كتاب: الأسرة العربية النشأة والتكوين.. حين يذهب اليافي عميقًا في الجذور
لنجيب عصام يماني
لنجيب عصام يماني
من بين أكثر الأمور التي وجدت العناية الفائقة عند المؤرخين العرب على وجه الخصوص، ما يتعلق بالملل والنحل والأنساب، فعمدوا إلى البحث والاستقصاء فيها حدًّا جعل البعض يخصص جل مؤلفاته لها، نفيًا وإثباتًا، بحثًا وتمحيصًا، فإذا النسبة من بعد ذلك في تمام صحتها، وإذا الأعراق متسلسلة في سياق لا يحتمل لبسًا أو دخلًا فيها.. ولا يكون هذا الجهد مأخوذًا بجانب العصبية أو التمايز العنصري، بل هو في أصله الصحيح إدراك لمعرفة الجذور حتى لا يقع الإدعاء، الذي بدوره يفضي إلى غير قليل من ضياع حقوق، وذهاب فروض وواجبات..
على أن هذا الجانب من المؤلفات لا يجد عندي كثير حفاوة واهتمام؛ إن لم ألحظ في ثنايا سطوره الأولى ما يشي بأن مؤلفه يدرك ويفرّق بين جهد الاستقصاء لصالح التاريخ، وسطوة الإثبات من أجل نزعة عنصرية فحسب وهذا من عظمة الإسلام التربوية أنه حمى الإنسان قبل أن يتكون في بطن أمه حيث جعل وجوده شرعيًا عن طريق العشرة الزوجية التي حللها الله وحرص على اختيار الزوجة الصالحة لكي يكون قوام الأسرة صالحًا ومتينًا، كما حمى الإسلام الأسرة من اعتداء الآخرين ولو بالقول وما جاء في سورة النور: (والذين يرمون المحصنات...) الآية. فحماية الأسرة التي هي نواة الأمة أساس في شرع الله، لذا كان لها من الأحكام ما يحفظ لها كيانها واستقرارها.
أقول هذا مشيرًا إلى أن بعض أصدقائي البررة - وهم قِلّة على العموم يكرمونني بإهدائي إصدارات مختلفة ما بين الرواية التي تؤرّخ لأحداث معيّنة، وكتب الفقه والفكر الإسلامي، وكتب الأحداث التي تمرّ بها أمّتنا العربيّة في مخاضها الجديد وكتب الأنساب والأعراق، وغيرها من الكتب الأخرى.. غير أن أكثر ما تستهويني كتب الفقه والفكر الإسلامي، تأتي بعدها كتب التراث والتاريخ لأنّها تشبع في نفسي نهمًا لا ينتهي لهذا الجانب المهم في حياتنا كأفراد ومجتمعات ومؤسسات، ولا أجد الوقت الكافي في زحمة الحياة لكي أقرأ كلّ ما يجلبه أصدقاء الخير من كتب وإصدارات، فَخَصّصتُ لها جانبًا قَصيًّا في مكتبتي المنزليّة أتحيّن الفرصة المناسبة ووقت الفراغ لأرجع إليها متصفّحًا لعناوينها بدقّة واهتمام وخلوّ بال، فأختار منها ما يشدّ أنتباهي ويكون لعنوانه وقعًا في نفسي، لأنّه كما قيل الكتاب من عنوانه، وإن كان هذا ليس صحيحًا دائمًا؛ خاصّةً في أيّامنا هذه فكثير من العناوين تُوضع للإثارة من أجل زيادة المبيعات..
ولفت انتباهي في إحدى المرّات وأنا أستعرض هدايا الفكر المهداة كتاب أسماه مؤلفه الأخ الصديق الدكتور عدنان عبدالبديع اليافي «الأسرة العربية النشأة والتكوين»، فوقفت بُرهة أتأمّل فهذه المرّة الأولى التي أعرف فيها الدكتور عدنان يؤلّف وله كتب رغم صداقتي معه والتي قاربت ربع قرن من الأزمان، ولكن سرعان ما زال استغرابي عندما تذكّرت شخصيّة الدكتور عدنان، فهو قليل الكلام يُطيل السكوت فلا تستطيع أن تستشف من خلال ملامحه الجبليّة عن شخصيّته وما يدور في رأسه، هل هو موافق على ما يدور من أحداث أو أنّه مع هذا الرأي أو هو مخالف له، تجمعُنا المجالس والصّالونات يدلو كلٌّ برأيه، ويعرض كل شخص قضيّة استأثرت باهتمامه، فتبني لها وجهة نظر معيّنة، وتلتفّ العيون إلى الدكتور ليستخرج رأيه؛ فتراه في مكانه ثابتًا كأنما الأحداث لا تؤثّر فيه ولا يتأثّر بها، يلفه الصمت، وتغشاه السكينة، وعندما تُلحّ عليه وتطلب رأيه لا تتلقّى إلاّ إجابة عائمة، مثل قوله: لم أكن من المتابعين، كنت في رحلة عمل متعبة لم يكن لديّ الوقت لأسمع وأشاهد ما يجري ويدور.. ولهذا فليس من المستغرب عندي أن يختار اليافي الجبال وليكتب عنها لوحات كاملة بتفاصيلها، بدءًا بجذورها متتبعًا مساراتها الوعرة. وقد استفدت من دراسات الدكتور اليافي في معرفة عدد من جبال مكة المكرمة التي أَلِفَتْهَا عيناي منذ الصّغر، وكنت أمر بها أوقات يومي أتطلّع إلى شموخها وأرسم على أخاديدها معارك وأحداث ورجال تكلّموا تاريخ هذه الأمّة.
أعود إلى الكتاب الذي بين يدي الآن؛ «النشأة والتكوين دراسة تطبيقيّة على الأسرة العربيّة»؛ فقد حاول عدنان من خلال أسرته أن يعرّف القارئ عن نشأة وتكوين أسرته العربيّة ورسم صورة واضحة عنها، متتبعًا هجرتها في العديد من الدول الإسلامية المختلفة وما تركته من آثار علميّة ودينيّة وسياسيّة واجتماعيّة بارزة أسهمت بها في الدول التي استوطنوها وعاشوا فيها. وقد أجاد الدكتور اليافي في تتبع آثار هجرة أسرته وهو فنٌ قدير جدير بالاهتمام، لا يقلّ أهميّة عن فن كتابة الرحلات التي قام بها البعض من الرحالة ودوّن فيها قراءاته واطلاعه ومشاهداته، وأغنى المكتبة العربيّة بنموذج يمثّل واقع أوطاننا الإسلامية على مدى التاريخ. كتاب اليافي نموذج يصوّر واقع الإنسان العربي منذ فجر الإسلام، بل حتى قبل الإسلام في هجرة بعض القبائل وتنقلها من مكان لآخر طلبًا للرزق أو نشرًا للعلم، فعلى سبيل المثال الكثير من الهجرات التي تمّت في زمن مضى إلى دول جنوب شرق آسيا من الجزيرة العربيّة ذهبت لنشر العلم أو للتجارة، فتزوّجت وعاشت هناك وما زالت باقية حتى اليوم. أصلها في الجزيرة وفروعها هناك في دول جنوب شرق آسيا، حتى انّ بعضهم يشغل وظائف مهمّة في هذه الدول. وأتمنّى أن ينبري من يكتب عن هذه الهجرات من خلال ترحال بعض الأسر العربيّة واستقرارها في هذه الدول. متتبعًا رحلة الأجداد من الجذور وحتى العيش والاستقرار. فهذه الأسر لها دور كبير في البلدان التي هاجرت إليها، مما يؤكد أهمية الأسرة ودورها الكبير في بناء المجتمعات. يقول الدكتور اليافي في النشأة والتكوين إن أكثر الأسر العربية الإسلامية بروزًا وظهورًا عبر التاريخ «آل البيت»، ونقصد بذلك نسل النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وتحديدًا سلالة الحسن والحسين وهما أبناء ابنته فاطمة من زوجها وابن عم أبيها علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين. فلقد كان لهذه الأسرة دور رائد في قيادة المجتمعات الإسلامية في السياسة والعلم وكل جوانب الحضارة، وهذا ما يؤكّد قولي سابقًا فهناك في جزيرة جاوا وسومطرة وبالي قابلت أسرًا من العطاس وآل الجفري والحبشي والحداد وغيرهم كثير.
أعجبني هذا الكتاب وأنا أقرأ بين سطوره دور اليافي في الكثير من الجوانب التي خدمت الأمة الإسلاميّة ودورها البارز دينيًّا وسياسيًّا وعلميًّا وبالذات في بلاد الشام. واعتبرتُ نفسي أمام سفر موثّق حوى تاريخ عائلة بكل أصولها وفروعها وإسهاماتها المتعددة على خريطة العالم الإسلامي. علمني هذا الكتاب أن الانتماء الأسري أمر غاية الأهميّة، يزيد من قيمة الإنسان ويعلي من شأنه وبالتالي من ارتباطه بأرضه ووطنه. في صورة جميلة رسمها الدكتور عدنان اليافي عن تاريخ أسرته يجدر بجيل اليوم أن يتتبع هذه الخطى ويكتب عن أسرته وتاريخها وفي هذا احدى الصور الجميلة التي يحث عليها الإسلام ويوصي بها الأبناء وبِرّهم للآباء والأجداد بل أستطيع أن أؤكّد أنّ مثل هذا العمل يبقى أحد الأعمال الصالحة التي ينتفع بها الآباء فيما بعد، أصرّ الدكتور اليافي على تحقيق حلمه القديم بالكتابة عن أسرته والذي بقي في ذاكرته الداخليّة لم تستطع المشاغل والأعباء الحياتيّة وصروف الليالي والأيام أن تمحوها من هذه الذاكرة، منذ صغره شابًا يافعًا يغشى مجلس والده وهو يتمنى أن يكتب عما يسمعه من رواد مجلس أبيه عن أسرته. ظل حلمًا يراوده في مدرسته في جدة، أو في السوق وهو يغشى دكاكين أسرته التي كان لها في سويقة (أيام زمان) باع طويل في البيع والشراء وحتى بعد سفره للدراسة إلى خارج المملكة إلى أمريكا ومعاناته هناك وتعبه المضني في البحث عن عمل كوسيلة يتعلّم منها عادات ولغة قوم جديدة عليه فعمل حمّالًا في الميناء وساعيًا للبريد ونادلًا في مطعم وأعمالًا أخرى كثيرة حتى تحصّل على ما يريد وحقق حلمه الكبير شهادة الدكتوراة في بحوث العمليّات، ليعمل مدرّسًا في الجامعة. كان هذا الحلم الوردي يراوده يأتيه في اليقظة والمنام وهو الكتابة عن أسرته العربيّة الهاشميّة وانتشارها في الوطن الإسلامي الكبير، وعاد إلى الوطن محمّلًا بالعلم والمعرفة وخبرة السنون وانخرط في الحياة العمليّة عضو هيئة تدريس في جامعة أم القرى بمكة المكرمة وجامعة المؤسس رحمه الله، ويدخل في مهنة من أعظم المهن وأشرفها وهي خدمة حجاج بيت الله الحرام، فيتم اختياره للعمل في مركز أبحاث الحج وخدمة المشاعر ويقترب من صانعي القرار في اجتماعات شبه دائمة تناقش سبل التيسير ورسم صورة مستقبليّة لما يجب أن يكون عليه الحج، شعورًا ولاة أمر الوطن بأهمية هذه الشعيرة في حياة المسلمين فكان اختيار الأكفاء واليافي كان أحدهم، ويستمر الدكتور عدنان رغم مشاغله ومؤتمراته وبحوثه وسفره الدائم في الحلم الجميل وهو الكتابة عن أسرته، يقول: (بدأت أجمع كل ما يقع تحت يدي من أسرتي عن قصاصات في الصحف أو تاريخ مكتوب في مجلدات أو من أفواه الأسرة الباقية حتى أصبحت الخميرة جاهزة لأن أبدأ فتوكلت على الله وكتبت بمساعدة آخرين كل لهم دور كبير في انجاز هذا السفر)، ويريد الله لعدنان اليافي الابن البار أن يُتِم عمله وينجزه ويُحَقق حلمه الوردي في الكتابة عن أسرته. ويهجر العمل الحكومي إلى العمل الخاص بعد أن أحس أنه أدى واجبه الوطني وأسهم بشكل أو بآخر في خدمته على أكمل وجه وتتوق نفسه إلى صنعة آبائه وأجداده وهي الأعمال الحرة صنعة زاولها منذ صغره مع والده وأعمامه وأهل والدته ويريد عدنان شيئًا ويريد الله شيئًا آخر فيرشحه أحد أصدقائه للعمل في مكتب معالي الشيخ أحمد زكي يماني بعد أن تقاعد من الدولة وفي هذا المكتب يجد قسمًا لموسوعة مكة والمدينة والأبحاث التي تكتب والمكتبة الكبيرة التي فيها النادر من الكتب والمخطوطات في التاريخ والفقه والأمكنة الشيء الكثير ويكمل بحثه ويرى النور في عمل عظيم يؤجر عليه بإذن الله. فيه سرد تاريخي لفترة تاريخيّة مهمة في حياة الأمّة برجالاتها وأحداثها، ولتبقى هذه الأمّة كبيرة عظيمة عظم التاريخ وكبره ويبقى الدكتور عدنان اليافي في مجالسنا صامتًا لا يتكلم عن نفسه أو تاريخه أو عن المواقع المهمة التي شغلها وكانت قريبة من صاحب القرار معتزًا بأسرته، محافظًا في حديثه وعلى هندامه القديم من أقمشة فخر الموجود واللاس، لم تغيره الأيام ولم يجر وراء الموضة وآخر التقليعات، ويبقى حبيبًا وصديقًا للجميع.
المصدر: صحيفة المدينة، ملحق الأربعاء، 4/4/1432هـ