فن التحقيق .. ثقافة موسوعية
عبدالله الرستم
عبدالله الرستم
يعتبر تحقيق الكُتُب من المَسَائِل التي تحتاجها الساحة بِشَكْلٍ مُلحّ، سواءً للشخص المُحقِّق أو للكتاب المُحقَّق، باعتبار أن كتب التراث بحاجةٍ إلى أن تخرج للساحة بحلّة جديدة لتزويدِ القُرّاء بثقافةِ بعض المؤلفين الذي رحلوا ولم يتسنّ لهم طباعة ما خطّهُ يراعُهم، وفَنُّ التحقيقِ يحتاج إلى شخصٍ يمتلك قُدرةً كبيرةً من الجُهدِ الذهني والعلمي ليتسنى له أن يجعل من الكتاب مادةً سهلة التناول عند عشّاق القراءة، لأنه كالشمعة التي تحترق لتضيء للآخرين.
فقد كتب في هذا الفن الكثير من العُلماء، كالدكتور عبدالسلام هارون -رحمه الله- في كتابه (تحقيق النصوص ونشرها)، والدكتور عبدالهادي الفضلي -حفظهُ الله وشافاه- في كتابه (تحقيق التراث)، وغيرهما كثير، وقد أجاد هذان العالِمان فيما كتباه، باعتبارهما أصحابَ فنٍّ وتجربةٍ عريقةٍ في مراجعة وتحقيق الكتب المخطوطة، إضافة إلى ذلك إسهامهما في إثراء المكتبة العربية بوضع مادة دسمة تستحق القراءة فيمن له اهتمام بتحقيق كتب التراث، كذلك فقد قدّما للمكتبةِ العربيّة بعض الكتب التراثية التي قاموا على تحقيقها ونشرها، وهذا ممّا ساعد القُرّاء البحث عن النسخ المحققة باسمهما.
فمع ما ذكرتُ إلا أنّ هناك وللأسف شريحة كبيرة دخلت هذا الميدان بدون علم، مثل: أن يقوم إنسان ليس له اطّلاع أو اهتمام بعلم الحديث ليُقحم نفسه في هذا العلم الواسع ويحقق كتابًا في الحديث، أو أن يأتي إنسانٌ ما ليس له اطّلاع بالمسائل القرآنية ويحقق كتابًا في علوم القرآن الكريم... الخ، وهذا تجاوزٌ أرجو أن لا يستشري في ساحتنا الثقافية والعلميّة، لأن بعض الكتب تحتاج إلى قراءة أخرى كحياة المؤلف والعصر الذي عاش فيه والثقافة التي عاشها وسبب تأليفه الكتاب وغيرها من المسائل التي تستوجب من المحقق الوقوف عليها، حتى لا يتعرض للإهانة وهو غنيٌ عنها. فبمراجعة سريعة على بعض الكتب المُحقَّقة نرى هناكَ بعض التجاوزات عند بعض المحققين الذين ليس لديهم علمٌ في هذا الفن، ففن التحقيق بحاجة إلى ثقافة موسوعية شأنها إضفاء معلومات على الكتاب المُحقَّق تفيد القارئ، وكلّما كان المحقِّق صاحب علمٍ، خَرَجَ الكتاب وتلقّفهُ أصحاب الاهتمام، لذا فعلى المحقق أن يحقق الكتب التي تخضع تحت اهتماماته وتخصصه فهو بلا شك سيكون أكثر الناس معرفة بالمقاصد واللغة التي يكتب بها أولئك المصنّفون.
نعم .. للتحقيق أشكال كثيرة، كأن يقوم المحقق بإخراج الكتاب من ظُلُمَاتِ الخَزَائن، إلى أرفف المكتبات، وهو ما يعبَّر عنهُ بضَبْطِ النص، وهذا جُهدٌ يُشكر عليه صاحبه، وهو في الواقع إنقاذٌ لتلك النسخة الذي ظلّت حبيسةَ الخزائن، وهناك من يقارن بين النسخ في حال توافرها في خزائن الكتب العالمية، وأشكال كثيرة لهذا الفن، نرجو ممن يدخل في الميدان أن يكون طويل النَفَس، ليكون مفخرةً للعِلمِ والعُلماء ومحل تقدير الكل.
المصدر: صحيفة المدينة، ملحق الأربعاء، 1432/6/29 هـ