكور عنه في المصادر التاريخية أو تذكر صوره أخرى له موافقة فتدعمه أو فيها زيادة فتجليه أو مغايرة فتعيد النظر في دراسته والموقف منه، ولذلك فإن عدم الرجوع إليها في الموضوعات التاريخية المشتملة عليها يعد قصوراً منهجـيا في عدم استيفـاء مادتهـا، ويبقى نتـائـج دراستهـا ناقصة. وإذا كانت كتب الصحاح عنيت أخيراً باهتمام المؤرخـين والرجوع إليها، ودراسة منهجها في إيراد الحوادث التـاريخية، فإن كثيراً من المصادر الحديثية الأخرى مازالت تحتاج إلى الاهتمام نفسه من قبل المؤرخين المحدَثين، فهي مظان كبيرة لجوانب عديدة من الأحداث التاريخية المختلفة.
إن غياب المصدر الحديثي في الدراسات التاريخية الحديثة يعد قصوراً منهجياً لا مبـرر له، وقـد آن الأوان لردم ما اتسع من الفجوة وإعادة التلازم والتراحم الذي كـان قائماً بين هذين العلمين في صدر الدولة الإسلامية.
وقـد ورد أصـل الحادثة وذكرها بإجمال عند أصحاب المصنفات وجاء ذكرها بالتفصيل عند المؤرخين وقد يعود ذلك إلى أن الأولين يشترطون علواً ودقـة في الإِسنـاد أكثر من المؤرخين، وهو ما ظل يراعيه أصحاب الصحاح و تساهل فيه المؤرخون.
تم إن طبيعـة الاختصـاص اقتضت التفصيل عنـد المؤرخين واقتضت الإيجاز عند الآخرين.
وكان أبو بكر بن أبي شيبة (ت 235 هـ) علماً من أعلام المصنفين في الحـديث، وشيخـاً لِلإمامين البخاري ومسلم، وأحد رواة الصحيحين الثقاة سواء في المرويات التي أشير لها في البحث أو غيرها. و قد روىَ عنه البخاري في عدة مواضع ولا سيما في كتاب المغازي.


ولكن قليلاً من أهل الاختصاص في التاريخ بل كـثير من القراء يعرفونه مؤرخاً ومن ثم كانت مؤلفاته التاريخية المبكرة والثقة في مؤلفها وقيمة المنهج الذي اتبعه منها مصدراً مهماً لبعض المصادر التاريخية المشهورة كالبلاذري والطبري والخطيب البغدادي.
وإذا كان بعضهم سبق ابن أبي شيبة بذكر روايات تلك الحوادث أو أنها جاءت في مصادر أخرى فإن سبقه بها الكثيرين أيضاً، والثقة فيه تحتم الإفادة الكبيرة من مروياته فيها.

ولذا فإن عرض كثير من المرويات والأخبار الواردة في المصادر الأخرى على ما أورد ابن أبي شيبة، كل في موضوعه ومقارنتها سيثري الدراسة التاريخية في مجـالاتها لا من حيث القيمة المصدرية لمادتها فحسب وإنما من حيث المضمون والنتائج لها.

و عند مقارنة أهميتها التاريخية نجد أن حجم مادة الغزوات عنده يوازي تقريباً ما ورد عنها عند ابن سعد على الرغم من أن هناك غزوات لم يرو فيها ابن أبي شيبة شيئاً.

فإذا أدركـنـا اختلافـه في طرق الإِسنـاد والمتن في كثير من المـواضيع التاريخية عنِ الآخرين ولا سيما المؤرخين فإن ذلك يثرى البحث فيها، ويتيح مجالا واسعاً للمقارنة بينهما.
ورغم شهـرتـه عنـد المؤرخين الأوائل واعتمـادهم عليه فإنـه لم يحظ بالاهتمام المرجعي في الدراسات التاريخية الحديثة.
ولهذا جاءت هذه الدر اسه في محاولة للفت أنظار الباحثين المحدثين في التاريخ إلى أهمية مؤلفات ابن أبي شيبة التاريخية وضرورة تأسيهم بأسلافهم الذين أدركوا تلك الأهمية والمنزلة السامية لمؤلفها في الاعتماد عليها في كثير من فروع التاريخ وأبواب التأليف فيه.

ابن أبي شـيبة:

هو أبو بكـر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي، ولد بالكوفة سنه 159 هـ [1] ونشأ وتعلم بها، ثم رحل إلى البصرة وبغداد ومكة والمدينة [2]. وكان من بيت علم اشتهر منه أخواه عثمان والقاسم وابنه إبراهيم بن أبي بكر وابن أخيه محمد بن عثمان بن أبي شيبة [3].
ومن أشهر من تلقى العلم وروى الحديث عنهم شريح بن عبد الله القاضي وعبد لله ابن المبارك ووكيع ابن الجراح وأخوه عثمان ابن أبي شيبة، وآخرون غيرهم [4] أكثر من رواية التاريخ عنهم مثل عبد الله بن إدريس وأبي أسامة.
أما أشهر من تلقى عنه فهم الشيخان الإمام البخاري ومسلم، وأبو داود وابن ماجه، والإِمام أحمد وابنه عبد الله والإِمام إبراهيم الحربي وآخرون كثيرون [5].
ووصفه الإِمام البخاري بأنه من أقران أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين وعلي بن المديني [6]، وقال الذهبي في السن والمولد والحفظ [7].
وقـال يحي بن معين والإمـام أحمـد: إنـه صدوق [8]. ووصفـه الذهبي بالحافظ الكبير الحجة، وأن إليه المنتهى في الثقة [9]. نظراً لما عرف عنه من قوة الحفظ حتى كان فيه مضرب المثل.

عصـره:
عاش ابن أبي شيبة ما بين منتصف القرن الثاني والثالث أي في العصر العباسي الأول، وأدرك من خلفائه الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق وبداية عهد المتوكل. وكان المتوكل يقربه ضمن من قرب من علماء الدولة، وفي سنه 234 هـ ندبه في الرد على المعتزلة في قولهم بخلق القرآن، فجلس ابن أبي شيبـة يفند آراءهم في مسجد الرصافة ببغداد فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً [10]. ويدل ذلك على غزارة علمه ومكانته بين الناس حتى يحضر دروسه مثل هذا العدد.
وتوفي رحمه الله ببغداد سنة 235 هـ [11].
كما عاش ابن أبي شيبة في هذا العصر، وهو عصر نضج التدوين والتأليف في مختلف العلوم الإسـلامية، عاش فيه الأئمـة الأربعة والإمام البخاري ومسلم وعبد الله بن المبارك.. وغيرهم كثير. وهو أيضاً عصر التأليف التاريخي وآخر مراحل اتصاله بعلم الحديث بعد أن كانا صنوي نشأة ومنهج وقتاً طويلاً.
ولهذا عاصر ابن أبي شيبة عدداً من المؤرخين الذين كانوا أعلاماً وقتذاك ولكنهم اشتهروا في التاريخ أكثر من غيره إلى جانب تبريز بعضهم في علوم أخرى مثل ابن إسحاق وابن هشام وابن سعد وخليفة بن خياط وعمر بن شبة ومصعب الزبيري.
وإذا كان عصره لا يزال يمثل اتصال التاريخ بعلم الحديث ولما كان ابن أبي شيبـة من علماء الحديث، فإن كتابته للتاريخ كانت متأثرة بذلك منهجاًَ وغاية، فقد ضمن عدد من معاصريه من المحدثين كتبهم أبواباً في التاريخ حيث كانت المغـازي باباً ثابتاً في مؤلفاتهم فجاءت مثلاً عند الصنعاني في مصنفـه والبخـاري ومسلم في صحيحيهما في الوقت الذي كثر فيه التأليف التاريخي المستقل، وظهر فيه الخروج على قواعد منهج المحدثين فيما يتعلق بالدقة والتحري، وبقي فيه بعض ضوابطه كالسند وهو منحى مهم يزيد في قيمة الكتـابـة التاريخية عندما تكون في هذا الوقت من مثل هذا العلم، وحسب التاريخ أن يكتب فيه مثله.
إن الإغراض في التأليف التاريخي والتساهل في السند كان حافزاً مهماً للمحـدثين، ولبعض المؤرخين، لكتابة التاريخ على منهج تدوين الحديث والإبقاء عليه، مثلما فعل الطبري في تاريخه فيما بعد.
وعلى الرغم من استقرار منهج المحدثين رواية ودراية في علمهم وقتذاك، إلا أنـه في تدوين التـاريخ لم يكن بنفس القـوة والتطبيق، فقـد شاح عنـه المؤرخون منذ ذلك الوقت وتحففوا منه ثم تركوه في العصور التالية.
ولكن بقي بعض المحدثين خلال القرن الثالث يعقلون به تدوين التاريخ وعلى رأسهم ابن أبي شيبة.

مـؤلفاتـه:
ألف ابن أبي شيبة عدداً من الكتب, هي كتاب السنن في الفقه، وكتاب التفسير، وكتاب المسند في الحديث [12].
ولم يذكر المتقدمون مثل النديم صاحب الفهرست والخطيب البغدادي أن له كتاباً اسمه المصنف في الحديث بينما ذكره المؤرخون كابن كثير [13] وحاجي خليفة [14] و إسماعيل البغدادي [15].
حتى أن النديم لم يذكر كتاباً لأي مؤلف بهذا الاسم، وأكـثر من ذكر أسماء الكتب المتفقة مع مؤلفاته هذه في الاسم بما فيها المسند سواء لعلماء سبقوه أو عاصروه، ومناقشة ذلك خارج هذا الموضوع.
أما مؤلفاته التاريخية، فيذكر النديم إنها كتاب التاريخ، وكتاب الفتن، وكتاب صفين، وكتاب الجمل، وكتاب الفتوح. ولـم يذكر الخطيب البغدادي شيئاً منها.
وكانت موضوعاته من أغراض التأليف المهمة في التاريخ، وقد ألف فيها الكثير مثـل أبي مخنف (ت 157هـ) [16] والواقدي (ت 207 هـ) [17] ونصر بن مزاحم المنقري (ت 212 هـ) [18] وعلي بن محمد المدائني (ت 225 هـ) [19] وعمر بن شبة (ت 262 هـ) [20].
أما من المحدثين فقد ضمن كل من الصنعاني والبخاري ومسلم مؤلفاتهم أبواباً في التاريخ كالمغازي والسيرة النبوية ولكنها تقل عدداً عما ورد عند ابن أبي شيبه.
وقد اشتمل كتابه المصنف في الحديث على كتبه التاريخية السابقة [21] أو هكـذا وصلتنـا والسؤال هل كان كل واحـد منها كتاباً مستقلاً، ثم ضمت إلى المصنف وأصبح الرجوع إليها يتم من خلاله.
ولما كان عددها يبلغ خمسة كتب بعضها في حجم مجلد صغير وآخر متوسط فإنه يصعب قبول أن تكون أبواباً في المصنف لاسيما وأن النص واضح من قبل أن ابن أبي شيبة نفسه على تسميتها بالكتب وأن بعضها يتألف من عدة أبواب.

وإذا كان كتـابـا الفتن والمغازي هي ما تشتمل عليه كتب الحديث في الغـالب على غرار مصنف الصنعـاني والصحيحين مثـلا، فإن كتب صفين والجمل والتاريخ والفتوح هي مما لم يألفه التأليف الحديثي ومن ثم عدم اشتماله على هذه المؤلفات كتباً أو أبواباً.

كذلك جاء في ترتيب كتاب التاريخ عنـد ابن أبي شيبـة قبـل كتاب المغـازي، وهذا خلاف التسلسل الزمني والسياق الموضوعي للأحداث ولا أخال إلا أنه مقتحـم بين كتاب الجهاد وكتاب المغازي. واتصال الكتابين يتطلب تتـابعهما بدون فصل على غرار ورودهما كذلك عند الصنعاني في مصنفه، ولكن قد يكون ذلك ومن خطأ أحد النساخ، لكنه يدعم أن كتاب التاريخ كان مستقلاً عن المصنف ثم وضع إليه في أحد العصور.

كـما أن إشارة النديم بأن له كتاباً اسمه الفتوح, وهو ما تؤكـده دلالة كثرة التأليف فيه خلال القرن الثالث ولم يصلنا باباً أو كـتاباً مضموماً إلى المصنف مما يدعم أن كتبه التاريخية كانت مستقلة على الأرجح.

ويظهر أن كتاب الفتوح ليس الكتاب التاريخي الوحيد المفقود للمؤلف وإنما له مرويات من كتب أخرى مفقودة، فقد أورد البلاذري روايتين منقولة عن ابن أبي شيبة تتعلقان بوفاة فاطمة وسعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهما- [22] وسياقهما ما بين كتابين الفضائل والتاريـخ له، إلا أنهما غير موجودتين في نسخة المصنف الحالية مما يشير إلى أن بعض رواياته التاريخية ضائعة.
ثم إن النديم عندما يذكر غير كتابي السنن والمسند لأحد المؤلفين اللذين شاع التأليف باسميهما كـثيراً خلال القرن الثالث فمعنى ذلك أن بقية كتبه التي يذكـرهـا ليست من أبواب أحدهما وإنما هي كتب مستقلة. فقد أورد لعبد الله بن المبارك كتاب السنن وكتاب التفسير وكـتاب التاريخ [23].
وذكـر لإِسحـاق بن راهـويه (ت 238 هـ) كتـاب السنن وكتاب المسند وكتاب التفسير [24].
وذكـر للإمام البخـاري كتاب الصحيح وكتاب التاريـخ الصغير والكبير.. الخ [25]. ولعلي المديني (ت 258 هـ) كتاب المسند وكـتاب الضعفاء [26].
وهـذا ما يرجـح عنـد البـاحث أنها كتب أخرى له صمت لكتابه الكَبير المصنف في عصـر من العصـور حتى غدت كأنها أبواب منه، وسواء كانت كذلك أم مؤلفات مستقلة عنه فإنه ولله الحمد وصلتنا محتوياتها.

منهجـه في كـتابة التاريـخ:

فرَّق ابن أبي شيبة - رحمه الله - في كتابة التاريخ بين التاريخ بمعنى الأخبار والحوادث والأحوال، وبين التاريخ بمعنى التوقيت والتقويم, وأورد في كل منهما ما يناسبه، وقدم الأول وابتدأه بالحديث عن معركـة اليمامة [27] ثم ذكر بعده كثيراً من أخبار المعارك الإسلامية التالية مثل القادسية وتستر واليرموك.

وقد فَصَل ابن أبي شيبة بين أحداث المغازي، وبين أحداث التاريخ وعقد الحـديث في الأولى عن الغزوات الإسلامية في عهد الرسول عليه السلام, بينما أورد أحداث المعارك في العهود التالية في كتاب التاريخ.

وقد يعود ذلك إلى أن مفهوم الفصل بين التاريخ والمغازي ظل قائماً حتى عصره.
ثم إنه لما كان مُحدثاً واتَّبع منهج أهل الحديث في كتابة التاريخ، فإن ترتيب موضوعات مصنفه اقتضى أن يقسم التاريخ إلى غزوات وأحداث عامة، وأن يجعـل الغـزوات تلي باب الجهاد مباشرة ثم يذكر بعدها حوادث تاريخ المسلمين ذات العلاقة كالمعارك والفتوح [28].
كمـا أن هناك تشابهاً كبيراً في باب المغازي بين ابن أبي شيبة والإمام الصنعاني (ت 211 هـ) من أصحاب المصنفات، فهما يتحدثان فيه عن سيرة الرسول المبكرة مثل زواجه ونزول الوحي عليه، ثم يتحدثون فيه عن أوائل من أسلم من الصحابة، وقد توسع في ذلك ابن أبي شيبة أكثر من الصنعاني [29].

وتبع هذا توسعـه في المـادة العلمية عن كل غزوة، بينما كان الإمـام البخاري أكثر تحديداً وقصراً له على المغازي من الاثنين.
وقد راعى ابن أبي شيبة التسلسل الموضوعي في ذكر الأحداث وأوضح أمثلتـه ما أورده منها في كتاب التـاريخ، فقد شمل معركة اليمامة، وقدوم خالد بن الوليد الحيرة، ومعركة القادسية وجلولاء، ثم تحدث عن فتح بعض أقـاليم فارس مثـل الجبل ومعركة تستر، ثم أتبع ذلك بذكر مرويات معركة اليرموك وتوجه عمر- رضي الله عنه- إلى بيت المقدس [30].

أما ما ورد عنده بشأن تأخير بيعة العقبة في كتاب المغازي بعد أخبار خلافة علي بن أبي طالب [31]. فهو غير مألوف في منهجه زمنياً أو موضوعياً، ويظهر أنه من أخطاء أحد النساخ، وله نظائر عند الصنعاني، فقد جاءت غزوة الحديبية مقدمة في ذكر أخبارها مقدمة على غيرها من الغزوات بما فيها بدر [32]. للسبب نفسه فيما يبدو.
والملاحظ أن ابن أبي شيبة قصر تاريخه على ذكر أخبار المعارك والفتوح الإسلامية وما يتعلق بها ولم يعن بذكر أخبار الحكام والبلدان والحواضر التي تمثل طوراً مهماً من أطوار مفهوم التاريخ عند المسلمين ومراحل كتابته المبكرة.

أما كتبـه التاريخية الأخرى مثل الجمل وصفين، فهي موضوعية تدور رواياتها حول موضوع كل كتاب، ويظهر أن المصنف لم يراع ترتيباً معيناً لها سوى سياق الموضوع وتسلسل أحداثه في بعض الأحيان, أما كتابه الفتوح، فهو مفقود ولم نظفر بوصف له.

ومن مظاهر الثقة في منهج ابن أبي شيبة في تدوين مروياته ومنها ما يخـص الحوادث التاريخية في كتبه وأبوابها عنده، إن كثيراً من رواياته جاءت بنصها أو بمعناها في الصحيحين بعد ذلك، وهذا يدل على مدى الثقة والتحري الذي راعاه المصنف حتى أخذ الشيخان ببعـض ما ذكره على الرغم من دقة تحريهما وشروطهما الدقيقة في صحة ما يثبتانه في الصحيحين.

كما أن ابن أبي شيبة يذكر روايات مباشرة عن الأحداث التاريخية، ولذا ورد كثيراً منها بلفظ (شهدت) و (رأيت) [33]. ومرويات شهود العيان بعد نقدها من أهم مقومات الدراسة التاريخية.

وكثيراً ما يذكر أن ما قام به هو من حفظه ومن ثم دَوَّنهُ في مصنفه حوله إحدى الغزوات وينص على ذلك بقوله (ما حفظت) في غزوة كذا [34].
ولكن من الملاحظ كثرة الروايات القصيرة في الأحداث التاريخية عند ابن أبي شيبة مقارنة بابن إسحاق قبله ومعاصره ابن سعد. وقد يعود هذا إلى اعتماده على الحفظ الذي أشـار إليه كثيراً وهو مما لا يساعد في العادة إلى إيراد المطولات من الأحاديث والأخبار وتحتاج إلى الرجوع إلى المدون فيها, وعلى الرغم من ذلك لم تخل مدوناته التاريخية منها.


وقد اتبع ابن أبي شيبة أسلوب تكرار الرواية في الحدث التاريخي الواحد أحيانـاً وفقـاً لتعـدد طرقـه أو مصـادره، فهـو المنهـج الذي سار عليه بعض المؤرخين، كابن إسحاق والطبري.
وهو أسلوب يتيح للقارئ المقارنة والنقد إلا أن أبي شيبة لم يكثر منه، وربما يعود ذلك أنه استبعد منذ البداية بعـض الروايات التي لم تثبت عنده.
ودرج على ذكر الروايات المختلفة حول الموضوع الواحد وأمثلته كثيرة منها ذكره لاختلاف الروايات حول مدة بقاء الرسول عليه السلام في مكة والمدينة [35].
كـما يأتي أحياناً بالروايات المتعارضة في الموضوع الواحد بين الإجازة والتحريم مثل روايات الاستعانة بالمشركين من عدمها. [36]
ومن ملامح منهجه أنه يأتي بالرواية الواحدة في أكثر من موضع حسب مناسبته له فقد جاء بأحاديث في كتاب الأمراء، وجاء بها في كتاب الفتن، إلا أنه لم يكثر من ذلك على غرار ما وضح عند الإِمام [37]مسلم عندما جاء بأحاديث غزوة تبوك في عشرة مواضع في صحيحه تبعاً لمناسبتها لها [38].
كـما يبدو أنه تأثر بطريقة عروة بن الزبير في الجمع بين أسانيد عدة روايات في سبيل تأليف حادثة متكاملة وهو المنهج الذي اتبعه أيضاً ابن شهاب الزهري وابن إسحـاق في بعض الحـوادث [39]. ويظهر ذلك واضحاً في المقارنة بين مروياته وبعض مرويات عمر به شبة في مقتل عثمان - رضي الله عنه-.
د
أمـا الاقتصار على ذكر سند الرواية والتنويه بمشابهة سابقتها في المتن فكثير عنده [40].
وقد اتسم أسلوبه بالرصانة ونصاعة العبارة في سرد الحوادث التاريخية، فهو أحد العلماء بخلاف أصحاب المرويات التاريخية من الإخباريين وغيرهم.
وأخيراً فإن تأليف ابن أبي شيبة في هذه الموضوعات كالجمل، قد يكون أحـد أسـاليب النقـد والرد على مؤلفات آخرين سبقوه، وبالذات المؤرخين الشيعة الذين غالوا وشوهوا حقائق تلك الأحداث من أمثال أبي مخنف صاحب كتب الجمل وصفين ومقتل الحسين [41]. ونصر بن مزاحم صاحب كتاب صفين.
إلا أن روايات الجميع في التـاريخ ينبغي أن تخضـع لمنهـج الجـرح والتعـديل سنـداً ومتناً لتحديد ما يثبت منها وما يمكن التساهل في قبوله ورد ما عدا ذلك.

مـوارده:

لم يذكر ابن أبي شيبة في بداية مصنفه أسماء مصادره التي اعتمد عليه، لاسيما أنه لم يضمن مصنفه مقدمة يمكن أن يشير فيها إلى ذلك وابتدأ مباشرة بأحد الموضوعات الفقهية أو هكذا وصلنا مصنفه. ولكن من خلال تتبع رواياته التاريخية يمكن حصر عدد كبير من الرواة الذين نقل أو سمع منهم، فهو ينص عليهم في بداية كل رواية بقوله: حدثنا، أو قال فلان، ويذكر اسمه.

وعلى العمـوم فقـد غلب على موارده الاعتمـاد على ثقاة الرواة وأهل الاختصاص في الوقت نفسه مثل ابن عباس [42] وابن شهاب الزهري [43] وعروة بن الزبير [44]. فقد كانوا من حيث الثقة من رواة الصحيحين، وكانوا ذوي اهتمام وتأليف في أحداث السيرة بالذات، فإن ابن عباس روى الكثير منها وقد يكون له كتاب فيها [45]، وعروة أبن الزبير هو أول من صنف كتاباً في المغازي [46]، وابن شهاب الزهري معروف كتابه القيم في السيرة، وإذا عرفنا أن الزهريَ وعروة كانا من أكثر رواة الأحداث التاريخية عند البخاري، أدركنا القيمة الكبيرة لمرويات ابن أبي شيبة عنهما.


كما تلقى كثيراً من الروايات عن عدد كبير من الثقاة في عصره وبعضها كان عن شيوخه. فقد أكثر من الأخذ عن حماد بن سلمة (ت 167هـ) أحد أئمة الحديث والثقاة الأعلام في عصره. وقد أخذ عنه في المغازي [47].
كما أخذ عن عبد الله بن إدريس (ت 197هـ) وهو أحد العلماء الذين رشحهم الرشيد للقضاء فلم يقبل, ووصفه الإمام أحمد بن حنبل بأنه نسيج وحده، تتلمذ عليه ابن أبي شيبة وكان جاراً له [48]، فأكثر من الرواية عنه في أحداث المغازي والجمل وكتاب التاريخ.
وممن أخـذ عنـه يحيى بن آدم (ت 202 هـ) وهـو أحد الثقاة فقد وثقه يحي بن معين [49], ووصفه ابن حبان بالإتقان [50].

وله كتاب في الخراج مشهور وقد حدث عنه ابن أبي شيبة في أخبار الجمل وصفين, ونقـل عنـه عدة مرويات فيهما لا توجد في كتابه الخراج وهي إما مأخوذة عنه بالسماع أو منقولة من أحد كتبه الأخرى التي لم تصل إلينا. كـما أكثر من الرواية في التاريخ والمغازي عن أبي أسامة واسمه حماد بن أسامة [51] وعلي بن مسهر [52] وعفان بن مسلم الصفار [53] وكلهم ثقاة. وإذا كان ابن أبي شيبة أكثر عن هؤلاء فإنه أخذ عن كثير غيرهم.
وقد روى ابن أبي شيبة التاريخ عن عدد من المحدثين من أمثال حماد بن سلمة، وعبد الله بن إدريس، مما يعد أحد علامات الثقة في موارده التي اعتمد عليها، أما ترتيب مادتها وفق فروع التاريخ فهو من جهده ومن سمات منهج كتابة التاريخ عنده.
وبتتبع تواريخ وفيات من روى عنهم مثل عبد الله بن إدريس سنة 192 هـ وعفان الصغار سنة 220 هـ نجد أنه استغرق وقتاً طويلاً في جميع مروياته ومنها التاريخية امتد أكثر من ثلاثين عاماً، وهو مؤشر واضح على أن ابن أبي شيبة ظل يتعهد مؤلفاته بالجمع والإضافة سواد عمره.

فـروع التاريخ عند ابن أبي شيبة:
تـاريخ الأنبيـاء:
وفي تاريخ الأنبياء ذكـر عدداً من الأنبياء مثـل إبراهيم وموسى وعيسى ويوسف وداود عليهم الصلاة والسلام، وغلب على أخبارهم عنده الإيجاز، فهو يذكر بعض صفات كل واحد منهم ومعجزاته والعلاقة بينه وبين قومه، وتفاوت ذلك من نبيّ لآخر [54]. وقد اعتمد الطبري عليه كثيراً في أخبارهم في تفسيره لأن ابن أبي شيبة ضمّنها بعض أقوال الرسول عليه السلام أو السلف الصالح بشأن تفسير ما جاء فيهم في القرآن الكريم.

السـيرة النبويـة:

حظيت أحـداث السيرة المبـاركـة بالتـدوين التـاريخي المبكـر وعنى المحدثون والمؤرخون بها كثيراً، فقد ضمنها الأوائل مؤلفاتهم من مصنفات وصحاح وغيرها وأفرد لها بعضهم كتباً بعينها كـعروة بن الزبير (ت94 هـ) وابن إسحاق (ت151 هـ)، أو ضمنوها تواريخهم العامة مثل الطبري.
ويعـد ابن أبي شيبـة من أوائل أصحاب المصنفات الذين عنوا بالسيرة وتدوين مرويات أحداثها في مصنفه فيما يزيد على سبع وستين صفحة، ضمنها عدة روايات حول عمر النبي عليه السلام حين بُعِثَ ونزل عليه الوحي، وكيفية بدايات نزول الوحي عليه، وشق صدره واستبشار خديجة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وبشرى ورقة بن نوفل له بالنبوة، ووعده بالانضمام له عندما يؤمر بالقتال في سبيل نشر دعوته فيما بعد، ووصف الرسول عليه السلام له بالقس [55].
وكذلك ذكر ما لاقاه من أذى قريش له، وما جاء به من حديث الإِسراء والمعراج، وهو من المصادر المبكرة التي أوردت هذه الأحداث واعتمد عليها الكثير من أصحاب الدلائل والأسانيد والتاريخ. بيد أنه ينبغي معرفة قوة السند الذي تروىَ به تلك الأخبار عند نقدها وكذلك الخلاف في التفاصيل بينه وبين غيره كابن إسحاق مثالا في حادثة شق الصدر [56].
ثم عقـد المصنف عنـوانـاً عن حديث الإسراء والمعراج بالرسول عليه السلام، ذكر فيه عشر روايات مطولة منها إخباره عليه السلام عن وصف البراق ثم مجيئه بيت المقدس، ثم العروج به إلى السماء ورؤيته لعدد من الأنبياء مثل إبراهيم وموسى عليهما السلام ثم مشاهدته سدرة المنتهى وفرض الصلاة على أمته [57]. ثم عد خبره على أهل مكة.

تاريـخ الغـزوات:

ذكر ابن أبي شيبة كثيراً من أحداث المعارك والغزوات الإسلامية ابتداء من غزوة بدر الأولى ثم الكبرى حتى معركتي الجمل وصفين في خلافة علي بن أبي طالب.
وقد توسع ابن أبي شيبه في المادة العلمية عن كل غزوه، فقد كتب عن غزوة بدر 36 صفحة، وكتب عن غزوة الخندق 25 صفحة، وعن غزوة مؤتة تسع صفحات، في حين كتب الإمام الصنعاني قبله في مصنفه عن الغزوات كلها خمسين صفحة، وكتب الإمام البخاري في صحيحه عنها من بعده مثله أو أقل بيسير.
وفي غزوة بدر يبدأ الحديث عنها بالروايات حول تاريخ حدوثها، ثم ذكر بعض الآيات التي نزلت فيها وربطها بأحداثها كآية {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [58] وآية {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [59] ثم ذكر رواية عن اتخاذ المسلمين لهم سيما وعلامات تميزهم أثناء القتال عن المشركين وكانت من الصـوف الأبيض [60]. وهي إشـارة لطيفـة ومـا زالت الجيوش في العصـر الحديث تتخذ لها علامات للغرض نفسه.
ثم جاء بعدد من الروايات حول عيون الرسول عليه السلام واستخباره عن قوة جيش قريش وعدده وأين نزل، والشورى بين المسلمين في القتال، واختياره ميدانه، وبنـاء مركـز قيادة لهم [61]. وما دار بين المشركين، من جدل حول الرجوع واختلافهم وتنابزهم بالألقاب، ثم بداية المعركة بالمبارزة، والتحام الفـريقين وسقـوط القتلى، وكـان عددهم كـبيراً من المشـركين ثم وضعهم بالقليب، ووقـوع عدد منهم في الأسـر، وما ناله المسلمون من نصر وأنفال بالإضافة إلى عدد من الروايات الأخرى حول مواقف عديدة حدثت في بداية المسير للمعركة أو أثناءها أو في طريق العودة منها- لا تخلو من دروس وعبر عظيمة. [62]
ثم أتبعها بالحديث عن غزوة أحد وبدأه بروايات بما يشبه التوطئة كـمكر الرسول عليه السلام بالمشركين، ثم ذكر بعض مواقف الصحابة أثناء القتال كحذيفة بن اليمان وسعد بن أبي وقاص، ودعم الرسول عليه السلام ومساعدته له أثناء الرمي بالسهام حتى ذكر أنه فداه بأبيه وأمه حتى قال علي بن أبي طالب ما سمعته فدى أحداً بأبويه إلا سعداً. وكان سعد يذكر ذلك [63].
كما ذكر عدداً من الروايات حول كيفية استشهاد حمزة بن عبد المطلب وغدر العبد الحبشي به. والموقف من كثرة القتلى والمعيار في تقديمهم داخل اللحود [64].
وكذلك كيف قابل الرسول عليه السلام انكشاف المسلمين يوم أحد وكيف كان عليه السلام يعتذر منه لربه [65]. وهي روايات تشبه إلى حد كبير ما أورده ابن سعد في غزوة أحد مع اختلاف سند ابن أبي شيبة عنه إلا فيما قل [66].
ثم يورد المصنف رحمه الله تعالى عدداً آخر من الروايات حول مواقف مختلفة في تاريخ الغزوات منها ما يتعلق بالتخطيط الحربي، ومنها ما يتعلق بمقارعة العدو بالحجج والحقائق، مثل مقارعته بآلات الحرب فكل له تأثيره في الجانبين، وقد كان الرسول عليه السلام يرد على هتافات المشركين، ويخبر عن مصائر قتلى الطرفين ونحو ذلك [67]. فضلاً عن عدد من الروايات عن آلات الحرب وقتذاك.
وبعد ذلك تحدث عن غزوة الخندق وجاء بعدد من الروايات حولها دار معظمها حول استشهاد الصحابي الجليل سعد بن معاذ [68]. مما قد يضيف جديداً لمن يدرس أحداثها أو سيرته بعناية.
ثم ذكـر عددا كبيراً من الغزوات مثل غزوة الخندق وبني قريظة والفتح وحنين وذي قرد وتبوك ومؤتة في تفصيل مناسب من الروايات المتعددة عن كل غزوة إلا أن بعضها مثل الفتح وحنين وتبوك كانت رواياتها أكثر.
وفي الغالب لا تختلف مروياتها عما ذكر من قبل وربما ندرك من خلالها أن المصنف يميل إلى الوضوح في ذكر الأحداث، والبعد عن التداخل ففي غزوة مؤتة مثلاً بدأت روايتها عنده بتحديد ترتيب قوادها الثلاثة ثم ذكر ما حدث فيها، ثم إعلان نتيجتها، ووصف مواساة الرسول عليه السلام لأهل الشهداء وذكرهم بالخير والدعاء لهم، وبروايات مختلفة سنداً ومتناً عما أورد ابن سعد عنها [69].
ولم يذكر شيئاً عن غزوة يهود بني النضير بالمدينة على الرغم من أن الإمام الصنعاني قبله توسع في أخبارها [70] فذكر أصلهم، وموطن سكنهم، والمفاوضة معهم، والعـلاقـة بينهم وبين مشـركي قريش، وتحـريض الأخيرين لهم ثم إجلاءهم إلى بلاد الشام، وكذلك ذكرها الإِمام البخاري فيما بعد [71].
وقد يعود ذلك إلى أن المصنف لم يحفظ فيها شيئاً فهو في الغالب يعتمد على حفظ ذاكرته في الأحداث وقد نص على ذلك كثيراً، أو يعود إلى ضياع أو خرم في النسخة التي وصلتنا ويستبعد أن يعود ذلك إلى أنه لم يثبت فيها شيء عنده بعد ما ثبت عند غيره من قبل ومن بعد كـما أشير إليه آنفاً.
كما لم يذكر شيئاً عن السرايا في عهد الرسول عليه السلام على الرغم من وثوق صلتها بالمغازي، فهل تابع في ذلك شيخه الصنعاني الذي لم يذكرها أيضاً، بينما أسهب فيها كل من ابن إسحاق وابن سعد من قبل والبخاري من بعد.
الخلفـاء الراشـدون:
في عهود الخلفاء الراشدين ذكر حدث وفاة كل منهم، وذكر بعض الأخبار في ذلك بطرق مختلفة، ثم يأتي أحياناً بشي من سيرته، إلا أبا بكر الصديق فقد بدأ الحديث عنه بذكر كيفية مبايعته، وقد ضمن مروياته عن سيرة عمر أموراً في غاية الأهمية عنـد ذكر دراسة سياسته مثل قول عائشة فيه بأنه "كان غناء للإِسلام، كان والله أحوذياً نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها " [72]. وقوله: "إني قد تركت فيكم اثنين لن تبرحوا بخير ما لزمتموهما: العدل في الحكم، والعدل في القسم" [73].
وعلى الرغم من أن ابن أبي شيبة عَنْوَن ذلك بقوله ما جاء في خلافة كل منهم إلا أن ما ذكره هو ما يتعلق بوفاة أو مقتل كـل منهم مع اختلاف في التفصيل والسند، فهو لا يشمل أخبار وحوادث عهودهم التاريخية لكن المؤرخ لا يعدم ذلك مما جاء متفرقاً في أبواب أخرى ومن المصنَّف مثل إسلام كل واحد منهم أو في كتاب فضائل الأعلام عنده.

حـروب الـردة والفتوح الإسلامية:



أما في حروب الردة قد جاء بأخبار متفرقة عن معركة اليمامة بين خالد بن الوليد ومسيلمة الكذاب، وذكر ما عاناه المسلمون في البداية من الهزائم وكثرة قتلاهم وجرحاهم وأن بعضهم كان صائماً [74]. ثم ذكر رواية أحد شهود العيان وهو الصحابي الجليل أنس بن مالك كيف كان موقف خالد عصيباً ثم كـيف كر على أهل اليمامة حتى بلغ حصنهم وتمكن البراء من قتل صاحبهم وفُرجت الشدة [75].
وعلى الـرغم من إسهـاب الطبري في ذكر أخبار معركـة اليمامة، وتعدد رواياتها عنـده [76]، إلا أن ابن أبي شيبـة ذكـر روايات أخرى منها أن شعار المسلمين فيها كان (يا أصحاب سورة البقرة).
ثم انتقل بعد ذلك إلى تاريخ الفتح في العراق على يد خالد بن الوليد، وذكر عدة روايات في مكاتبته مرازبة فارس، وبعض أحداث المعارك هناك مثل معركـة الجسر ومقتل قائدها أبي عبيد الثقفي، وحديث عمر بن الحطاب عنه بأنه سيكون فئة له لو انحاز إليه [77].
وأسهب في وصف أحـداث معـركـة القادسية بالنسبة للمعارك الأخرى، وتعدُّدُ الروايات والتفصيل في وصف الحدث عند أبي شيبة يتبع في كثير من الأحيان حجم الحـدث نفسـه. وهـذا رواياتـه الكثيرة عن أحداث هذه المعركة لابد من الاعتماد والرجوع إليها لمن يدرسها.
وفي معـركـة تُستـر جاء بمعلومـات لا تختلف كثيراً عمـا جاء به أهـل الاختصاص في تاريخ الفتوح مثل البلاذري بل إن نسق ترتيـب الأحداث في تلك المنطقة وقتذاك هو النسق الذي سار عليه البلاذري فيما بعد [78].

كـما اعتمد كل منهما على مرويات من شهدوا المعركة أو نقلوا عنهم، وهو منهج متقدم في الكتابة التاريخية.
ولما انتهى من كتاب التاريخ ومرويات أحداث الفتح الإِسلامي في العراق وبـلاد فارس، انتقل إلى الحديث عن الفتوح في بلاد الشام وابتدأه بذكر ما حفظه ووصلته أخباره في غزوة اليرموك وأنه كان للمسلمين فيها خمسة ألوية، ثم ما آل إليه أمر المسلمين من قوة وحسن حال حتى حسنت معيشتهم ولبسوا الديباج والحرير حتى نهاهم عمر عن ذلك [79].

ثم ذكـر طرفـاً من أخبار زيارة الخليفة عمر إلى بلاد الشام وهيئة مركبه واستقبـال الناس له، وإقراره لبعض مظاهر الخير وسعة الرزق التي ظهر بها بعض قواد المسلمين هناك، في الوقت الذي أبقى فيه هو على تواضع هيئته ومركبـه على الرغم من نصح بعض الجند له بإظهار حال أحسن منها عند استقبال القواد وبطارقة الشام له, فأجابهم عمر بأن العزة ليست بالمظاهر وإنما بالإسلام "إنا قوم أعزّنا الله بالإسلام" [80] وهي الحقيقة التي ما فتئ عمر يؤكدها في كل موقف.
كمـا ذكـر اعتذار عمر عن دعوة أحد الدهاقين النصارى لحضور وليمة أعدها له [81].

أمـا في كتاب التاريخ بمعنى التوقيت فقد خصه المؤلف بالحديث عن أعمار بعض الأنبياء كآدم ونوح ويوسف ومحمد عليهم السلام وبعض مشاهير الصحابة كابن عباس والخلفاء الأربعة، ثم سنوات وفيات بعض الأعلام، حتى سنة 177 هـ [82]. ثم أورد مدد عهود الخلفاء الراشدين وخلفاء الدولة الأموية حتى الخليفة المأمون على طريقة ذكر اسم كل خليفة ومدة حكمه [83]. وكان دقيقاً في ذكر عدد السنوات وكسورها التي مكثها كل منهم ووافقه في ذلك عدد من المؤرخين ممن جاء بعده وعلى رأسهم الإمام الطبري.

ثم ألحقه بباب نفيس عن أسماء من اشتهروا بكنيتهم، أو ذكر كنى من اشتهروا بأسمائهم، لعـدد كبير من الصحـابـة والخلفاء والقواد والأعلام المشهورين ذكر فيه سرداً للكنى المشهورة واسم صاحبها أو اسم الخليفة أو العلم، وكان ابن أبي شيبة مصدراً لعدد ممن ألفوا في هذا الباب من القدامى، وقد ألف في هذا الباب فيما بعد كل من الإمام مسلم (ت 261 هـ) والدولابي (ت 310 هـ)، كتباً منفردة.

الفـتن:

عقد ابن أبي شيبة باباً للفتن وسماه كتاب الفتن جاء فيه في البداية بعدة مرويات في مفهوم الفتنة العام، وكيف تكون وعلاماتها والموقف منها [84]، وذكر عدة روايات تجعـل بعض الأحـداث التاريخية منها مثل قتل عثمان ومقتل الحسين وحركة عبد الله بن الزبير.
وعلى أية حال فإن هذا الباب عند المحدثين لا يخلو من مادة تاريخية تفيد في موضوعاتها، ومنها مرويات ابن أبي شيبة حول مقتل الحسين وابن الزبير فهي مهمة عند دراسة تلك الأحداث وتعين في معرفة مواقف بعض الصحابة والتابعين منها، وتوضح جوانب من موقف الدولة الأموية إزاءها إلا أنه ينبغي عدم التسليم ببعضهـا لمـا يظهـر عليه من الوضع والصنعة مثل سرد بعض الروايات في صفات تنطبق على أحد الرجلين والموقف منه، والنص في بعضها على أن الـذي يخرب البيت العتيق هو رجل من آل الزبير [85] ونحو ذلك مما يوحي بأنها وضعت بعد أحداث الحركتين بأسلوب يوهم بأنها روايات سابقة جاءت الأحداث تؤكدها, وهو أمر لم تخل منه المصادر التاريخية أيضاً، وكان المصنفون الأوائل قد دونوا كل رواية وصلتهم، وتركوا نقدها وتمحيصها، والأخذ بها أو ردّها لمن يأتي بعدهم، وقد وضح ذلك الطبري في مقدمته ولا يعني أنها مما صح عندهم.
وقد توسع ابن أبي شيبه في باب مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنـه أكثر من الأبواب أو الموضوعات الأخرى في الفتنة، فقد جاء بأكثر من 120 رواية في أحداث مقتله [86]. وتبين في مجموعها تفاصيل ما دار بينه وبين الخارجين عليه ورجوعهم ثم عودتهم من الطريق ومطالبتهم له بخلع نفسه أو القصاص منه، وعزل بعض الولاة ورده ذلك ومحاجتهم فيه، وكيف اقتحموا عليه الدار, وأسماء من باشر أو أشار بقتله منهم، وروايات أخرى فيما يترتب على تلك الفتنة من هلاك العرب وعدم اجتماعهم يداً واحدة بعدها، وقد انفرد ابن أبي شيبـة بهـا بين أصحـاب المصنفات مثل الصنعاني، كـما أنها تشبه تفاصيل ما أورده وزاد عليه كثيراً عمر بن شبة فيما بعد في الموضوع ذاته [87]. وهناك روايات متفقة في السند والمتن عند الاثنين مع تفصيل أو إيجاز فيه عند أحـدهمـا أحيانـاً فهل أخذ عمر بن شبة عن ابن أبي شيبة ولم يشر إليه؟ [88] والمعروف أن الإمام الطبري رجع لابن شبة في موضوع مقتل عثمان رضي الله عنه إلا أن هناك روايات كثيرة عندهما لم ينقلها ولهذا فإن الرجوع إليهما مباشرة سوف يسهم في دراسة أحداثه ونقد مروياته من جديد.
وعلى الرغم من أن المصنف أخر مرويات مقتل عثمان عن الحديث عن فتنة مقتل الحسين وابن الزبير إلا أن حديثه في كتاب الجمل وترتيبه بعده ظهر كأنه نتيجة واقعة لتلك الأحداث كما هي حقيقة بالفعل ودلالة على افتراق الأمة بعد تلك الفتنة.

حتى رد ابن سيرين في أحدها بقوله: "ما علمت أن علياً اتهم في قتل عثمان حتى بويع, اتهمه الناس". وقال علي نفسه فيما بعد في البصرة: "والله ما قتلته وما مالأت على قتله" [89].
وكان عمار بن ياسر لا يجيز تكفير أهل الشام في صفين ويقول عنهم: بأنهم مفتونون جاروا عن الحق، ويصفهم في رواية أخرى بأنهم فسقوا ظلموا.
كـما جاء ابن أبي شيبة بروايات في نشأة الخوارج المبكرة وصفتهم وموقفهم من الخلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية ثم قتال علي لهم عند النهروان، وأشهر فرقهم وهي الحرورية [90].

معركـة الجمـل:

أفرد ابن أبي شيبة كتاباً لأحداث معركة الجمل، وبدأه بمسير عائشة وعلي وطلحة والزبير إلى الكوفة وبدأه برواية طويلة حول وفود بعض أهل البصرة على علي من بني راسب [91]، ثم كيف أنشب عُبـدان الفريقين القتال وعقر جمل عائشة، وأن قلة قليلة من الصحابة شهدوا الجمل [92].
ثم ذكر عدة صور من تقدير الفريقين بعضهما بعضاً وأن الأمر لا يصل إلى التكفير "لم يكفر أهل الجمل" وكل منهم يلهج بالثناء على صاحبه ويعطي جائزة لمن يبشره أنه حيّ,. ووصف الفريق الآخر بأن: "إخواننا بغوا علينا" [93]. وربما جلس علي وأصحابه يوماً يبكون على طلحة والزبير [94].
كما أورد عدداً من الروايات تشير أن طلحة والزبير بايعا علياً مكرهين فساغ لهما نقض بيعته, ومرة أخرى يريان أنه بدل [95].
وأخرى تذكر أن عائشة وعلياً كان يتمنيان أنهما لم يدركا معركة الجمل [96]. وبحكم موضوع هذا الكتـاب فرواياتـه تدور حولها حتى جاء فيه بالروايات المتعارضة والمواقف المختلفة لمن شاركوا في أحداثه.

وبعـد انتهاء المصنف من ذكر مرويات معركة الجمل عقد باباً لموقعة صفين بين علي ومعاوية- رضي الله عنهما- جاء فيه بأربع وأربعين رواية فيها، دارت بوضوح أكثر حول مواقف عمار بن ياسر- رضي الله عنه- وثباته مع علي وترديده القول: "لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمنا أنا علي الحق وأنهم على البـاطل"؛ ومـع هذا كان ينهى أصحابه عن تكفير أهل الشام، ويأمرهم بقول: "فسقوا وظلموا" [97], فما أمر التكفير بهين. وقريب منه موقف علي رضي الله عنه عندما يروي المصنف أنه كان يحسن معاملة أسرى الشام ولم يقتل أحداً منهم ويكتفي بأخذ سلاحه ثم يخلي سبيله وربما أعطى الواحد منهم بعـض الدراهم في سبيل الإحسان إليه [98].

ثم جاء بعد ذلك بروايات كثيرة حول ظهور الخوارج وموقفهم من علي وموقفه الحازم منهم بصور مختلفة معقولة بالسند وكثير منها بعبارة شهدنا، وكنا مع، وخـطبنا، وأمثالها من عبارات شهود العيان، والقرب من الأحداث [99]. فضلاً عن أن ابن أبي شيبة يذكر مروياته حول أحداث الجمل وصفين والخوارج بطرق إسناد مختلفة في الغالب عما ورد عند الآخرين كأبي مخنف ونصر بن مزاحم والطبري.

تراجـم الأعـلام:

تضمنت أحـداث السيرة النبوية معلومات قيمة حول عدد من الصحابة كإسـلامهم وبعض صفاتهم وما تحلّوا به من فضائل، وأدوارهم في المعارك والغزوات ومواقفهم في الحياة الإسلامية وقتذاك. مثل مرويات إسلام الخلفاء الراشدين الأربعة وكيفية ذلك، وإسلام كبار الصحابة الآخرين كالزبير وأبي ذر الغفاري وزيد بن حارثة وسلمان الفارسي وعدي بن حاتم وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم. والمصنف تحدث عن هؤلاء وغيرهم سواء عند مناسبة ذكر إسلامهم في كتاب المغازي [100], أو عند مناسبة كلامهم في باب الزهد [101]، أو عند ذكر صفاتهم في باب طويل عقده للفضائل [102]، تحدث فيه بإسهاب عن أخبار كثير من الصحابة ومواقفهم وثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على بعضهم وأقوال بعضهم أو الآخرين فيهم، فعلى سبيل المثال ذكر عن عثمان خمسة عشر صفحة وعن الـزبير أربع وعن عبد الله بن مسعود ست صفحات وغيرهم كثيرا عدا ما جاء عنهم في مواضعه عند ذكر الأحداث التي شاركوا فيها أو ذكر فضائل قبائلهم أو أقاليمهم.

وذكـر في إسلام سلمان الفارسي رواية مطولة [103] لم يذكرها ابن إسحاق وهي مما تفرد به عنه.

وبجمع الروايات الكلية عن كل علم عند ابن أبي شيبة يصبح لدينا حوله كـمٌّ كبيرٌ من المادة العلمية في التراجم والسير لا غنى عنها لمن يبحث في هذا الباب، كما تساعد في دراسة بعض مواقف الصحابة مثل أبي ذر والزبير رضي الله عنهما من الأحداث التاريخية في أواخر عصر الخلفاء الراشدين وبداية الدولة الأموية.

الدولـة العباسـية:

أشاعت الدولة العباسية بأنها دولة عدل ومحاربة جور، وأنه سيكون من خلفائها مهدي يملأ الأرض عدلاً، وعزوا ذلك إلى أحاديث مروية عن الرسول عليه السلام وقد جمع ابن أبي شيبة عدداً منها في مصنفه منها أنه "لن تنتهي الدنيا حتى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي" [104] والمقصود الإشارة إلى الخليفة المهدي محمد بن عبد الله إلى درجة أن المهدي الذي يخرج في الناس قيدت الروايات وقتذاك خروجه بأنه بعد قتل محمد النفس الزكية [105], أي وفق ترتيب الأحداث التاريخية المعروفة فالخليفة المهدي جاء بعد انتهاء ثورة النفس الزكية.
ولم يأت المصنف بمرويات في أخبار الدولة الأموية والدولة العباسية عدا ما أشير إليه سواء في أبواب المصنف أو في كتبه التاريخية المضافة إليه وقد يعود ذلك إلى طبيعة مؤلفه الأساس وهو في الحديث ثم أن تاريخ الدول وعهود الحكام لم يشع التأليف فيه كـثيراً وقتذاك مثلما اشتهر التأليف في موضوعات كتبه التاريخية.

القبائـل والأنسـاب:

لم يفت المصنف ذكر أخبار بعض الأحلاف والقبائل العربية مثل قريش وقيس وبني عامـر وبني عبس وثقيف وبجيـلة والمهاجرين والأنصار والعرب عامة [106]. وتوضح هذه جانباً ثم أنسابهم ومكانتهم في الدولة الإسلامية ومواقف بعضهم من أحداثها ومشاركتهم في الفتوح والإدارة ونحوهما. وقد أثنى الرسول عليه السلام على كثير من صفاتهم أو مواقفهم أو دعا لهم مثل ثنائه على جهينة وأسلم وغفار وغيرها وقد توسع الإمام مسلم في ذلك [107], فهو يذكر عن بني أسد أنه شهد ألفان منهم معركة القادسية وكانت لهم راية خاصة بهم.
كما كانت قيس مقدم جيش مسلمة بن عبد الملك في قتال الترك في بعض ثغور أرمينية [108].
وقـد اهتم مؤرخـو الأنسـاب بهـذه المرويات عند التاريخ لأنساب هذه القبائل ولهذا فإن مصنف ابن أبي شيبة من المصادر المبكرة لكتب الأنساب، وقد رجع البلاذري إليه فيما يتعلق بنسب بعض بيوت قريش [109].

أحـكام الحـرب:

تَحدث المصنف طويلاً عن أحكام الحروب وقواعدها، وعقد لذلك باباً باسم باب الجهـاد بين فيه حكـم الحـرب ومبرراتها وشرعية الأسباب المؤدية إليها، ومقدماتها من بيات ومبارزة [110], ثم ما يحدث خلالها من قتل وغزو في البر والبحر، والموقف من الأملاك في أرض العدو من زرع ودواب وعمارة، والموقف من كيفية معاملة الأسرى وتوزيع الغنائم ونصيب كل فرقة من الجيش منها, وهو في هذا يتابع المحدثين حيث دأبوا في مؤلفاتهم على عقد باب في بيان الجهاد وأقسامه وقواعده وأهدافه ووسائله. وكان الميدان لذلك على أرض الواقع هو التاريخ - بطبيعة الحال- من نشر للدعوة وقتال المشركين وحروب اليهود والنصارى، وكل ذلك أخذ من أرض الواقع التاريخي واستشهد عليه بما فعله الرسول عليه السلام في غزواته أو أمر به قواده أو قاله في مناسبته أو عند حدوثه, أو سار عليه من جاء بعده أو خلفائه الراشدين أو أحد أمرائهم وقواد جيوشهم. فوردت في مجاله معارك وأحداث وأدوات وغنائم وإدارة للمعارك وإسناد وتموين وتوزيع غنائم في البر والبحر، وهي موضوعات مهمة لم يعن بها بما فيه الكفاية في الدراسات التاريخية. كما يأتي المصنف بعدة روايات بشأن عدم هدم الكنائس والبيع النصرانية في البلاد التي فتحها المسلمون ويذكر كتابـاً مهماً لعمر بن عبد العزيز وجّهه لولاته بشأن عدم هدم أماكن العبادة للشعوب الأخرى والرهبان والعبَّاد العاكفين فيها [111].

وكذلك عدم التعرض لغير المقاتلة ومن ثم ذكر أن المسلمين الأوائل لم يكونوا يقتلون النساء والأطفال والشيوخ من الأعداء من مختلف الأجناس، بل كان لدى القواد المسلمين تعليمات بالرفق بالطبقات العامة كالفلاحين ونحوهم [112].
د
وقد أوصى أبو بكر الصديق قواده في بلاد الشام بعدة وصايا تعد دستوراً في الخلق الحربي خالداً سبق أي آداب أو قوانين حديثة حولها, منها عدم قتل الشيوخ والنساء والصبية أو قطع الشجر أو إغراق المزروعات أو عقر الحيوانات أو إشعال الحرائق وتخريب الدور والأسواق العامرة [113].
إن الخلق الحربي وآداب القتال في الإسلام كانت أحد عوامل انتصاره وانتشـاره السـريع في البلدان المفتوحة وأدرك أهلها أن الحرب الجديدة لها أهداف ووسائل تختلف عن الحروب التي عانوا منها من قبل ولهذا فإن مرويات ابن أبي شيبة في هذا المجال تقدم مادة مهمة لمن يبحث انتشار الإسلام.
أما الأمان الذي ذكره ابن أبي شيبة فهو بمعنى الإِجارة وكيف أن المسلمين الأوائل كان يجير عليهم الرجل منهم حتى إن المرأة كانت تجير فيقبلون من أجارت [114].
أما الأمان بمفهـومه الواسع فيما يعرف بنظام المستأمنين في الحضارة الإسلامية لأهل الذمة والسفراء والتجار فلم يتطرق له على الرغم من توسع الإمام أبي يوسف فيه من قبل [115].

تـ

بواسطة : hashim
 0  0  9056
التعليقات ( 0 )

-->