جُده بعدسة ذاكرة الرسامة البريطانية المسلمة سونيا ميلر
د/عدنان عبدالبديع اليافي
د/عدنان عبدالبديع اليافي
جُده ميناء المملكة العربية السعودية الرئيس تقع قرب وسط ساحل البحر الأحمر الشرقي مما اعطاها اهمية استراتيجية وتجارية منذ فجر التاريخ .
ولقد ازدادت أهمية هذا الثغر العريق عام (26هـ) عندما أمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه أن تعود جُده لتصبح الميناء الوحيد لمكة المكرمة.
ولقد جاء ذكر جُده في كثير من المصادر التاريخية وربطتها هذه المصادر دوما بمكة المكرمة وبالبحر.
فعلى سبيل المثال ، يقول الرحالة العربي المقدسي المعروف بالبشاري والذي زار هذه المدينة العريقة في القرن الرابع الهجري في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ", : أن "جُده مدينة على البحر" .
كما جاء في كتاب "معجم ما استعجم" لصاحبه عبدالله بن عبدالعزيز البكري الأندلسي المتوفي سنة 487هـ : " أن جُده ساحل مكة معروفة سميت بذلك لأنها حاضره البحر" , والجُده من البحر والنهر ما ولى البحر.
وقال الرحالة المسلم ابن المجاور عن هذه المدينة الذي زارها في القرن السابع الهجري ورسم أقدم خريطة معروفة لها:"أنها تحد جزيرة العرب غرباً"
وخريطة ابن المجاور هذه بالرغم من بساطتها إلا أنها هامة . رسمها ابن المجاور " بشكل مستدير" . وقد وضع الناحية الغربية من المدينة في المكان الذي توضع فيه الناحية الشمالية بالنسبة للخرائط الحديثة , كما وضع الناحية الشرقية منها في المكان الذي تكون فيه حديثا ناحية الجنوب, والناحية الشمالية في موضع ناحية الشرق, والجنوبية في مكان الغربية بالنسبة للخرائط العصرية .
وقال الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري رحمه الله- عن خريطة ابن المجاور هذه في كتابه (موسوعة تاريخ مدينة جُده) أنها "ساذجة" إلا أن الأنصاري بالرغم من ذلك يعود فيوضح أهمية هذه الخريطة عندما يقول: "أننا لم نعثر على خريطة خاصة بمدينة جُده مثلها وفي تاريخ وصفها أو أقدم منها".
وخريطة ابن المجاور هذه تبين التصاق جُده بالبحر كما تبين موقع الموضع الذي قيل أنه قبر أم البشر السيدة حواء .
وفي كتابه "صبح الأعشي" يصف أحمد بن علي القلقشندي المتوفي عام (821هـ) رحمه الله هذه البلدة قائلاً: "جُده بضم الجيم وتشديد الدال المهملة ثم هاء وهي فرضه مكة على ساحل بحر القلزم".
ومنذ أن استجاب أمير المؤمنين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه في العام السادس والعشرين من الهجرة لطلب أهل مكة وتجارها بأن تعود جُده كما كانت - ميناء لمكة المكرمة وأمر بذلك ، وازدادت أهمية هذا الميناء الاستراتيجي وترسخ دورها كبوابة لمكة المكرمة وأصبحت تتشرف بهذه الخاصية التي لا تتوفر لغيرها من المدن حيث بدأ كثير من المسلمين القاصدين بيت الله الحرام للحج القدوم من مختلف بقاع الأرض إلى هذا الميناء العريق في طريقهم إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة .
وكان من ضمن هؤلاء الحجاج الكثير من الرحالة العرب والمسلمين الذين ، جاؤوا إلى هذه المدينة وقضوا فيها أياما سواء قبل ذهابهم إلى مكة المكرمة لأداء الفريضة , أو في طريق عودتهم إلى بلادهم بعد الانتهاء من أداء المناسك, وسجلوا في كتب كتبوها عن رحلاتهم ما شاهدوه في هذا الميناء البحري الهام.
أحد هؤلاء الرحالة كانت الفنانة والنحاتة البريطانية المسلمة سونيا سعيدة ميلر خليفة التي قدمت في القرن الماضي مع زوجها العربي الدكتور يسري خليفة إلى جُده في طريقهما إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج والى المدينة المنورة لزيارة المسجد النبوي الشريف والتشرف بالسلام على صاحبه صلى الله عليه وسلم , وكتبت ميلر كتابا قيما يصف رحله حجها هذه, فمن هي هذه السيدة الفنانة الرحالة المسلمة.
سونيا سعيد ميلر خليفة:
سونيا ميلر فنانة ونحاتة بريطانية تخرجت من جامعة كمبردج ، أسلمت عام 1959م ، وغيرت اسمها عام 1960م إلى سعيدة . سافرت إلى كندا حيث التقت بالاستاذ الجامعي المصري الدكتور يسري خليفة فتزوجته وحملت اسم عائلة زوجها على الطريقة الغربية فأصبحت تسمى (سعيدة ميلر خليفة) .
بعد أن انتقل الزوجان للعيش في القاهرة في عام (1967م) قامت ميلر بتدريس مادة الفنون في بعض مدارسها .
وفي عام (1970م) قام الزوجان معاً بأداء فريضة الحج وسجلت السيدة ميلر رحلة حجها في كتاب أهدته إلى زوجها ووسمته (الركن الخامس : قصة رحلة حج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة) :
The Fifth Pillar :The Story of a pilgrimage to Mecca and Medina) ) وكتب شيخ الأزهر آنذاك الشيخ عبدالحليم محمود رحمه الله مقدمة هذا الكتاب .
بدأت السيدة ميلر رحلتها بدخول أراضي المملكة العربية السعودية عبر بوابة الحرمين وعروس البحر الأحمر والميناء الرئيس للمملكة مدينة جُده, قادمة من القاهرة عن طريق الجو برفقة زوجها الدكتور يسري خليفة في عام 1970م.
وقد استعرض الأستاذ أحمد محمد محمود في الجزء الثاني من كتابه الشامل (جمهرة الرحلات) ، كتاب هذه الرحالة المسلمة الذي يذكر أنها بدأته قائلةً : " كان هدفي من كتابة رحلة الحج أن أنقل شيئاً من الغرابة والعجائب وشيئاً من الاضطراب والأمن وفوق ذلك متعة إكمال الفريضة" (1).
ويستطرد الأستاذ احمد محمود قائلاً عن هذه الرحالة ورحلتها وكتابها : وقدمت لرحلتها بما تعتقد أن الحج يرمز إليه : ففي المناسك يرى الحجاج دلالات وطهارة الحج ، يرى أول بيت وضع للناس ، والأماكن التي تنزل فيها الوحي ، ومن أداء مشاعر الحج تشع أفكار عظيمة فعندما يجتمع الحجاج حول الكعبة يرمز تجمعهم لوحدتهم وقوة الروابط بينهم ، وعندما يسعى الحاج بين الصفا والمروة فذلك يرمز إلى سعيه للوصول إلى هدفه بإنفاذ أمر الله مالك السموات والأرض ، وعندما يرجم الشيطان في منى فذلك يرمز إلى اتحاد المسلمين في نبذهم للشر ، وعندما يزور الحاج المسجد النبوي الشريف يدرك مدى احترام المسلمين لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم وتبجيلهم للأماكن التي نزل بها جبريل يبلغ الوحي لنبي صلى الله عليه وسلم (2) .
ويذكر الأستاذ أحمد محمود أن ميلر نقلت قول شيخ الأزهر الشيخ عبدالحليم محمود رحمه الله في المقدمة التي كتبها لكتابها حيث يقول شيخ الأزهر في هذه المقدمة : ( أن الحج هو سلام لكل حي ، من إنسان وحيوان وحتى النبات ، فالحيوان لا يخشى الحاج, وعندما أبلغ حاج في زمن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قتل وهو محرم جراده ، أمره الخليفة بأن يفدي .. ، أما النبات محرم قطعه داخل حدود المدينتين المقدستين للحاج المحرم) (3) .
وتقول ميلر عن نفسها أنها: بعد أن قضت ثلاث سنوات في مصر وبعيد حرب الخامس من حزيران(1967م). بين العرب وإسرائيل ، وما ترتب على نتائجها من إغلاق لقناة السويس واستحالة سفر الحجاج بالسفن ، تناقص عدد الحجاج المصريين حتى أصبح عشرة آلاف حاج تم اختيارهم بالقرعة ويسافرون بالطائرة إلى جُده . لذا تقول ميلر : أنها وزوجها تقدما بطلب الحج بالقرعة عام (1969م) حيث تقدم في ذلك العام 30 ألفاً وبعد شهور من الترقب قيل لهم : أن القرعة وقعت عليهم للسفر للحج ، وحصلت هي وزوجها على إجازة شهر من أعمالهم لأداء فريضة الحج (4).
السيدة ميلر تقارن بين رحلتها ورحلات الرحالة الأوربيين قبلها:
قرأت ميلر ما كتبه الرحالة الإنجليز من قبلها عن تجاربهم في الحج واستعرضت بعض أدبياتهم في كتابها وقارنت بين وضع الحجاج الصحي والأمني خلال رحلتها مقارنة بما وصفه الرحالة البريطانيين أمثال بيرتون وفيلبي وغيرهم ، وبينت كيف تطور الأمن والخدمات سواء الصحية أو المرورية أو وسائل النقل وغيرها منذ ذلك الوقت وحتى زمن رحلتها ، وبينت مدى التطور الذي جرى في مرافق الحج ومدن المملكة العربية السعودية ، كما وصفت النفره من عرفات إلى مزدلفة ثم إلى منى ، وزودت ميلر كتابها بحوالي عشرين صورة .
وقارنت ميلر بين رحلة الطيران من القاهرة إلى جُده وبين رحلات الحجاج في الماضي عبر الصحراء على ظهور الجمال وتساءلت ماذا كان سيقول الرحالة الذين قدموا عن طريق الصحراء في الماضي لو عرفوا أنه في يوم ما سيكون بمقدور الناس السفر في ساعات إلى جُده على متن طائر معدني فضي اللون يطير في السماء ويصل خلال ساعات بدلاً من أسابيع (5).
جُده بعدسة ذاكرة السيده سونيا ميلر :
كتبت ميلر كتابها بطريقة مماثلة لكتاب النبيلة البريطانية المسلمة زينب أفلن كوبلد ، حيث تحدثت عن الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما تحدثت عن تجربتها الشخصية خلال الحج وكذلك عن تجاربها في مدن الحج وأعطتنا صورة فريدة عن تجربة الحج ليس فقط من وجهة نظر غربية بل ونسائية أيضاً وذكرت أن عدد النساء في حج ذلك العام الذي أدت فيه الفريضة كان حوالي ثلث الحجاج.
وكانت إحدى الحاجيات من كبار السن قد رافقت السيدة ميلر في رحلتها بعد أن طلب ابن تلك السيدة وزوجته من ميلر في مطار القاهرة أن تصطحب والدته معها فوافقت .
وقد بدئت ميلر وصفها لجُده منذ أن وطئت قدميها المطار . وقالت أنها سكنت هي وزوجها في مدينة الحجاج التي إقامتها حكومة المملكة العربية السعودية مشكورة.
وقالت أنها خرجت من المطار هي وزجها لشراء بعض الشاي في أحد مقاهي جُده الواقعة بجانب المطار (القديم).
وتحدثت أيضا عن سيارات الأجرة في جُده وقالت: انها كبيره وجديدة وقارنتها بالسيارات القديمة المستعملة في بعض المدن العربية الأخرى .
كما قالت: أن جُده مدينة عصرية تتشابه في بعض الأمور مع مدن أمريكا الشمالية.
وتحدثت ميلر عن أهل جُده فقالت:" أنهم طيبون ولطاف" إلا أنها بينت أن لهجتهم تختلف عن اللهجة المصرية التي كانت قد اعتادت عليها وألفتها خلال سكنها في القاهرة ما يزيد على ثلاثة أعوام مع زوجها المصري الأصل.
كما تحدثت ميلر عن الجزء التاريخي من مدينة جُده ووصفت ما به من منازل أثرية وبينت أن هذه المنازل مبنية من الحجر المنقبى ومن الحجار المرجانية.
وذهبت ميلر وزوجها إلى أحد بنوك جُده لقضاء بعض الأعمال ووصفت هذا البنك قائلة:"إن البنك يعمل بطريقة ممتازة ولا يقل عن البنوك الغربية" (6).
الرحلة الى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة:
بعد قضاء عدة أيام في جُده ذهبت السيدة ميلر وزجها إلى مكة المكرمة بالسيارة . ووصفت ميلر الطريق بين جُده ومكة المكرمة وقالت أنه "طريق واسع وجيد"(7).
وقارنت رحلتها بين جُده ومكة مع رحلة الرحالة الانجليزي(داوتى) قبل حوالي قرن من الزمان وبينت الفرق الكبير بين الحالتين سواء من الناحية الأمنية حيث كانت تسافر في أمن واطمئنان بعكس (داوتى) الذي كان مسافراً في ظروف غير آمنة بتاتا وكاد أن يقتل في الطريق كما وصفت الراحة التي كانت تتمتع بها في السيارة مقارنة برحلة(داوتى) على ظهر جمل (8).
وعندما وصلت ميلر إلى مكة المكرمة وشاهدت الحرم الشريف ومنائره بينت كيف تأثرت بذلك.
وتحدثت السيدة ميلر عن مكة المكرمة والمسجد الحرام والكعبة المشرفة وزمزم والصفا والمروة . كما تحدثت عن أسواق ومنازل البلد الحرام.
وبعد أسبوعين قضتها في مكة المكرمة حان وقت الحج فذهبت ميلر وزوجها إلى منى وعرفات ومزدلفة ثم عادت إلى منى قبل أن تعود مره أخرى إلى مكة المكرمة بعد قضاء المناسك . ووصفت ميلر المشاعر المقدسة وتحدثت عن منازل وأسواق منى .كما تحدثت عن الشعائر وطريقة عملها (9).
السفر إلى المدينة المنورة:
بعد انقضاء أيام الحج غادرت الحاجة ميلر مكة المكرمة في طريقها هي وزوجها إلى المدينة المنورة عن طريق البر حيث استأجروا سيارة لنقلهم إلى المدينة المنورة . وسارت بهم هذه السيارة بسرعة خمسين كيلو مترا في الساعة .
توقف سائقهم في أحد المقاهي على الطريق حيث استأجروا أماكن للنوم , وفي الفجر استأنفوا رحلتهم في طريق جبلي قالت ميلر أنه جميل . وتحدثت عن بعض الواحات التي شاهدوها في الطريق .
ومع اقترابهم من المدينة المنورة لاحظت ميلر أن الطريق قد اتسعت, وفجاه لاحت منارات المسجد النبوي الشريف في الأفق فعرفت ميلر أن "حلمها قد تحقق".
وصفت ميلر المسجد النبوي الشريف وجبل أحد وقباء وبعض المواقع التاريخية في المدينة المنورة. كما وصفت المدينة وأسواقها ومنازلها وشوارعها وغير ذلك وصفا دقيقا وشاملاً (10).
العودة إلى جُده:
غادرت الحاجة ميلر وزوجها المدينة المنورة عائدين إلى جُده في سيارة مستأجرة . وقامت ميلر بوصف طريق العودة وما شاهدته من جبال ووديان وغير ذلك كما وصفت أحد مناطق الاستراحة التي توقفوا فيها لأداء صلاة الظهر وكان ذلك قرب (بدر). وتحدثت عن معركة بدر التي ذكرت أنها جرت عام (624م).
وبعد استراحة قصيرة تابعوا رحلتهم إلى جُده التي وصلوا إليها بعد حلول الظلام وذهبوا إلى أحد فنادق المدينة لقضاء عدة أيام ريثما يغادروها عائدين إلى مصر(11).
عاودت ميلر زيارة أسواق جُده مرة أخرى ، وقالت عنها: إن أسواق جُده مشهورة وأن الحجاج عاده يشترون هداياهم من أسواق هذه المدينة الغنية بالعطور والساعات السويسرية وألعاب الأطفال المصنوعة في الغرب وغير ذلك من الكماليات (وكان ذلك في وقت قل ما توجد فيه مثل هذه الكماليات في كثير من أسواق المدن العربية الكاتب) .
غادرت الحاجة سعيدة سونيا ميلر خليفة وزوجها الحاج يسري خليفة مدينة جُده على متن إحدى الطائرات إلى القاهرة عبر البحر الأحمر والصحراء إلى أن وصلوا بسلامة الله وحفظه إلى القاهرة (12).
هذه مدينة جُده في عام (1970م) كما رسمتها ريشة قلم الفنانة البريطانية المسلمة الحاجة سعيدة سونيا ميلر خليفة وكما سجلتها في كتابها الموسوم "الركن الخامس" .
د/عدنان عبدالبديع اليافي
3/4/2011م
المصادر:
1- محمود ، أحمد محمد : جمهرة الرحلات ، رحلات الحج ، الجزء الثاني ، الدار السعودية للنشر والتوزيع ، جُده ، (1430هـ - 2009م) ، ص/80 .
2- المصدر السابق ، ص/80 .
3- المصدر السابق ، ص/80 .
4- المصدر السابق ، ص/80 -81 .
5- Miller , Sonia : The Fifth Pillar : The Story of a Pilgrimage to Mecca and Medina, Exposition Press , HicKsville ,New York , (1977) , Page/12.
6- المصدر السابق ، ص/20-22 .
7- المصدر السابق ، ص/27.
8- المصدر السابق ، ص/27-28 .
9- المصدر السابق ، ص/62-82 .
10- المصدر السابق ، ص/98-105 .
11- المصدر السابق ، ص/115-117 .
12- المصدر السابق ، ص/117-120 .