وصف كتاب المقتبس لأبي مروان بن حيان القرطبي شيخ مؤرخي
الأندلس والغرب الإسلامي
الأندلس والغرب الإسلامي
يحتل كتاب " المقتبس" موضعا هاما في التراث التاريخي الأندلسي، وهو لم يبلغ هذه الدرجة من الأهمية في أزمنة متأخرة، بل عرف الشهرة بمجرد خروجه إلى ساحة الأدب التاريخي؛ فقد وصفه آنذاك أحد كبار المضطلعين الأندلسيين بأنه:" من أجل كتاب ألف في هذا المعنى"
.
وهو كما سبق ذكره جزء من ستة أجزاء تاريخية خرجها لنا أبو مروان بن حيان مختلفة الأغراض، متفقة المعنى، تعد زبد الكتابة التاريخية الاندلسية، ويمثل "المقتبس" واسطة عقد تواريخه هذه، باعتبار أنه كان المتوسط في الجمع- فيما يبدو- بين جميع مؤلفاته، والمتوسط في القيمة الأدبية والتاريخية من حيث كمه، والمتوسط من حيث الأثر التاريخي ثم الأدبي لأبي مروان فيه.
كما أن المقتبس يحتل-وسط مؤلفاته الأخرى- الصدارة من حيث التسلسل الزماني التاريخي؛ فأبو مروان قصد من وراء مؤلفاته التأريخ الشمولي الموضوعي لأخبار بلاد الأندلس، من أول أن وطأت أقدام الفاتحين أرضها، إلى أواخر أيامه العقد الستين من القرن الخامس الهجري؛ وقد قسم ذلك قسمتين باعتبار أصول المادة التاريخية ، قسمة أولى أرخ فيها للعصر الإسلامي الأول الذي يضم فترة حكم الولاة( من يوم الأحد لخمس خلون من شوال سنة 92هـ/710م- إلى يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة 138هـ/755م)، وعهد الاموية المروانية بفترتيها الاميرية والخلافية (من عشر ذي الحجة سنة 138هـ/755م-إلى ذي الحجة سنة 422هـ/1031م)، واستثنى منها عهد الدولة العامرية التي لم يكن للدولة المروانية فيها إلا اسم الخلافة، ومرحلة الفتنة مثيلتها في بعد المروانية عن الحكم الواقعي لجميع بلاد الاندلس، اللتين ضمهما لقسمته الثانية من تاريخه للأندلس، المخصصة لأخبار فتنتها، والمضمنة في كتابه الكبير الموسوم بـ" المتين" وبعض تواريخه المختزلة منه.
والفارق بين القسمتين من حيث المادة التاريخية ظاهر، فالقسمة الأولى قد استمدت مادتها بصفة غالبة من المصادر التاريخية والأدبية التي سبقت أو عاصرت مؤرخنا، فهي عرية في أكثرها عن المساهمة الإخبارية له؛ فالمقتبس تاريخ اقتباسي محض؛ لكن فائدته جليلة وغايته نبيلة، جليلة من حيث أنه حفظ لنا روايات تاريخية شديدة الأهمية، متعددة الطرق والوجوه، من مصادر لم يصلنا منها إلا نزر قليل؛ ونبيلة من حيث أن صاحبها قصد الإنصاف في انتقائه لها، من جهة إيراده للروايات المختلفة التي ربما مثلت اختلافات التيارات الفكرية والحزبية، رغم ما كلفه ذلك من تجهم جمع ومقابلة، ومخالفة للولاءات والميول، والقسمة الثانية تمثل الوجهة الإخبارية التاريخية لأبي مروان، العرية فيما يبدو عن أي اقتباس من تواليف غيره، المقصورة على الروايات الشفوية، والمشاهدات الحسية.
كان جنوح أبي مروان نحو الاقتباس جنوحا مقصودا، قد شابه شيء من الاضطرار، ذلك أن الفترة التي كان بصدد التأريخ لها ألفها خارجة عن زمانه الذاتي، وقد منعته روايته التاريخية الإخبارية الضئيلة أن تمده بما يكفيه لوضع مؤلف مستقل لهذه الفترة الطويلة من التاريخ الاندلسي، فالرجل لم يكن بوسعه إلا الاقتباس، ولا غرو في ذلك، إذا ما كان الاقتباس قائما على أسس ممنهجة، وضوابط فكرية مثبتة، وحصافة تاريخية موثقة، وهل يوجد اليوم تاريخي إلا هو مقتبس في الحقيقة؟
أما الكتاب في خد ذاته فهو مجموع كبير يقع في عشرة أسفار ، أرخ فيها أبو مروان لفترة طويلة من التاريخ الأندلسي، والظاهر أنه وضع وخرج مؤلفه هذا في أواخر الربع الاول من القرن الخامس الهجري أو بعيده بقليل، كما يبدو أن الكتاب قد ألف في نسق واحد، وفي فترة زمنية قصيرة، كأنما أراد صاحبه الإسراع في تخريجه، على أنه يظهر أيضا أنه أضاف إليه بعض الإلحاق مما ظفر به بعد، وذلك ظاهر من بعض ملحقات كلامه ؛ ولعل أبا مروان ألف الكتاب بطلب أو ليهديه لأحد ملوك الطوائف، وأقربهم في ذلك أبو الوليد بن جهور ، الذي كان مؤرخا لدولته وأحد رجالاتها.
اختلف كثيرا في ضبط عنوان هذا المؤلف بين المتقدمين والمتأخرين، فابن حزم يسميه:" التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس" ، ويصفه آخر فيسميه:"اخبار قرطبة"
، وجاء في مخطوطة مكتبة البودليانة بأكسفورد (بريطانيا) بـ: " المقتبس في تاريخ رجال الاندلس" ، وجاء في نسخة المجمع التاريخي الملكي بمدريد، عن مخطوطة مكتبة أولاد سيدي حمودة بقسنطينة (الجزائر) عنوانها :"المقتبس في أخبار بلد الاندلس" وأغرب اسماعيل العربي فجاء في نشرته عن مخطوطة مكتبة البودليانة عنوانه " المقتبس في تاريخ الاندلس"، وجاء عنوانه في مخطوطة عهد الحكم المستنصر: " المقتبس في أخبار بلد الاندلس" ، والمرجح من هذه العناوين ما ذكر ابن الأبار وهو :" المقتبس من أنباء أهل الاندلس"، ذكره في موضعين من تواريخه بنفس الرسم ، وإليه مال محمود علي مكي وهو الأقرب إلى الصواب؛ فابن الأبار من أهل التحقيق في مثل هذا.
كما اختلف أيضا في ضبط رسم كلمة "المقتبس" فجمهرة المستشرقين أمثال رينهارت دوزي (ت 1883م)، وبونس بويغس، وملشور أنطونية وليفي بروفنصال وغريسيه غومس على ضبطه بالباء التحتانية المكسورة، أي بصيغة إسم الفاعل، وهذه الصيغة سليمة من حيث اللغة والمعنى لكن نرجح ما آثره محمود على مكي وإسمعيل العربي وهي صيغة اسم المفعول أي بالتحتانية المفتوحة؛ لأنها الصيغة الاكثر شيوعا في الاستعمال عند المؤلفين الإسلاميين، فلا تكاد تجدهم يعنونون باسم الفاعل إلا في النادر العزيز، وقد شاع لفظ "المقتبس" بالفتح بين المؤلفين السابقين واللاحقين لابن حيان .
يؤرخ ابن حيان في كتاب المقتبس للإسلام بالأندلس، منذ بدء دخوله إلى نهاية عهد الحكم المستنصر (366هـ/976م)، فيما عرف عند أبي مروان بـ" عصر الجماعة" ، وذهب البعض إلى أنه يؤرخ إلى زمن الفتنة العامرية(399هـ/1008م)، واعتبروا كتابه "الدولة العامرية" موصولا به . والمقتبس تاريخ قائم على ذكر ترتيبي تسلسلي زماني حولي لرجالات الحكم ممن كان رأسا للجماعة الإسلامية وأيامهم، ابتدأه من أول ولاتها إلى آخرهم وهويوسف بن عبد الرحمن الفهري، ثم ملوك الإمارة الأموية المروانية ابتداء من عبد الرحمن الداخل إلى عبد الرحمن الناصر إلى الحكم المستنصر، مع ذكر للحوادث في أزمنتهم، وأخبار بيوتاتهم ، ورجالات دولتهم، وأعيان ونبهاء زمانهم، واعتنى بأخبار الدولة الأموية بشكل خاص لولائه فيها؛ ولأنها جسدت في نظره "عصر الجماعة" الذي قابله "عصر الفتنة" الذي انحل فيه عقدها ، كما أراد أن يؤرخ لتلك الحاضرة العظمى (قرطبة)، التي بها نشأ وإليها انتسب، وبها قضى نحبه، أم مدائن الغرب الإسلامي.
لقد ضاعت أكثر أجزاء كتاب المقتبس ولم يصلنا منه إلا خمس قطع مبعثرة على عدد من الحكام الأمويين؛ فمن العشرة أسفار التي يتألف منها الكتاب وصلنا نحو السفرين وشيء، وهما:
1- جزء من السفر الثاني: يحوي الجزئين الأول والثاني، وقد قام بتحقيقهما محمود علي مكي، والسفر ناقص الأول، و يمثل نهاية السفر .
2- جزء من السفر الثالث: يحوي الجزء الثالث، وقد قام بتحقيقه ملتشور أنطونية ثم اسماعيل العربي، ويمثل الجزء الأخير من السفر .
3- جزء من السفر الخامس: يحوي الجزء الرابع، وقد قام بتحقيقه بـدرو شالمتا مع جمع من الباحثين، ويمثل الجزء الأخير من السفر .
4- جزء من السفر الأخير(العاشر): ويحوي الجزء الخامس وقد قام بتحقيقه عبد الرحمن على حجي، ويبدو أنه الجزء الاخير من السفر، ومن الكتاب أيضا .
أما نسخه ومخطوطاته فهي:
1- مخطوطه المكتبة البودليانة باكسفورد (Bodleyana-oxford ) وهي متعلقة بإمارة الأمير عبد الله محمد الأموي (275هـ300هـ/888م-912م) موجود منها نسخة بالمكتبة الوطنية بمدريد، والمخطوطة غير سوية ، كثيرة الأخطاء، قام بنشرها ملتشور أنظونية سنة 1937م،وأعاد نشرها اسمعيل العربي سنة 1990 .
2- نسخة عن المخطوطة التي كانت بحوزة ورثة مكتبة سيدي حمودة بقسنطينة، وقد عثر عليها المستشرق فانيان ضمن مجموع، واستنسخها المستشرق كوديرا (Francisco Godera) ،احتفظت بتلك النسخة مكتبة الاكادمية التاريخية بمدريد في وقت ضاعت فيه المخطوطة الاصلية. هذه النسخة لا تضم، إلا سنوات 360هـ إلى 364هـ من عهد الحكم المستنصر وقد قام بنشرها عبد الرحمن علي حجي سنة 1965م.
3- مخطوطة مكتبة جامع القرويين بفاس، عثر عليها المستشرق ليفي بروفنصال، وهي تحوي عهدي الحكم الربضي (180هـ-206هـ/796م-821م) وعبد الرحمن ابن الحكم (206هـ-238هـ/821م-852م)، وقد قام بتحقيقها هذا المستشرق إلا أنها لم تطبع ، ثم ضاعت المخطوطة لتعود من جديد بتحقيق محمود علي مكي سنة 2001 .
4- مخطوطة مكتبة جامع القرويين بفاس، وتمثل بقية المخطوط السابقة الذكر، تبدأ من سنة 232هـ (846م) إلى سنة 267هـ(880م)، وتؤرخ للسنوات الأخيرة من إمارة عبد الرحمان بن الحكم ومعظم إمارة محمد بن عبد الرحمان (238هـ-273هـ/852م-886م)، وتشتمل على خمسة وتسعين ورقة، وهي التي اعتنى بتحقيقها محمود علي مكي، وطبعت سنة 1973 .
5- مخطوطة خزانة القصر الملكي بالرباط، أعلن عن اكتشافها محمد عبد الله عنان سنة 1965م، وهي أكبر قطع المقتبس الموجودة حاليا، حيث تحوي 165 ورقة، وتتناول السنوات الثلاثين الأولى لعهد عبد الرحمن الناصر (300هـ 350هـ/912م-961م)، وقد حققها ونشرها المستشرق بدرو شالميتا بمساعدة فيديريكو كورينتي، ومحمود صبح سنة 1979 .
أصبح كتاب" المقتبس" أحد أهم المؤلفات التاريخية الأندلسية والإسلامية في زمن صاحبه، وقد ذكره ابن حزم في رسالته في فضل أهل الاندلس فقال، " ومنها كتاب التاريخ في أخبار أهل الأندلس تأليف أبي مروان بن حيان، نحو عشرة أسفار، من أجل كتاب ألف في هذا المعنى" . وظاهر من هذا أن الكتاب قد أصبح ذائعا في زمنه، وأن الأيدي تداولته، كما أنه أضحى أهم المصادر التاريخية الاندلسية بعد صاحبه، لكثرة من اعتمد عليه في مغارب ومشارق البلاد الإسلامية، حتى نسبت إليه خطأ بعض المختصرات .
ورغم هذا أجحف بعض المحدثين من المؤرخين في حق هذا المؤلف أثناء معارضتهم له بالمتين تأليفه الآخر، ومنهم: وبونس بويغس، ومورينو نيتو، وملتشور أنظونية؛ ورينهارت دوزي الذي يقول في هذا:"مهما كبرت فضائل المقتبس، يبقى هذا المؤلف مجرد حولية، أحسن صياغة دون شك من غيرها، ولكن دون أن تكون تاريخا بالمعنى التام، ومن المقتبس إلى المتين المؤلف الذي كتب فيه ابن حيان تاريخ زمانه، هناك تطور كبير، إن المتين تاريخ حقيقي" .
وقد جادلهم في هذه المعارضة غريسيه غومس حيث رأى أن هذه المباينة في الفكر التاريخي الحياني في ثنايا المقتبس و المتين ترجع إلى أن ابن حيان:"لم يكن المؤلف الحقيقي لكتاب المقتبس، بل هذا الكتاب ما هو إلى مجموعة من التواريخ المجمعة من أصحابها" .
والحق أن كلا الفريقين قد استهان بهذا المؤلف ولم يستبن لهما القدر الحقيقي للفكر التاريخي الحياني من خلاله، وعلى رغم فضل كتاب"المتين" فسيتبين لنا عبر هذه الدراسة ( سنقدم بقيتها بعد إن شاء الله ) قيمة كتاب المقتبس، وقيمة منهج صاحبه فيه؛ على الرغم من طبيعة تأليفه القائمة على منهج الاقتباس والتي لم تحد من طبيعة فكره المميز إلى الحد الذي ظهر لهؤلاء الباحثين والمؤرخين.مشاركة ابن وراد العلوي
بقلم الاخ/ ابو الوليد الاندلسي من منتدى التاريخ
http://vb.altareekh.com/t44247/