وجدانيات -2
(( صورة أحفادي على شاشة هاتفي))
(( صورة أحفادي على شاشة هاتفي))
تتقشَّعُ عن قلبي رُكاماتٌ من الهمومِ عندما تُطِلُّ عليَّ صورة وجوهكم الصَّبوحة الوَضَّاءة من واجهة شاشة هاتفي الجوَّال ،فتبدوا لي من أعماق سويداء قلبي كضياءِ صُبحٍ جميلٍ بَهِيج.. مُبشِّراً بميلادِ وشروقِ شمسِ يومٍ جديد،لأنكم أنتم أحبابي وقُرَّة عيني " سعد الدين، وزين الشَّرَف، ومحمد " أحفادي وأبنائي مرتين، أنتم ذلك الضياء لمستقبلٍ مُشرِقٍ جميل بحولٍ من المولى الجليل. وبمناسبة ذكر الأحفاد أقص عليكم أحبابي سعد، وزين، ومحمد، هذه الذكرى.
ذات يومٍ في ماضياتِ السنين، وقفتُ على شاطئ " خليج نصف القمر" بالمنطقة الشرقية الحبيبة حيث كنتُ أعمل مُربياً ومُعلِّما، - وحيث صادف أنكم تعيشون بها هذه الأيام مع والديكم-، أقول في عصريّة ذلك اليوم عند الأصيل وقف قُربي جَدٌّ مع أحفاده الصِغَار كفِراخِ الأَوِز وهم يلعبون ويلهون في مياه ذلك الشاطئ الجميل، صياحهم وأصواتهم الصغيرة تختلط بأصوات أمواج الشاطئ الهادئة، مُكوِّنة نغمات سيمفونية جميلة، جعلتني أغيبُ هنيهاتٍ في تفكير جميل وعميقٌ،عميق،.. تراءَتْ لي فيه الرُّؤى والأحلام والأُمنيات،.. كأنني قرأتُ في تلك الهنيهات، في ذلك الماضي البعيد..عندما كنتُ فيهِ شابّاً غَضَّ الإهاب يَحْلُمُ بِغَدٍ مُشرِقٍ جميل..، كأنني قرَأتُ فيهِ مُقبلَ أيامي في طياتِ صحائفِ الأيّام.
اقْتَرَبَ مِنّي ذلك الجَدُّ وحيَّاني،وتعارفنا وجلسنا نتجاذَبُ أطراف الحديث فوجدتُ فيه انساناً مثقَّفاً وخفيف الظِّل ففي اثناء حديثنا رأينا وسمعنا موجة صغيرة تتقافَزُ من داخل الشاطئ كأنها تُغيرُ علينا لتخيفنا وتُمازِحَنا ولَطَمَتْ أرض الشاطئ وانساحت كأنها تتمدَّدُ عليه لتُلاعِبنا كطفلٍ صغير عندها قال جليسي ذلك الجَدّ وهويضحك مخاطباً تلك الموجة "بس يابحر" ــ وهو اسم "فلمٍ" كويتي ظهر في تلك الأيَّام يحكي قصة رجال الكويت مع الغوص وركوب البحر لاستخراج اللؤلؤ من كَبِدِ وأحشاء مياه الخليج ــ فضحكنا وتبسَّم عصافيرهُ الصَّغاروهم ينظرون إلينا وهم لايعلمون لماذا نضحك،لاهين بحفر تراب الشاطئ وتكويمه في حِجُورِهم الصغيرة،واستمرَّ حديثنا وتشعَّب، فتارة نتكلَّم في الأدب وتارة في التاريخ والسياسة ونلعن الاحتلال الصهيوني للأرض العربية في فلسطين، والمستَعْمِرِين المُغْتَصِبِين لأراضي وخيرات المستضعفين في العالم،وتارة نتحدث عن التعليم والعلوم ومستقبل العلم، فذكر لي أنَّه في يومٍ من الأيَّام كان مُعَلِّما أخذ التقاعد قبل أشْهُرٍ قليلة وهو يَنْعُمُ الآن بالهدوء الى جانب بناته وأحفاده الصغار مِنْهُنّ ويساعدهن في تربيتهم والعناية بهم،قُلْتُ له وكذلك أنا أعملُ مُعلِّما قضيتُ في مدينة " طريف"عامين ونصف ونُقِلْتُ هذا العام الى الدمام حيث أعمل الآن،وأخيراً نظر الى ساعته، فقمنا نَنْفُضُ أيدينا من تراب الشاطئ وقال لي مودعاً سُرِرْتُ وتشرّفتُ بمعرِفَتِك وأرجو لك مستقبلا سعيدا،.. في أمان الله.
وعند ما أَخَذَتْ عينُ الشمسِ تغفو، لتنامَ في أحضانِ الأفقِ الوردي البعيد، حتى تناهَتْ إلى مسامعي صيحات أولئك الصغار مُقلِّدين جدّهم لوداعي، مع السّلامه.. مع السلامه..مع السلامه..،وتلاشت صيحاتهم الصغيرة في هذا الكون الكبير وهم يبتعدون عن الشاطئ الهادئ الحالم،.. وعن نظري.
وما دريتُ يا أحبابي وأحفادي، سعد الدين ، وزين الشَّرَف ، ومحمد، أنني ساُرزق بكم وأسعَدُ بكم كما سَعُدَ ذلك الجَدُّ الذي كنتُ قريباً منه على ذلك الشاطئ الجميل في ساعةٍ من سويعات أصيل يومٍ من الأيّام خَلَتْ من سنين ماضياتٍ طواها الزمان، لا أعرِفُ كيف؟ أهي سنين طويله، أم هي سنون قصيرة!!! أهي أعوامٌ سعيدة أم سنين تَلبَّدَتْ عليها الغيوم؟!!! ياإلهي، كيف قَضَتْ تلك السنين ومَضَتْ!!!، ومعها ما انقَضَتْ ذكرياتٌ وشجون وأحلام، بقيَ صداها في وِجداني ردحاً من الزمانِ طويلا.
في طيَّاتها كان هناك يومٌ أسودٌ حزين،في ذلك اليوم.. عندما جاءني والدها وهو في حالة ذهول وقال لي:لقد ذَهَبَتْ...لقد غادَرَتْ...قُلتُ من؟!!قال هيَ.. من هيَ؟!! فلانه.. ماذا؟!! ماذا قلت؟!! قال: قُلتُ لكَ..فلانه، غادرتنا، ولن تعود..فجلَستُ من هول الخبر دون حِراك..، وشَرَدَتْ من ذهني كُلُّ الكلمات.. للحظاتٍ خِلتُها طويلة..فتذكَّرتُ ربِّي.. فرجعتُ إليه، فخفّفَ عنِّي هولَ المُصَاب.. كان ذلك في يوم من الأيَّام في ديار الشمال، من أيَّام مدينة " طريف" الشَّاتية الباردة القارسة ورياح الشمال تَصْفُرُ.. لازال صداها في مَسْمَعِي، عندما احتَضَنَتْهَا أرضٌ بعيدة..لايمكن منها أن تعود.
وبعد أن أهالَ التُّرَبيُ فوق قبرها التراب.. رجعنا حَزَانَى مكلومين.. مذهولين..فبكت أُمُّها..وبكى أبوها ..وبكى اخوتها..وبكى جيرانها وصويحباتها كما لم يبكوا..وبكيتُ في خلوتي،أنا عاثِرَ الحظِ .. كما لم أبكِ فكانت ركامة من سحابات الأسى والحُزنِ ثقيلة، رَمَتْ بكاهلها عليَ، وبِثِقَلِهَا على صدري، أتجرَّعُهُ سنين طالَتْ عليَّ فيها الليالي، وبقيَ صداها في خاطري كما:-
في بحارٍ تئنُّ فيها الرِّياحُ ضاعَ فيها المِجدَافُ والملاَّحُ
ولكن.. كُلُ ذلك يُخَفِّفُهُ عني، وربما في يومٍ من الأيَّام يزول.. وذلك، عندما أراكم أيها الأحباب سعد،وزين،ومحمد، وأنتم تَدْرُجُونَ في أرض المطار مع والدتكم آتينَ إلينا لتُسعِدونا،وتُنسُونا همومَ الحياةِ وأحزانها مع والدتكم الحبيبة إبنتي رحاب التي تظلُّ في خزائنِ عقلي وقلبي صغيرة مهما كَبُرَتْ، أطير فرحاً عند رؤيتها طيِّبة وفي صحة جيدة، تحوطكم برعايتها وحنانها، كما أحوطكم جميعاً معها بحنان الأبوَّة مرتين،وبحول الله ستكبُرُون، وتكبُرُأكثر والدتكم إبنتي رحاب معكم، وستتذكَّرون جدَّكم عندما كان يستقبلكم في المطار وماذا كان يقول لكم..، وماذا كان يكتبُ لكم.. أم لا أعلم بعدها هل:-
بعد حينٍ قد يُبَدِّل الحُبُّ دارا والعصافيرُ تهجُرُ الأوكارا
وديارٌ كانت قديماً ديــارا سترانا كما نراها قِفَارا
كما أنشدها الشاعر" جورج جورداق" في قصيدته الرائعة " هذه ليلتي وحُلْمُ حياتي"
أَمْ أنَّ الأقدارَ قد جَرَتْ، وكُتِبَتْ في صفحاتها رُؤى أحلامي في أيَّامي الخوالي؟!!!..
جدُّكم ومُحِبُّكم
عبد العزيز بن الحسين بن علي بن احمد بن منصورالكريمي
مكة المكرمة الرصيفه 28 / 7 / 1432هـ 30/6/2011م
عبد العزيز بن الحسين بن علي بن احمد بن منصورالكريمي
مكة المكرمة الرصيفه 28 / 7 / 1432هـ 30/6/2011م