الغلو في الإسلام مفهومه وأسبابه
الحمدلله وكفى والصلاة والسلام على المصطفى .......................... وبعد هذه المقالة هي خلاصة أبحاث قام بها مجموعة من العلماء والباحثين في مؤتمر الوسطية في القرآن والسنة؛ لخصتها وأضفت إليها بعض الآراء، ثم قدمتها لكم ليستفيد القارئ ولتعم الفائدة.
الغلو لفظة شرعية وردت في الكتاب والسنة وهي من غلا إذ زاد وارتفع وجاوز الحد، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم).
وجاء في السنة: عن ابن عباس رضي الله عنه : لما جمع النبي صلى الله عليه وسلم الجمرات أمره أن يلقط له حصى صغارا وقال : " بمثل هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " . رواه أحمد والنسائي.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم { هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ. هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ }. (أخرجه مسلم)
والمتنطعون هم - كما قال شراح الحديث - المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم. والغلو هو مجاوزة الحد والحد هو النص الشرعي على فهم سلف الأمة الذين شهدوا التنزيل وفهموا مقاصد الشرع الحكيم .
أحيانا يطلق على لفظ التطرف الأصولية ، وأحيانا الإرهاب دون الإجماع على تحديد مفاهيم هذه المصطلحات الثلاثة ولذا فإن المصطلح الشرعي وهو الغلو ومجاوزة الحد في السلوك أو الاعتقاد أو العبادة .
والتطرف في اللغة: مشتق من الطرف أي الناحية، أو منتهى الشيء وتطرف أتى الطرف، وجاوز حد الاعتدال ولم يتوسط. وإذا كان التطرف هو الميل إلى أحد الطرفين فهو ضد الوسطية والاعتدال وهو ميل إما إلى غلو وإما ميل إلى تساهل وإلغاء .
والغلو نوعان :
-الأول : غلو اعتقادي : كغلو النصارى في عيسى ابن مريم عليه السلام ، وغلو الرافضة في الأئمة ، وغلو الصوفية في الأولياء ، وغلو الخوارج في تكفير أهل الإسلام بالكبيرة والذنب .
- الثاني : غلو عملي : وهو المتعلق بالأمور العملية التفصيلية من الأقوال والأفعال بما لا يترتب عليه اعتقاد مثل رمي الجمار بالحصى الكبيرة ، والزيادة في العبادات كالوصال في الصوم والتبتل بعدم الزواج والرهبنة في الدين . وقد جاء ذلك واضحا في حديث الثلاثة نفر، جاء ثلاثة نفر من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحركت فيهم الديانة وحب الخير فجاءوا إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهن عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبرنهم بذلك وكأنهم تقالوا عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قالوا أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم أما أنا فأصلي ولا أنام وقال الأخر أما أنا فأصوم ولا أفطر وقال الثالث أما أنا فلا أتزوج النساء يريد التبتل عبادة يرد التعبد لله وقال رابع أنا لا أكل اللحم يريد أن يضيق على نفسه فلم بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم خبرهم غضب صلى الله عليه وسلم لأن هذا طريق انحراف بحيث أنهم يضنون أنه طريق صواب فخطب صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا أما أنا فأصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء"، وفي رواية: "وأكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني" .
إن قضية الغلو في الدين لم تكن وليدة اليوم فهي عند اليهود وأحبارهم وعند النصارى في رهبانهم، وظهرت في الخوارج في الإسلام ، وظهرت عند المتصوفة ، وعند كثير من الفرق التي انتسبت إلى الإسلام ، ولذا لابد من بيان إظهار الحق عملا بقوله صلى الله عليه وسلم : " الدين النصيحة " رواه مسلم . وقد تناول هذا الموضوع كثير من الغربيين والعلمانيين وأطلقوا لفظ الأصولية والإرهاب والتطرف على الإسلام، وقد تكلم المتخصص وغير المتخصص، فالأولى أن يتحدث عنها حملة العلم الشرعي.
بعد حادث 11 سبتمبر، تم شحن العالم كله بموضوع الإرهاب والتطرف. وقد أصبح من الواضح عبر الصياغة الإعلامية أن التطرف والأصولية والإرهاب إنما هي ألفاظ لصيقة بالإسلام والمسلمين وليس لها علاقة بممارسات بعض الدول المحتلة التي تستولي على الشعوب وتنهب خيراتها كحال إسرائيل مع الفلسطينيين مثلا .كما يجب أن يكون واضحا أن الذين يتكلمون عن التطرف والإرهاب والأصولية بقصد التنفير أو التحريض أو التحذير أو الإشارة إنما يخلطون الأوراق بين من يغلو حقيقة وبين من يلتزم بالإسلام .
فعندهم أن المحجبة والداعي للحكم بشريعة الله تعالى متطرف، وهذا الخلط مقصود منه وقف المد الإسلامي وضرب الصحوة الإسلامية العريضة وتنفير الناس من الإسلام فهم إنما يحاربون الإسلام في حقيقة تعاليمه وليس التطرف .
والذي نود التأكيد عليه هنا، أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه هو المقياس.
يقول الشيخ بن عثيمين رحمه الله في رسالته (الاعتدال في الدعوة) ومحذرا الدعاة من الغلو: يجب أن لا نجعل المقياس في الشدة واللين هو ما تمليه علينا أهواؤنا وأذواقنا، بل يجب أن نجعل المقياس، هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم، رسم لنا هذا بقوله وبفعله وبحاله صلى الله عليه وسلم، رسمه لنا رسمًا بيّنًا، فإذا دار الأمر بين أن أشدّد أو أيسّر، بمعنى أنني كنت في موقف حرج لا أدري الفائدة في الشدة أم الفائدة في التيسير والتسهيل، فأيهما أسلك؟ أسلك طريق التيسير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: { إن الدين يسر}،ولما بعث معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال: { يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا } ، ولما مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال السّام عليك يا محمد - يريد الموت عليك؛ لأن السام بمعنى الموت - وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم، عائشة رضي الله عنها فقالت: (عليك السّام واللعنة ) فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: {إن الله رفيق يحب الرفق، وإن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف} فإذا أخذنا بهذا الحديث في الجملة الأخيرة منه: (إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف) عرفنا أنه إذا دار الأمر بين أن أستعمل الشدة، أو أستعمل السهولة كان الأولى أن أستعمل السهولة ثقة بقول الرسول عليه الصلاة والسلام:{إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف }، ومن أراد أن يفهم هذا الأمر فليجرب؛ لأنك إذا قابلت المدعو بالشدة اشمأز ونفر وقابلك بشدة مثلها، إن كان عامّيًا قال: عندي علماء أعلم منك، وإن كان طالب علم ذهب يجادلك، حتى بالباطل الذي تراه مثل الشمس، وهو يراه مثل الشمس، ولكنه يأبى إلا أن ينتصر لنفسه؛ لأنه لم يجد منك رفقًا ولينًا، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. والحق لا يخفى إلا على أحد رجلين: إما معرض وإما مستكبر، أما من أقبل على الحق بإذعان وانقياد فإنه بلا شك سيوفق له.(انتهى كلامه)
والسؤال الذي يطرح نفسه : ماهي أسباب الغلو؟
يجمع الباحثون في قضية التطرف والغلو لها عدة أسباب؛ منها ما هو سياسي ، ومنها ما هو تربوي ، ومنها ما هو نفسي، (شخصي) ومنها ما هو اقتصادي ، ومنها ما هو ثقافي ، ومنها ما هو مجتمعي .
أولا :الجهل بعدم معرفة حكم الله تعالى مع الغيرة على دين الله وتعظيم الحرمات وشدة الخوف من الله ، فلا يتحمل الإنسان أن يرى من أخيه المسلم معصية كبيرة ، ولا يتصور أن تصدر هذه الكبيرة من مسلم ، لذا فسرعان ما ينقله من دائرة الإسلام إلى خارجها . وهذا الجهل ناتج عن غياب الوعي الديني والفهم العميق للنصوص وربما أدى به ذلك إلى الجرأة على الأحكام الشرعية ، ومعالجة النوازل من غير أهل الاختصاص دون فهم للنصوص الشرعية ومعرفة مقاصد الأحكام والإلمام بأسرار اللغة والرجوع لمن شاهد التنزيل وفهم التأويل .
والجهل يعالج بإثباته أولا من خلال تخطئته وإبراز الصواب أي بالعلم والمناظرة والمناصحة وقد ناظر ابن عباس الخوارج بأمر على رضي الله عنه فرجع منهم أربعة آلاف . وبعث عمر بن عبد العزيز رحمه الله من يناظرهم في عهده فرجع منهم ألفي إنسان وهكذا على أهل العلم فتح صدورهم ومجالسهم للسؤال والإجابة على أسئلة الشباب وشبها تهم والاقتراب منهم والنزول إلى ميدانهم لرفع الجهل عنهم ولقطع الطريق على من يتصدر من غير أهل العلم.
ثانيا : الهوى المؤدي للتعسف في تأويل النصوص ولي أعناق الآيات والأحاديث طلبا للشهرة والرياسة والزعامة وقد وافق ذلك نفسية مريضة منحرفة فهي تميل إلى العنف والحدة والانحراف مما يؤدي إلى إسقاط الثقة بالعلماء ، ويستقل الإنسان بنفسه وفهمه ورأيه .
ثالثا : أسباب تتعلق بواقع المجتمع الإسلامي:
إن الانحلال الخلقي المدعوم أحيانا بالقانون تحت غطاء الحرية هو أحد أسباب حصول التطرف و الغلو . فمظاهر الرذيلة التي يشاهدها المسلم خاصة في المجتمعات الإسلامية في الشارع والمدرسة والجامعة والإعلام الرسمي والصحافة والإذاعة والأسواق من ناحية ،والاستهزاء بالدين وحملته وتشويه صورته ومحاربته، ومحاصرة رجل الدين في فكره وإغلاق منافذ التعبير عليه ،كل ذلك من أسباب نشوء التطرف والإرهاب وردة الفعل القاسية وإن كانت غير مبررة إلا أننا نبحث في الأسباب .
رابعا : أسباب سياسية :
تتعلق بواقع الأمة الخارجي من احتلال أراضيها وقتل أبنائها وهتك عرض بناتها ومصادرة ثرواتها وكشف أستارها وإسقاط هيبتها فما يحصل في أفغانستان والعراق وفلسطين لا شك أنه سينعكس انتقاما في نفوس الشباب وسيكون وقودا صالحا للاشتغال متى ما أتيحت الفرصة . كما الزج بآلاف الشباب في السجون والمعتقلات تحت غطاء المحاكمات الصورية ومداهمة منازلهم وحرق سمعتهم والتشهير بهم ومنعهم من ممارسة حرية التعبير بل حتى حرية العبادة كالحجاب أو اللحية أو الصلوات في المساجد أو المطالبة بتطبيق الشريعة وتعرضهم لأقصى درجات التعذيب والإهانة وسحق الإنسانية كل ذلك كفيل في أن يولد لنا تطرفا وغلوا وإرهابا .
خامسا : الأوضاع الاقتصادية :
ونخاطب بها أولئك النافذين الذين استكثروا على شعوبهم أن يشاركوهم الحياة فاستأثروا بالثروات والمؤسسات والشركات وعاشوا حياة البذخ والسرف من السرقات والرشاوى والنفوذ واستغلال السلطة في ظل وجود طبقة محرومة تعيش دون مستوى الفقر ، بل تصل إلى حد العدم ولا تملك شيئا ولا يمكنهم الحصول على شيء إلا من خلال التسول وإراقة ماء الوجه ، وإهدار كرامة الإنسان بل بعضهم اضطر إلى بيع عرضه والتخلي عن شرفه من أجل أن يعيش ، فماذا نتوقع من ألوف من الجامعيين العاطلين عن العمل وآلاف من البنات العازبات عن الزواج بسبب نقص ذات اليد لدى الشباب مع ارتفاع تكاليف الحياة والمعيشة ، إنه وبحكم الطبيعة البشرية سيرتفع مستوى الحقد والحسد والتحامل والتطرف والنقمة على الآخر الغني الذي كان سبب غناه هو استئثاره بالسلطة أو ربما أنه من الحزب الحاكم أو غيره ، ولك أن تتصور ما يفعل الفقر في الإنسان من أمراض جسدية يعجز عن علاجها وأمراض نفسية يورثها الفقر والهم والتفكير بالغد وعدم قدرة على التعليم بل ولا على العيش ، ويوافق ذلك هوى في النفس ومجاميع عاطلة تتوافق نفسيا مع بعضها من حيث مبدأ التحامل على النظام بسبب الفقر والفاقة مما يؤجج روح العداء ويذكي نار التطرف تحت مسمى الدين أو غيره .
سادسا : الفراغ الروحي الذي يحيط بالشباب :
إن عدم وجود ما يشبع رغبات الشباب خاصة إذا وافق ذلك بطالة وعدم وجود سبل الرزق وكسب العيش ، كفيل في ضياعهم وربما انحرافهم مما يسهل توجيههم واستغلالهم من قبل أي إنسان كان وحسب رغبته وخططه وربما كان هذا الفراغ سببا للجريمة والإفساد في المجتمع وقد قالوا :
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة
سابعا: الجوانب الشخصية والنفسية المحيطة بالشخص:
هناك نماذج شخصية، تغلغلت فيها أزمات سابقة، وخصائص نفسية مرضية، اتصفت بعدة صفات ، منه:
-التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر.
- إلزام جمهور الناس بما لم يلزمهم الله به:
- التشدد في غير موضعه :
- الغلظة والخشونة :
- سوء الظن بالناس :
- النظرة المثالية للمجتمع :
ومن مزاجية هؤلاء القوم، الإنشغال بالمعارك الجانبية عن القضايا الكبرى وهي ومن دلائل عدم الرسوخ في العلم ومظاهر ضعف البصيرة في الدين اشتغال البعض من هؤلاء بكثير من المسائل الجزئية والأمور الفرعية عن القضايا الكبرى التي تتعلق بوجود الأمة الاسلامية وهويتها ومصيرها ، فنرى كثير منهم يقيم الدنيا ولا يقعدها من أجل مسائل فرعية اختلف فيها العلماء سلفا وخلفا ولا مصير الى اتفاقهم فيها لانها من المسائل الاجتهادية الفرعية التي تتفاوت فيها الأفهام وتتعارض فيها الأدلة .
ومن مزاجية هذه الشخصيات تظخيم الأمور، والاسراف في التحريم ( بغير دليل) : ومن دلائل عدم الرسوخ في فقه الدين الميل دائما الى التضييق والتشديد والاسراف في القول بالتحريم مع تحذير القرآن الكريم والسنة والسلف من ذلك ،
ومن دلائل أمزجة هذه الشخصيات، إتباع المتشابهات وترك المحكمات : المتشابه هو ماكان محتمل المعنى وغير منضبط المدلول ، والمحكم هو البين المعنى الواضح الدلاله المحدد المفهوم ، ان غلاة اليوم يعتمدون على المتشابهات في تكفير الأمة واستحلال دمائها ولو ردوا المتشابه الى المحكم لحكموا بالعدل والحق.
وأخيرا فإن الإسلام جاء بالوسطية، والاعتدال، وقد تظافرت النصوص من القرآن والسنة، لتحقيق هذا الاتجاه، وهو ما بيناه في حلقات سابقة.
نسأل الله الهداية للجميع، وصلى الله على سيدنا محمد.
جمع وتلخيص:
الدكتور الشريف إبراهيم بن يوسف بن علي الأقصم الخواجي
الدكتور الشريف إبراهيم بن يوسف بن علي الأقصم الخواجي