• ×

جُدة في صدر الإسلام

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

جُدة في صدر الإسلام
د/عدنان عبدالبديع اليافي
25/1/2012م

تقع مدينة جُدة في المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية على الساحل الشرقي للبحر الأحمر بين دائرتي عرض 25َ-21ْ ، 4َ5-21ْ شمالاً ، وخطي طول 5َ-39ْ ، 20َ-39ْ وسط ساحل البحر الأحمر تقريباً وعلى مسافات متقاربة من مجموعة الموانئ الرئيسية على البحر الأحمر(1).
وهي الميناء الرئيس للمملكة العربية السعودية ,هذا الكيان الكبير الذي أسسه ووحد أرجاءه وأَمَّنَ طرقه جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله - .
وجُدة مدينة عريقة شرفها الله تعالى منذ القدم بأن جعلها ميناء لمكة المكرمة وفرضه لها .
وقد ورد ذكر جُدة في كثير من المصادر التاريخية المعتمدة وتحدث عنها رحالة كثر في كتاباتهم , فقدموا وصفاً لها ولأهلها ولمساكنهم وملابسهم وأسواقهم وغير ذلك , وتحدثوا عن سورها, وذكروا مساجدها, ووصفوها وصفاً دقيقاً مفصلاً, مما أعطانا صوراً جلية لجُدة عبر الأزمنة وعلى مر العصور .
وتبين المصادر التاريخية المختلفة قِدْم مدينة جُدة, حتى أن العديد من هذه المصادر, تنسب جُدة إلى أم البشر حواء, أو تنسب السيدة حواء إليها . وفي هذا السياق وعلى سبيل المثال لا الحصر يذكر مؤرخ مكة المعروف جار الله بن فهد المتوفي سنة (954هـ) أن الفاكهي روى بسنده إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن قبر حواء بجُدة" (2) .
واسم جُده قديم لم يتغير على مر العصور بخلاف كثير من المدن والبلدان التي تغيرت أسماؤها مثل العاصمة الأردنية عمان والتي كانت قديماً تسمى فيلادلفيا ، وتايلند التي كانت تدعى سيام, كما أن البحرين كانت تسمى "أوال" وكانت أيضاً تدعى "دلمون" ، وكانت اليمن تعرف بسبأ . ومؤخراً تغير اسم بورما فأصبح "منمار" , بينما بقيت جُدة تسمى جُدة لم يتغير اسمها على مر العصور ومنذ قديم الزمن .
جُدة القديمة الاسم والمسمى:
يعطي مؤرخ جُدة الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري رحمه الله دليلاً على قِدم جُدة وقِدم اسمها فيقول: "وجُدة قديمة الاسم والمسمى وقد ذكرها شاعر حجازي في جاهلية بعيده عن عصر عثمان بن عفان (رضي الله عنه) ووصفها بالسعة .. سعة الأرض .. كما وصفها بهذا الوصف نفسه شاعر حجازي إسلامي قبل نحو قرنين .
وليست (جُدة) مطلقا ببلد بُني , لأول مرة , في عهد عثمان , أو عُرف , لأول مره في عهده . إن التاريخ يقول: أنها أبعد نجعة من ذلك بكثير .. ليست جُده جديدة .. " (3).
وتوجد عدة دلائل مادية على قِدم استيطان البشر لجُدة . كما توجد مؤشرات تدل على أن جُدة كانت معروفة منذ أكثر من ألفي عام على أقل تقدير .
ويناقش مؤرخ جُدة الشيخ عبدالقدوس الأنصاري رحمه الله في كتابه المعروف " موسوعة تاريخ مدينة جُدة " بعض هذه الدلائل والمؤشرات فيقول : " ومما يدل على قِدْم جُدة أن الإسكندر المقدوني جاء مكة في حياة النضر بن كنانة ، ثم قطع البحر من جُدة يؤم بلاد المغرب" . ويبين الأنصاري رحمه الله أن الإسكندر عاش في القرن الرابع قبل الميلاد " 356 323 ق . م . ".
ثم يقول الأنصاري بعد ذلك: " إن المكتب الهندسي الاستشاري ضَمَّنَ تقريره المكتوب سنة 1380هـ رأيه بعد الفحص والتأمل ، والبحث العلمي والفني .. يقول هذا التقرير: " جُدة القديمة تكون بحد ذاتها مرتفعاً أو تله ، ويُعتقد أن ذلك ناجم عن قِدمها حيث أنه من الظواهر المألوفة أن يرتفع منسوب الأماكن المأهولة مع الزمن بالنسبة إلى قِدَمِها وذلك بسبب جلب المواد إليها وخاصة مواد البناء ، ولعل سكان جُدة الأقدمين قد استفادوا من تقبب بلدتهم لحمايتها من السيول التي تأتي بغزارة في كثير من الأحيان " .
ثم يتحدث الأنصاري ( وغيره) عن أنه: ورد في نقش ثمودي عُثِرَ عليه في " وادي بويب" على بعد 15 كيلومتراً شمال شرقي جُدة تضرع يطلب فيه " ناقشه الثمودي" من الله ( عز وجل) أن يمنحه الكمال والود والسلام ، ويذكر هذا الناقش الثمودي الذي يبدو أن اسمه هو : " ساكت بن يعشن" ، أن إنساناً اسمه أو اسمها: ( جمأت ، جمعة) ,أصيبت بالحمى".
ثم يستنتج الأنصاري من هذا النقش ما يلي : أن الثموديين نزلوا جُدة قبل قُضاعة أو معها أو بعدها .وأن سكناهم بمنطقتها التي منها وادي بويب ، قد تكون سكنى استقرار وإقامة دائمة(4) .
وورد في معجم ياقوت ( وغيره من المصادر) مؤشراً آخر لقِدَمِ مدينة جُدة وقِدَمْ معرفة العرب بها , ولقِدَمْ تسميتها باسمها الحالي إذ يقول ياقوت: إن أبا المنذر قال: " وبجُدة وُلِدَ جُدة بن حزم بن ريان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة فسُمي جُدة باسم الموضع "(5) (ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن بعض المصادر تذكر أن اسم حفيد قضاعة هذا هو: جُدة بن جرم بن ربان).
ويعلق الأنصاري على هذه التسمية وأهميتها فيقول: " وإذا تذكرنا أن قضاعة على رأي هو الابن الثاني لمعد بن عدنان ، والأول هو نزار وتذكرنا أن معداً هو الجد لتاسع عشر لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، حينئذٍ ندرك قدم اتخاذ جُدة منزلاً لقضاعة وأبنائه(6).
ويقول الأنصاري أيضاً: إن من رواد مدينة جُدة قديماً عمرو بن لحي الخزاعي , وينقل رواية هشام بن محمد بن السائب الكلبي الذي يقول فيها أن: " أبو خزاعة عمرو بن لحي أتى إلى شاطئ جُدة"(7) .
من كل ذلك وغيره يستنتج الأنصاري أن جُدة: مدينة قديمة وأنها كانت معروفة منذ فترة ما قبل الإسلام بنفس الاسم الذي نطلقه عليها اليوم.
يقول الأنصاري: " جُدة أعرق في القِدَمْ مما كنا نتصوره ، وأن أهل الجاهلية كانوا يعرفونها باسمها ومسماها . وإتيان عمرو بن لحي إليها واستثارته لأرضها ، لإخراج ما دفن بها من الأصنام بسبب عوامل قدم الزمان ، وتقلب الأحوال فيه دليل واضح على مدى قِدم جُدة ، وعلى أنها كانت مدينة تتمتع بعمران زاخر وسكان وافرين مترفين "(8).
ثم يقول الأنصاري:" وقد يبدو أن جُدة بعد ذلك الازدهار العمراني والثقافي والاجتماعي والاقتصادي ، أصابها ما أصاب سواها من الاندثار ، بعوامل قد يكون من بينها الجفاف العام الذي سيطر على بلاد العرب في سالف الحقب بسبب التبدلات التي طرأت على قشرة الأرض من جراء عوامل تبدل المناخ وتقلص المياه واندفاق البحار إلى جهة ، وانحسارها عن جهة أخرى ، وما إلى ذلك " إلى أن يقول :" بقيت آثار حضارتها (جُدة) محفوظة في طيات أرضها تنتظر المنقبين . وقد يكون من أسباب اندثار حضارتها وباء مجتاح وفد إليها من خارج أو من داخل ، كحمى البرداء " الملاريا" مثلاً فمات من مات منهم به وذهب آخرون منهم إلى جهات أخرى".
كما يضيف الأنصاري:" وقد يكون سبب اندثارها ناتجاً من اجتياح غزاة "(9).
وإذا أردنا أن نلقي نظرة على تاريخ جُدة في الفترة التي سبقت مباشرة ظهور الرسالة المحمدية, على صاحبها أفضل الصلاة والسلام, فإننا نجد العديد من الدلائل ولمؤشرات التي تقودنا إلى استنتاج أن جُدة كانت معروفة عند العرب عامة وأهل مكة خاصة في تلك الفترة وأنها كانت ميناء لمكة ثم أصبحت الشعيبة ميناء مكة الرئيس مع بقاء جُدة كميناء رديف (مع الشعيبة) لمكة المكرمة. (ومن المعروف أن جُدة عادت فيما بعد ميناء وحيداً لمكة المكرمة عام 26 هجرية بأمر من الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه) .
ولإثبات ذلك يستشهد الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري رحمه الله بما ذكره ياقوت الحموي عندما قال : رمى البحر بسفينة إلى جُدة فابتاعت قريش خشبها واستعانت به على بناء الكعبة.
ويقول الأنصاري أيضاً: " يُجمع المؤرخون وكتاب السيرة النبوية والرحالون العرب القدامى والمحدثون على أن جُدة لم تستكشف في عهد عثمان وإنما أعيد جعلها مرفأ لمكة المكرمة في عهده بعد ما استقرت أوضاع العرب في إطار الإسلام" (10).
وفي ذات السياق يقول مؤرخ جُدة , المؤرخ المكي الشهير الشيخ أحمد بن محمد بن أحمد الحضراوي المكي الشافعي المتوفى سنة 1327هـ: أنه في السيرة الحلبية وغيرها أن قريشا حين بنوا الكعبة المشرفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم , وكان البحر قد رمى بسفينة إلى ساحل جُدة وكان ساحل مكة الذي قبل ذلك يرمي به السفن يقال له الشعيبة بضم الشين المعجمة فلا يخالف قول غير واحد فلما كانت السفينة بالشعيبة ساحل مكة انكسرت , وقيل: كانت تلك السفينة لقيصر ملك الروم , يُحمل له فيها الرخام والخشب والحديد, فلما بلغت مرساها من جُدة , وقيل من الشعيبة بعث الله عليها ريحا فحطمها , فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها (11).
ومن المعروف أن ابتياع قريش لخشب تلك السفينة كان بغرض إعادة بناء الكعبة المشرفة للمرة الثامنة وكان ذلك في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام بقليل وشارك النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك البناء قبل الرسالة .
وعندما شع نور الإسلام في مكة المكرمة وظهرت أعظم رسالة, على صاحبها أفضل الصلاة والسلام , كانت جُدة عندئذٍ هي خزانة مكة المكرمة ومستودعاً لقريش وكانت معروفة وآهلة وإنا كنا لا نعرف عدد سكانها آنذاك على وجه الدقة . وتعطي بعض المصادر مؤشرات ودلائل لذلك ، فعلى سبيل المثال يقول الأستاذ محمد صادق دياب -رحمه الله- في كتابه الشهير(جُدة التاريخ والحياة الاجتماعية):"استمرت جُدة مرفأ مساعدا لمكة المكرمة إلى جانب الشعيبة ومستودعاً تجارياً لقريش , وحينما أسر المسلمون في بدر, نوفل بن الحارث طلب رسول الله, صلى الله عليه وسلم, من نوفل أن يفدي نفسه برماحه التي بجُدة وكانت ألف رمح "(12).
نوفل بن الحارث يفدي نفسه برماحه التي كان يخزنها في جدة:
وفي ترجمة لحياة الصحابي الجليل نوفل بن الحارث رضي الله عنه, أورد ابن سعد (المتوفى سنة 230هـ) في " الطبقات" قصة افتداء نوفل نفسه برماحه التي كان يخزنها في جدة عندما أسره المسلمون في بدر وسننقل بعض ما ذكره ابن سعد بتصرف .
عن هذا الحدث الهام يقول ابن سعد :
نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ، وأمه غزية بنت قيس بن طريف بن عبدالعزي بن عامرْ بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر . وكان لنوفل بن الحارث من الولد الحارث , وبه كان يكنى وكان رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد صحبه وروى عنه ووُلد له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ابنه عبدالله بن الحارث ، وعبدالله بن نوفل وكان يُشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أول من ولي قضاء المدينة المنورة ، فقال أبو هريرة : هذا أول قاضٍ رأيته في الإسلام ، وذلك في خلافة معاوية بن أبي سفيان" .
وينقل ابن سعد رواية هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: لما أخرج المشركون من كان بمكة من بني هاشم إلى بدر كُرهاً كان فيهم نوفل بن الحارث فأنشأ يقول :
حرام علىّ حرب أحمد إنني أرى أحمداً مني قريباً أواصره
وإن تك فهر ألبتْ وتجمعتْ عليهِ فإن الله لا شك ناصره
قال هشام وأما معروف بن الخربوذ فأنشد لنوفل بن الحارث :
فقل لقريش ايلبى وتحزبي عليه فإن الله لا شك ناصِرهُ
ثم يقول ابن سعد: قال : أخبرنا علي بن عيسى النوفلي عن أبيه عن عمه اسحق بن عبدالله بن الحارث عن عبدالله بن الحارث بن نوفل قال : لما أُسِرَ نوفل بن الحارث ببدر قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أفد نفسك يا نوفل ، قال : ما لي شيء أفدي به نفسي يا رسول الله ، قال : أفد نفسك برماحك التي بجُدة ، قال : أشهد أنك رسول الله(لأنه لم يكن يعرف عن قصة الرماح أحد غيره) . ففدى نفسه بها وكانت ألف رمح .
وأسلم نوفل بن الحارث ، وكان أسن من أسلم من بني هاشم . أسن من عمه حمزة والعباس . وأسن من أخوته ربيعة وأبي سفيان وعبد شمس بني الحارث . ورجع نوفل إلى مكة ثم هاجر هو والعباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أيام الخندق (13) .
من هذه القصة يمكن الاستنتاج أن جُدة كانت معروفة وآهلة ويتاجر أهلها مع المكيين منذ فترة ما قبل الإسلام, وأن قريشاً كانت تستعملها مخزناً لها . كما يمكن الاستنتاج من نفس الحدث كذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرفها . بل وكما سيأتي لاحقا استعمل عليها الحارث بن نوفل بن الحارث (وهو ابن الصحابي الجليل نوفل بن الحارث صاحب الرماح التي كانت مخزنة في جُدة) كأول أمير عليها .
فإذا كانت جُدة كما ذكرنا معروفة وآهلة زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا تكون كذلك في عهود خلفائه الراشدين من بعده , أبوبكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين كما يقول البعض .
وكدليل آخر على وجود جُدة وعمرانها وأهميتها في فترة صدر الإسلام يبين الأستاذ الدياب رحمه الله- أن الرسول, صلى الله عليه وسلم, (وقيل الخليفة أبوبكر الصديق, رضي الله عنه) عين أميراً لها .
يقول الدياب: "ويقال : أن الحارث بن نوفل (ابن الحارث),رضي الله عنهما, هو أول أمير اُستعمِلَ على جُدة في الإسلام . وتتباين الأقوال حول زمن تلك الإمارة , فمنهم من كان يرجعها إلى عهد الرسول, صلى الله عليه وسلم, ومنهم من يردها إلى عهد أبوبكر الصديق, رضي الله عنه, (14) .
ولا شك أن خبر هذه الإمارة هو دليل آخر على أن جُدة كانت معروفة ومأهولة في صدر الإسلام منذ زمن الرسالة وفي عهود الخلفاء الراشدين ,رضي الله عنهم, بل وقبل ذلك .
ولاية الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب أميرا على جُدة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ولأهمية هذه الولاية في إثبات عمران جُدة وأنها كانت آهلة في عهد الرسالة وعصر الخلفاء الراشدين, نورد بعضاً مما قاله الفاسي عنها في (العقد الثمين) , أحد أهم المصادر التاريخية المكية .
يقول المؤرخ المكي الشهير الإمام تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي المتوفي سنة 832هـ: الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب بن هاشم الهاشمي : أمير مكة , فيما قيل . قال الواقدي: "كان الحارث بن نوفل على عهد رسول الله ,صلى الله عليه وسلم, رجلا , وأسلم عند إسلام أبيه نوفل" .
ويقول الفاسي رحمه الله أيضاً:
وقال مصعب الزبيري: "صحب رسول الله ,صلى الله عليه وسلم , وَوُلد له على عهده عبدالله بن الحارث الذي يقال له: ببه".
ثم يستطرد الفاسي قائلاً: وقال غيرهما: ولي أبوبكر الصديق الحارث بن نوفل مكة , ثم انتقل إلى البصرة من المدينة . واختط بالبصرة داراً في ولاية عبدالله بن عامر . ومات بها في آخر ولاية عثمان, رضي الله عنه .
ثم يقول الفاسي: وقد تعقب ابن الأثير قول من قال: إن الصديق ولي الحارث هذا مكة , لأنه قال: قلت: قول ابن عمر: إن أبا بكر ولى الحارث مكة وهم منه , إنما كان الأمير بمكة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه , عتاب بن أسيد على القول الصحيح . وإنما النبي ,صلى الله عليه وسلم, أستعمل الحارث على جُدة . فلهذا لم يشهد حنيناً , فعزله أبوبكر ,رضي الله عنه, فلما ولي عثمان ولاه ، ثم انتقل إلى البصرة.
ويقول الفاسي رحمه الله: أن الحارث بن نوفل روى عن النبي, صلى الله عليه وسلم, وعن عائشة , وعنه ابنه عبدالله , وحفيده الحارث بن عبدالله , وأبو مجلز لاحق بن حميد (15) .
وقد جاء في كتاب (الطبقات الكبرى) لابن سعد المتوفي سنة (230هـ) ترجمة لحياة هذا الصحابي الجليل (الحارث بن نوفل) والذي كان أول أمير لجُدة أمره إياها رسول الله, صلى الله عليه وسلم .
يقول ابن سعد: "واستعمل ,صلى الله عليه وسلم , الحارث بن نوفل على بعض أعمال مكة ثم ولاه أبوبكر وعمر وعثمان مكة ".
ومن المعروف أن جُدة هي من أعمال مكة المكرمة .ولعل الحارث اختير على ولاية جُدة لِقدَمِ معرفته بها , فكما ورد سابقاً فقد كان لأبيه نوفل بن الحارث ,رضي الله عنه, أعمالاً تجارية في جُدة مثل استيراد الرماح إليها, وتخزين هذه الأسلحة في مخازن في جُدة , وليس بالمستغرب أن يكون الحارث رضي الله عنه قد ساعد أباه نوفل رضي الله عنه في أعماله التجارية تلك في جُدة , مما أكسبه معرفة بهذه البلدة التي ولاه أمرها رسول الله , صلى الله عليه وسلم , فيما بعد ، فأصبح أول أميراً لها في الإسلام (16) .
ولا شك أن الحاجة لهذه الإمارة هي دليل آخر على أن جُدة كانت آهلة عامرة في ذلك الوقت مما استلزم أن يُولي عليها أميراً يدير شؤونها وشؤون أهلها .
وهنالك مؤشراً آخر يدل على قِدَمْ جُدة ويبين أنها كانت معروفة في عهد النبي ,صلى الله عليه وسلم , وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين, بل ومنذ زمن الجاهلية وقبلها, ذلك هو خبر هروب صفوان بن أمية إلى جُدة يوم فتح مكة المكرمة .ويثبت هذا الخبر أيضاً أن جُدة كانت مستخدمة من قِبلِ أهل مكة المكرمة كميناء يبحرون منها في تجارتهم وأسفارهم وغير ذلك .
هذا الخبر يورده الشيخ أحمد بن محمد الحضراوي في كتابه الذي يؤرخ فيه لجُدة الجواهر المعدة في فضائل جُدة) فيقول .
"وفي "معالم التنزيل" في (سورة الفتح) بعد أن ساق قصة الفتح يوم فتح مكة: قال عروة بن الزبير: خرج صفوان بن أمية يريد جُدة ليركب منها إلى اليمن , فقال عمير بن وهب الجمحي: يا نبي الله , إن صفوان بن أمية سيد قومه , وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فأَمَّنَهُ صلى الله عليه وسلم, وقال: هو آمن , قال: يا رسول الله أعطني شيئا يعرف به أمانك , فأعطاه رسول الله ,صلى الله عليه وسلم, عمامته التي دخل فيها مكة , فخرج بها عمير , حتى أدركه بجُدة , وهو يريد أن يركب البحر , فقال: يا صفوان فداك أبي وأمي , أذكرك الله في نفسك أن لا تهلكها ,فهذا أمان رسول الله ,صلى الله عليه وسلم, قد جئتك به , فقال: ويلك أغرب عني فلا تكلمني , قال: أي صفوان فداك أبي وأمي , أفضل الناس , وأبر الناس , وأحلم الناس وخير الناس , ابن عمك , عزه عزك , وشرفه شرفك , وملكه ملكك , قال: إني أخافه على نفسي , قال: هو أحلم من ذلك وأكرم , قال: فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله ,صلى الله عليه وسلم, فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك أمنتني قال: صدق الحديث انتهى" (17).
ومؤشر آخر يدل على قدم جدة ويبين أنها كانت معروفة في صدر الإسلام وعهد الرسالة وأزمنة الخلفاء الراشدين وقبل ذلك , هو ما رُوي من أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي وأهله سكنوا جُدة .
عن هذا الخبر يقول الرحالة المسلم ابن المجاور والذي قدم إلى جُدة في القرن السابع الهجري ورسم أقدم خريطة معروفة لجدة :
حدثني موسى بن مسعود النساج الشيرازي قال : لما أسلم سلمان الفارسي ، رضي الله عنه ، تسامع أهلوه بالخبر فقصدوه وأسلموا على يد رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وسكنوا جدة لأنهم كانوا تجاراً (18) .
ويورد هذا الخبر أيضاً مؤرخ مكة المعروف ، جار الله محمد بن عبدالعزيز بن عمر بن فهد القرشي الهاشمي المتوفى سنة 954هـ في كتابه " حُسن القِرى في أودية أم القُرى" فيقول :
" وسكنها (جُدة) سلمان الفارسي وأهله , لأنهم كانوا قوماً تجاراً" (19) .
كما أن من مؤشرات عمران جُدة منذ فجر الإسلام وأنها كانت مأهولة منذ زمن الرسالة (وزمن الخلفاء الراشدين فيما بعد) ، رواية ابن سعد التي نقلها الأستاذ محمد صادق دياب رحمه الله- عن قدوم أهل الحبشة إلى جُدة لغزوها .
يقول الدياب: "وروى ابن سعد أنه في السنة التاسعة للهجرة بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل جُدة قد شاهدوا قوما من الحبشة في مراكب بالبحر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزر المدلجي في ثلاثمائة رجل وأجبرهم على الفرار (20) .
وتفاصيل هذا الخبر نجُده في (الطبقات) حيث يورد ابن سعد قصة سَرِيّة علقمة بن مجزز المدلجي فيقول:
سَرِيّة علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة: "ثم سَرِيّة علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة في شهر ربيع الآخر سنة تسع من مُهاجر رسول الله , صلى الله عليه وسلم .
قالوا: بلغ رسول الله, صلى الله عليه وسلم , أن ناساً من الحبشة تراياهم (شاهدهم) أهل جُدة فبعث إليهم علقمة بن مجزز في ثلاثمائة(رجل) , فانتهى إلى جزيرة في البحر وقد خاض إليهم البحر فهربوا منه , فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهلهم فأذن لهم فتعجل عبدالله بن حذافة السهمي فيهم فأمّره على من تعجل (21) .
كما يقول الأستاذ محمد صادق دياب-رحمه الله-: "ومما يدل على أن جُدة كانت في ذلك الوقت (زمن الرسول, صلى الله عليه وسلم) مرفأ إلى جانب الشعيبة هذا الخبر الذي أورده ابن سعد وابن عبدالبر وغيرهما , حيث قالوا: قدم الأشعرون على رسول الله صلى الله علية وسلم وهم خمسون رجلا فيهم أبو موسى الأشعري , وإخوة لهم , ومعهم رجلان من عك , وقدموا في سفن في البحر وخرجوا بجُدة فلما دنوا من المدينة جعلوا يقولون:
غدا نلقى الأحبة محمد وحزبه
ثم قدموا فوجدوا رسول الله ,صلى الله عليه وسلم, في سفره بخيبر (22) .
ومن دلائل قِدم جده وأنها كانت آهلة ومعروفة في زمن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما ذكره الأستاذ الدياب من أنه في عهد عمر بن الخطاب, رضي الله عنه, أنشئ جامع الأبنوس والجامع العتيق "الشافعي" وهما من أقدم مساجد جُدة على الإطلاق .
لا شك أن هذه الأحداث التي ذكرنا أعلاه , وغيرها, هي مؤشرات قوية على صحة استنتاج العديد من مؤرخي جُدة أمثال : الشيخ أحمد الحضراوي المتوفي سنة (1327هـ) ، والأستاذ عبدالقدوس الأنصاري المتوفي سنة (1403هـ) ، والأستاذ محمد صادق دياب المتوفي سنة (1432هـ) , ممن قالوا بأن: أن جُدة لم تستكشف في عهد عثمان بن عفان, رضي الله عنه, وإنما كانت معروفة ومأهولة قبل ذلك بل ، وكانت ميناء لمكة قبل الشعيبة ثم أعيد جعلها مرفأ لمكة في زمن خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وبينوا أن جُدة كانت ميناء مساعداً لمكة المكرمة بجانب الشعيبة منذ عهد الرسالة وحتى أعادها الخليفة عثمان بن عفان, رضي الله عنه, ميناءً وحيداً لمكة المكرمة عام 26 هجرية .
فعلى سبيل المثال يقول المؤرخ أحمد الحضراوي: "فهذا الخبر والذي قبله من القصة المتقدم ذِكرُهُما يُشعران بأن جُدة هي إسكله (ميناء) مكة من أيام النبي, صلى الله عليه وسلم" (23) .
ويقول عبدالقدوس الأنصاري في هذا الشأن: "يجمع المؤرخون وكتاب السيرة النبوية والرحالون العرب القدامى والمحدثون على أن جُدة لم تستكشف في عهد عثمان وإنما أعيد جعلها مرفأ لمكة المكرمة في عهده بعد ما استقرت أوضاع العرب في إطار الإسلام .. وكثرت موارد التجارات البحرية فقد ضاقت قريش أو سكان مكة المكرمة على الأعم ذرعا ببعد ميناء الشعيبة عن مكة المكرمة , فطلبوا إلى عثمان, رضي الله عنه, أن يعيد (جُدة) مرفأ لمكة المكرمة كما كان عليه الحال قبلا لقربها منها (24).
ويرى الأستاذ محمد صادق دياب رحمه الله - في هذا السياق , أنه من المقبول القول بأنه تم بناء المسجد الشافعي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب , وبأمره , رضي الله عنه, حيث قال الدياب رحمه الله:
وفي تقديري أن قرار الخليفة الثالث عثمان بن عفان, رضي الله عنه, بجعل جُدة ميناء لمكة المكرمة بدلا من الشعيبة لا يعني بالضرورة نفي وجود أي شكل من أشكال الحياة الاجتماعية قبل ذلك التاريخ في جُدة بصوره يمكن معها القبول باحتمال أن يكون هذا المسجد (الشافعي) قد بنى بأمر الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ,رضي الله عنه (25) .
هكذا كانت جُدة في عهد الرسول ,صلى الله عليه وسلم, وفي أزمنة خلفائه الراشدين من بعده , بلداً عامراً آهلاً معروفاً , وكانت ميناءً لمكة المكرمة يبحر منه المكيين بالإضافة لميناء الشعيبة المعروف في تجارتهم وأسفارهم, وتم بناء مسجدين بها في صدر الإسلام بأمر من الخليفة الراشد عمر بن الخطاب, رضي الله عنه, وهما المسجد الذي نطلق عليه اليوم مسجد الشافعي الذي كان يسمى قديماً الجامع العتيق, ومسجد الأبنوس المعروف اليوم بزاوية عثمان بن عفان . وهذان المسجدان ما زالا قائمان ومستخدمان في جُدة إلى يومنا هذا .
د/عدنان عبدالبديع اليافي 25/1/2012م
المصادر والمراجع:
1- اليافي ، عدنان عبدالبديع : جدة في شذرات الغزاوي ، مطابع جريدة المدينة ، حده ، (1431هـ - 2010م) ، ص/53 .
2- ابن فهد, جار الله محمد بن عبدالعزيز: حسن القرى في أودية أم القرى, تحقيق الدكتور على عمر, مكتبة الثقافة الدينية, القاهرة , (1422هـ - 2001م) , ص/27 .
3- الأنصاري ، عبدالقدوس :إصلاحات في لغة الكتابة والأدب,دار المنهل , جده ,(1427هـ-2001م),ص/251 .
4- الأنصاري ، عبدالقدوس : موسوعة تاريخ مدينة جُدة ، المجلد الأول ، الطبعة الثالثة ، دار مصر للطباعة ، القاهرة ، (1402هـ - 1982م) ، ص/(72-73).
5- ياقوت الحموي ، شهاب الدين أبي عبدالله ياقوت بن عبدالله : معجم البلدان ، المجلد الثاني ج/3، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، (1416هـ - 1996م) ، ص/39.
6- الأنصاري ، عبدالقدوس : موسوعة تاريخ مدينة جُدة ، مصدر سابق ، ص/31.
7- المصدر السابق ، ص/66.
8- المصدر السابق ، ص/(66 67).
9- المصدر السابق ، ص/68.
10- الأنصاري ، عبدالقدوس : إصلاحات في لغة الكتابة والأدب ، مصدر سابق ، ص/246.
11- الحضراوي , أحمد بن محمد: الجواهر المعدة في فضائل جُدة , تحقيق د. علي عمر , مكتبة الثقافة الدينية , القاهرة, (1427هـ-2006م) , ص/17 .
12- الدياب , محمد صادق: جُدة التاريخ والحياة الاجتماعية, الطبعة الثانية , مطابع مؤسسة المدينة للصحافة (دار العلم) , جُدة , (1424هـ) , ص/16 .
13- ابن سعد , محمد: الطبقات الكبرى , المجلد الرابع , تحقيق د. إحسان عباس , دار صادر , بيروت , (د.ت) , ص/44-46 .
14- الدياب , محمد صادق: جُدة التاريخ والحياة الاجتماعية , مصدر سابق ,ص/16.
15- الفاسي, محمد بن أحمد: العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين , المجلد الثالث , تحقيق محمد عبدالقادر أحمد عطا, دار الكتب العلمية, بيروت , (1419هـ-1998م) , ص/311-313 .
16- ابن سعد , محمد: الطبقات الكبرى , المجلد الرابع, تحقيق إحسان عباس , مصدر سابق, ص/56-57 .
17- الحضراوي , أحمد بن محمد: الجواهر المعدة في فضائل جُدة , مصدر سابق , ص/17-18 .
18- ابن المجاور ، يوسف بن يعقوب : تاريخ المستبصر ، تحقيق ممدوح حسن محمد ، مكتبة الثقافة الدينية ، القاهرة ، (1996م) ، ص/55 .
19- ابن فهد ، جار الله محمد بن عبدالعزيز بن عمر : حُسن القِرى في أودية أم القرى ، مصدر سابق ، ص/28.
20- الدياب , محمد صادق: جُدة التاريخ والحياة الاجتماعية , مصدر سابق ,ص/16.
21- ابن سعد: محمد:الطيقات الكبرى , المجلد الثاني , مصدر سابق , ص/163 .
22- الدياب , محمد صادق: جُدة التاريخ والحياة الاجتماعية , مصدر سابق ,ص/16-17 .
23- الحضراوي , أحمد بن محمد: الجواهر المعدة في فضائل جُدة , مصدر سابق , ص/18 .
24- الأنصاري, عبدالقدوس: إصلاحات في لغة الكتابة والأدب , مصدر سابق ، ص/246 .
25- الدياب , محمد صادق: جُدة التاريخ والحياة الاجتماعية, مصدر سابق,ص/87 .

بواسطة : hashim
 1  0  10925
التعليقات ( 1 )

الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    20-03-33 01:54 مساءً الشريف ثامر الشنبري :
    جُدة في صدر الإسلام- بحث شيق -

    بارك الله فيك وفي علمك د/عدنان عبدالبديع اليافي
-->