السمعاني وكتابه "الأنساب" دراسة تحليلية
للكاتب : أكرم البوشي
للكاتب : أكرم البوشي
لقي علم الأنساب عناية فائقة عند الباحثين لمَا له من أهميَّة بالغة وعلاقة وشيجة بأطراف العلوم المختلفة، ولأن نسب المرء يقفنا على أصله الذي يرجع إليه، وحقيقة انتمائه التي تميط لثام الشك، وتكشف كل لبس وريبة.
ومن أشهر العلماء الذين أدلوا بدلوهم وكان لهم الباع الطويل في هذا المضمار الإمامُ السَّمعاني الذي نحن بصدد الحديث عنه وعن كتابه "الأنساب" الذي ذاع صيته حتى غدا موئلاً يرجع إليه الباحثون في هذا الفن.
وقفة لغوية:
جاء في "لسان العرب" لابن منظور مايلي:
"النسَب: نسب القرابات، وهو واحد الأنساب. ابن سِيده: النِّسْبة والنُّسْبة والنَّسَب: القرابة. وفي التهذيب: النسب يكون في الآباء، ويكون إلى البلاد، ويكون في الصناعة. والنسَّاب: العالم بالنسَب، وجمعه نسَّابون، وهو النسَّابة، أدخلوا الهاء للمبالغة والمدح، ولم تلحق لتأنيث الموصوف، وإنما لحقت لإعلام السامع أنَّ هذا الموصوف قد بلغ الغاية والنهاية. وكان أبو بكر -رضي الله عنه- رجلاً نسَّابة".(1)
عناية الأمة العربية بأنسابها:
لا نكاد نعرف أمة من الأمم عنيتْ بأنسابها عناية الأمة العربية بها، ولا نعرف أمة عاش ماضيها في حاضرها وكان له الأثر الفعَّال في توجيه حياتها الاجتماعية والسياسية والأدبية كالأمة العربية، آيةُ ذلك كثرة ما تحصيه كتب المراجع من المؤلفات التي تناولت أنساب العرب وترجمت لمشاهير علماء النسب.(2)
وقد أفرزتْ لنا العناية بالأنساب العديد من النسَّابين الذين ارتقوا بهذا الفن ارتقاءً ملحوظاً، فتوسعوا به أيما توسع، إذ لم يقفوا عند النسب إلى الجدِّ الأعلى أو القبيلة، إنما أخذوه بأطرافه من كل جوانبها فأصبح عِلماً ترتكز عليه الكثير من المعارف، وتحتاج إليه العلماء في دراساتهم وبحوثهم.
فن الأنساب والحاجة إليه:
يطلق "فن الأنساب" على ما يذكر فيه أصول القبائل وكيف تفرَّعت كنسب عدنان، يذكر فيه أبناء عدنان ثم أبناؤهم.. وهلم جرّاً. ويطلق أيضاً على جمع النِّسَب اللفظية كالأسَدي والمَقْدسي والنَّجار ونحو ذلك، ويضبط كل منها ويبيَّن معناها، ويذكر بعض من عُرف بها. وهذا الثاني هو موضوعنا.
قال ابن الأثير في خطبة كتابه "اللباب" في ذكر هذا الفن: "هو ممّا يحتاج طالب العلم إليه، ويضطر الراغب في الأدب والفضل إلى التعويل عليه. وكثيراً ما رأيت نسباً إلى قبيلة أو بطن أو جدٍّ أو بلد أو صناعة أو مذهب أو غير ذلك، وأكثرها مجهول عند العامَّة غيرُ معلوم عند الخاصَّة فيقع في كثير منه التصحيف، ويكثر الغلط والتحريف(3)".
"أنساب السَّمعاني" ومكانته العلميَّة:
إنَّ نظرة تاريخية فيما صُنِّف في الأنساب تضعنا أمام عدد غير قليل سبق السَّمعاني في جانب من جوانب الأنساب، كلٌّ له شهرته في بابه، إلاَّ أن ما كتبه السَّمعاني في "أنسابه" يُعد بحق تتويجاً لما بُذل من جهود في هذا المضمار حتى صحَّ فيه قول القائل: "كلُّ الصيد في جوف الفَرَا(4)" لما تفرَّد به من شمول واسع ومنهجيَّة علميَّة فذَّة، وحسبنا هنا أن نورد ما كتبه ابن الأثير في مقدمة كتابه "اللباب" حيث يقول:
"وكانت نفسي تنازعني إلى أن أجمع في هذا كتاباً حاوياً لهذه الأنساب، جامعاً لما فيها من المعارف والآداب، فكان العجز عنه يمنعني، والجهل بكثير منه يصدُّني... فبينما أنا أحوم على هذا المطلب ثم أجبن عن ملابسته، وأُقدم عليه ثم أُحجم عن ممارسته إذ ظفرتُ بكتاب مجموع فيه قد صنَّفه الإمام الحافظ تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السَّمعاني المروزي رضي الله عنه وأرضاه، وشكر سعيه وأحسن منقلبه ومثواه. فنظرتُ فيه فرأيته قد أجاد ما شاء، وأحسن في تصنيفه وترتيبه وما أساء، فما لواصف أن يقول: لولا أنه، ولا لمُسْتثن أن يقول: إلاّ أنه. فلو قال قائل: إن هذا تصنيف لم يسبق إليه لكان صادقاً، ولو زعم أنه قد استقصى الأنساب لكان بالحقِّ ناطقاً، قد جمع فيه الأنساب إلى القبائل والبطون كالقرشيِّ والهاشميّ، وإلى الآباء والأجداد كالسّليمانيِّ والعاصميّ، وإلى المذاهب في الفروع والأصول كالشافعيِّ والحنفيِّ والحنبليِّ والأشعريِّ والشيعيِّ والمعتزليِّ، وإلى الأمكنة كالبغداديِّ والموصليّ، وإلى الصناعات كالخيَّاط والكيَّال والقصَّاب والبقَّال، وذكر أيضاً الصفات والعيوب كالطويل والقصير والأعمش والضرير، والألقاب كجَزَرَة وكيلَجَة. فجاء الكتاب في غاية الملاحة ونهاية الجودة والفصاحة، وقد أتى مصنفُه بما عجز عنه الأوائل ولا يدركه الأواخر، فإنه أجاد ترتيبه وتصنيفه، وأحسن جمعه وتأليفه. قد لزم في وضعه ترتيب الحروف في الأبواب والأسماء على ما تراه"(5).
بين "الأنساب" و "معجم البلدان" :
لو نظرنا فيما صنَّفه السَّمعاني- وهو كمٌّ كبير كما سنرى لاحقاً- لوجدنا في لائحة تآليفه معجماً للبلدان. ولو أضفنا إلى ذلك رحلته الواسعة في طلب العلم حيث طوَّف في مراكز العلم في الدنيا لعرفنا مبلغ ما وصل إليه من المعرفة والإتقان في أسماء المدن والبلدان.
ولو تأملنا ما سبق القول فيه من أن النِّسَب تكون على أنواع منها ما هو نسبة إلى بلدة أو قرية أو موضع لوقفنا على أهميَّة معرفة اسم البلد المنسوب إليه.
وأخيراً لو أجرينا مقارنة بين ماضبطه السَّمعاني في "أنسابه" بالحروف لأسماء بعض هذه البلدان وما فعله ياقوت الحموي في معجمه الشهير الذي يعدُّ عمدة الباحثين في فنِّه وبابه لوجدنا اختلافاً -في بعض الأحيان- بين صنيع هذا وذاك.
مما تقدم يمكننا أن نضيف مميزة جديدة وأهميَّة أخرى لأنساب السَّمعاني الذي يعدُّ بحق مرجعاً أساسياً في هذا المجال، خاصة إذا عرفنا أن السَّمعاني متقدم على ياقوت، وأنَّ وفاته تسبق وفاة ياقوت بأربع وستين سنة.
وإليك بعض الأمثلة مما وقع فيه اختلاف بينهما:
في رسم (النخاني) نرى السَّمعاني يقيِّدها بالحروف بفتح النون، أما ياقوت فيضبطها بضمها.(6)
وفي رسم (النَّطَنْزي) يقول السَّمعاني: هذه النسبة إلى (نَطَنْز) بينما هي عند ياقوت (نَطَنْزة) بإضافة هاء في آخرها. وكلاهما قال: هي بلدة بنواحي أصبهان.(7)
وفي رسم (اليُوخَشُوني) يقيِّدها السَّمعاني بضم السين المهملة، بنيما هي عند ياقوت بالشين المعجمة.(8)
أنساب السمعاني محقَّقاً:
بقي هذا الكتاب رهين عالم المخطوطات قرابة ثمانية قرون من الزمن، وذلك منذ عصر المؤلف حتى العصر الحديث، إذ هيَّأ الله له من أزاح عنه الغبار وأخرجه إلى ساحة النور، فطُبع عدة طبعات لعل أفضلها تلك التي شرع بها العلاَّمة الفاضل الشيخ عبد الرحمن المعلِّمي اليماني رحمه الله، فأخرج منه ست مجلدات محققة، تولَّت إصدارها دائرة المعارف الإسلاميَّة بحيدر آباد الدكن في الهند. ثم توالى تحقيق الأجزاء الستة المتبقية على يد مجموعة من الباحثين هم على التوالي:
الأستاذ محمد عوامة (المجلد السابع1 والمجلد الثامن).
الأستاذان محمد عوامة ورياض مراد (المجلد التاسع).
الدكتور عبد الفتاح الحلو (المجلد العاشر).
الأستاذان محمد مطيع الحافظ ورياض مراد (المجلد الحادي عشر).
كاتب هذه الأحرف أكرم البوشي (المجلد الثاني عشر) وبه ختم الكتاب.
وقد تولى طبع الأجزاء الستة الأخيرة وإخراج الكتاب بشكله الكامل السيد أمين دمج في بيروت(9).
والآن وبعد أن وقفنا مع الكتاب لا بدَّ لنا من إلمامة بصاحبه.
السَّمعاني (اسمه ونسبه وكنيته ولقبه):
هو العلاَّمة الحافظ، تاج الإسلام، أبو سعد، عبد الكريم بن محمد بن منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد بن جعفر التميمي السَّمعاني المَرْوزي.
والسَّمعاني -بفتح السين المهملة، وسكون الميم، وفتح العين المهملة، وفي آخرها النون - نسبة إلى (سمعان) وهو بطن من تميم كما قال المؤلف نفسه.
قال المعلِّمي اليماني رحمه الله: "وليس معنى هذا أنه بطن قديم معروف في الجاهلية، فإن علماء النسب لا يعرفون ذلك، وإنما سمعان -والله أعلم- تميميٌّ كان هو أو ابنه في زمن الصحابة، وكان فيمن غزا مرو، واستوطنها، وكثر بنوه فنُسبوا إليه، وبذلك صار بطناً من تميم"(10).
مولده ونشأته:
ولد أبو سعد بمرو يوم الاثنين الحادي والعشرين من شعبان سنة ست وخمسمئة هجرية، وما أن بلغ سنتين أو نحوهما حتى كان أبوه يحضره مجالس المحدِّثين، ويكتب له ما أملَوه أو قرئ عليهم وهو حاضر، ويثبت ذلك ويصححه ليكون أصلاً يرجع إليه ولده ويروي منه إذا كبر. ولم يكتف أبوه بذلك بل رحل به - وعمره ثلاث سنوات- إلى نيسابور، وأحضره لدى كبار محدِّثيها وسمع له منهم. ويتوفى الأب سنة عشر وخمسمئة وعمرُ أبي سعد حينئذ ثلاث سنين وخمسة أشهر، فكان وصيُّه وعمَّاه خيرَ خلف لخير سلف، فالبيئة صالحة فاضلة، والعناية والرعاية مستمرتان، وفي ذلك ما يغني عن الكلام في تنشئة هذا الغلام تنشئة علميَّة رفيعة، كان نتاجها أن حفظ القرآن الكريم، وتعلَّم الفقه والعربيَّة والأدب، وصار يسمع الحديث مع عمَّيه، ثم بعد أن قارب العشرين صار يسمع بنفسه.
رحلته في طلب العلم:
تاقت نفس الشاب إلى الرحلة سعياً وراء التحصيل، وألحَّ على أوصيائه أن يأذنوا له بالسفر إلى نَيْسابور ليسمع "صحيح مسلم" من المتفرد به المعمَّر الثقة أبي الفضل الفراوي الذي طال عمره، وأصبح يتوقع كل يوم موته، وإذا مات ولم يسمع منه أبو سعد كانت حسرة في قلبه لا تندمل، فلم يأذنوا له حتى جاوز عمره الثانية والعشرين من السنين، ولم يسمحوا له بالسفر وحده بل سافر معه أحد عمَّيه.
وبعد أن أتم أبو سعد سماع "صحيح مسلم" في نيسابور انتقل منها إلى غيرها بحيث طوَّف في أكثر مراكز العلم في الدنيا عدة سنوات، وعمَّت رحلته بلاد خراسان وأصبهان وما وراء النهر والعراق والحجاز والشام وطبرستان، ثم عاد إلى وطنه مرو سنة سبع وثلاثين أو ثمان وثلاثين وخمسمئة، وكان ذلك كله قبل زواجه.
ثم بعد أن تزوج ورُزق بأبي المظفر عبد الرحيم رحل به إلى نَيْسابور ونواحيها وبلخ وسَمرقند وبُخارى... ثم عاد إلى مسقط رأسه، وألقى عصا السفر والترحال بعدما شقَّ الأرض شقاً، وأقبل على التصنيف والإملاء والوعظ والتدريس(11).
مؤلفاته وثناء العلماء عليه:
سرد ابن النَّجار -نقلاً عن السَّمعاني نفسه- أسماء تصانيفه التي تزيد على الخمسين ثم قال: "سمعت من يذكر أن عدد شيوخه سبعة آلاف شيخ، وهذا شيء لم يبلغه أحد، وكان مليح التصانيف، كثير النشوار والأناشيد، لطيف المزاج، ظريفاً، حافظاً، واسع الرحلة، ثقة، صدوقاً، ديِّناً. سمع منه مشايخه وأقرانه، وحدَّثنا عنه جماعة"(12).
وقال فيه الذهبي: "الحافظ البارع العلاَّمة... وكان ذكيّاً فَهِماً، سريع الكتابة مليحها. درَّس وأفتى، ووعظ وأملى، وكتب عمَّن دبَّ ودرج... وكان ثقة، حافظاً، حجَّة، واسع الرحلة، عدلاً، ديِّناً، جميل السيرة، حسن الصحبة، كثير المحفوظ..."(13).
وقال ابن العماد: "وفيها -يعني سنة اثنتين وستين وخمسمئة- الحافظ أبو سعد السَّمعاني، تاج الإسلام عبد الكريم بن محمد بن منصور المروزي الشافعي، محدِّث المشرق، وصاحب التصانيف الكثيرة، والفوائد الغزيرة، والرحلة الواسعة..."(14).
وفاتـــــه:
بعد هذا التطواف المستمر، والعمل الدؤوب أفلتْ شمس هذا العالم الحاذق، ليُسجَّل اسمه في سجل الخالدين، وذلك بمرو سنة اثنتين وستين وخمسمئة، وله من العمر ست وخمسون سنة.
*****************
الهوامش والإحالات:
1- "لسان العرب" لابن منظور، مادة (نسب).
2- كتاب "العصبية القبلية وأثرها في الشعر الأموي" للدكتور إحسان النص: ص11.
3- مقدمة "اللباب في تهذيب الأنساب": ص 7.
4- مثل عربي قديم، أورده الميداني في "مجمع الأمثال" 2/136. والفَرا -بفتح الفاء والراء- الحمار الوحشي، وجمعه: فِراء.
5- مقدمة "اللباب في تهذيب الأنساب" ص 7-8.
6- "أنساب السمعاني" 12/58، و "معجم البلدان" لياقوت: 5/275.
7- "أنساب السمعاني" 12/110، و "معجم البلدان" لياقوت: 5/292. 8- "أنساب السمعاني" 12/430، و "معجم البلدان" لياقوت: 5/452.
9- انظر بحثاً قيِّماً كتبه الأستاذ محمود الأرناؤوط في كتابه "عناقيد ثقافية" ص 89/90 حول إسهام المستشرق الإنجليزي مرجليوث في نشر كتاب "الأنساب" مصوراً.
10- مقدمة "الأنساب" ص 15/16.
11- مقدمة "الأنساب" ص 16-17.
12- "سير أعلام النبلاء" 20/462، و "طبقات علماء الحديث" 4/94.
13- "تذكرة الحفاظ" 4/1316.
14- "شذرات الذهب" 6/340-341.
1 - وقد أشرف على القسم الأول والذي يضم تراجم حرف (السين) بتمامها الأستاذ المحدِّث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط كما هو مبين في المقدمة التي كتبها الأستاذ محمد عوّامة.