الفزعة في جدة.. وخياران أحلاهما مر
عبدالعزيز عمر أبوزيد aazzez@hotmail.com
هناك عادة تسمّى (الفزعة) والفزعة عند أهل جدة ومكة؛ تعني المبادرة بخدمة الآخرين وقت الحاجة، والوقوف عند الشدائد، وتعبر عن موقف رجولي وإنساني نبيل؛ ليس من أجل مقابل أو مصلحة، بل هي خدمة إنسانية بدون مقابل، وبدون التزامات وشروط.
ويوم الجمعة هو إجازة العمّال في فريق البناء من تخمة العمل المتراكم طوال الأسبوع، واشتداد وطأته، وكثرة أعبائه. ويخيّر المعلّم فريقه بالراحة أو الفزعة، فإذا اختار أحدهم الإجازة فليس عليه إثم أو ذنب، وإذا اختار الفزعة يكون قد نال الرضا والثناء في سبيل متابعة العمل وإنهائه، وإكمال اللمسات الأخيرة لعمل ونتاج الأسبوع خلال خمس ساعات من الصباح الباكر وحتى أذان صلاة الجمعة. والفزعة في خدمة المالك تؤكد جوّ العلاقة الإنسانية التي جمعت الفريق العمالي به حيث لا تكون مقابل أجر مادي.
ويهدف المعلّم من ذلك تعزيز العلاقة بين العمال والمالك مما يحوّل العلاقة من علاقة مادية تقوم على المصلحة إلى علاقة إنسانية تمتد جذورها من هذه المبادرات الإنسانية، التي تؤكد لصاحب البيت حرص المعلّم ورفاقه على خدمته، وإخلاصهم في عملهم لهذه الدرجة التي بلغت ساعات الإجازة الأسبوعية.
ولا يضغط المعلّم على عماله في يوم الجمعة؛ بل يعملون على إتمام بعض الزوائد والكماليات والجماليات. ويعرض المعلّم عليهم الفكرة صامتًا، ولا يحتاج منهم لرد أو موافقة سريعة، وهو في واقع الأمر ينتظرهم فردًا فردًا، ويتأمل استجابتهم دعوته، ويتوقع مجيئهم تلبيةً لرغبته، وإن كان لا يبدي غضبه وامتعاضه ممن لم يحضر حالة الفزعة المهنية، ومن يتخلّف عن المجيء والفزعة يتوقّع المعلّم اعتذاره عن عدم الحضور، والذي يريد منهم نيل الرضا، وله طموح مهني يستوجب تقديس شخصية المعلّم وعليه بلوغ رضاه. والصبي أو المساعد يكون أمام خيارين أحلاهما مر؛ فإما التمتع بالإجازة أو بلوغ رضا القائد، فيجد دعمه ورضاه، ويمنحه فرصة القرب أكثر منه.
وعمل يوم الجمعة بالذات فيه طي لمرحلة عملية مضت وتسمى (تَشْطيبة) لما تم إنجازه، ويبدأ الأسبوع الجديد بأفكار جديدة ومهام جديدة.
مزاجية مبدع (خزام) له رعاية خاصة:
من أشهر المعلمين البلديين، وأبرزهم وجاهة، وأكثرهم إنتاجًا ومكانةً هو خليل عليمي، فهو من كبار رجال المهنة، وكلمته مسموعة بين المعلمين لخبرته الطويلة، ومكانته الرفيعة، وشخصيته المؤثرة.
وكان للمعلمين شيخ اسمه محمد مصري؛ يتولى مهمة التنسيق بين المعلمين والبلدية، ويشرف عليهم، ويتابع معاملاتهم، ويحل مشكلاتهم وخلافاتهم، ويشرف على معاملاتهم الصادرة عن البلدية مثل تصاريح البناء، التي تعرف بـ(كوشان)، وتصاريح ترميم البيوت وتأهيلها.
وكان من الملاحظ أيضًا أن معظم المعلمين من الأميين لا يقرؤون ولا يكتبون، ومن أشهرهم صالح زعزوع، وجميل شعراوي، وجميل عبده، وعبدالله سمكري، ومحمد سعيد نعمة الله، والزنكي، ومحمد كركشان، وصدقة كركشان، والمحضار، والمعلم الشهير بالصرصار الذي بنى بيت نصيف.
ومن أشهر المعلمين وأمهرهم في البناء هو المعلم محمد أبو زيد، وهو فيلسوف في بنائه، لديه قدرة ثاقبة الذكاء في معالجة مشكلات البناء، هذا رغم تغيباته وانقطاعاته عن المهنة لظروف مزاجية خاصة، لكن المعلمين كانوا يعترفون به لمقدرته الفنية العالية، وأمثلته الفنية المتجددة بلمسات إبداعية؛ ولهذا كانوا يتقبلون عودته من حالات الانقطاع دون استياء.
ومن أعمال المعلم محمد أبو زيد بيت الدخيل، ومبنى البريد، وبيت إبراهيم شاكر.. ومن أبرز القصور التي شيدها قصر خزام الخاص بالملك عبدالعزيز، وكان مقاول البناء هو بن لادن، وقد أدهش المعلمين حينما شيّد القصر الضخم، وصمّم ممرًّا لطلوع سيارة الملك إلى أدوار البيت العليا، وكذلك صعود الجمال والخيول والحمير التي تجر العربات لنقل المؤن والأغراض للقصر بسهولة.
وجاء في أعلام الحجاز لمحمد علي مغربي أن جلالة الملك عبدالعزيز يرحمه الله انتقل إلى قصر خزام بالنزلة، وهو القصر الذي قام ببنائه خصيصًا لجلالته المعلم محمد بن لادن، واستمر جلالته يتخذ من قصر خزام مقرًا له حتى وفاته.
زعامات تخرج من عنق زجاجة:
هنا يصل الصنايعي إلى عنق الزجاجة، متى ما أراد معلمه أن يفتح أمامه الفرصة التاريخية لصعود موهبته وبزوغ نجومية إنتاجه.. فهو يعرف إنتاجه وعطاءه وقدرته الفنية وموهبته الإبداعية وحرصه ودقته في العمل والإنتاج طوال السنوات التي قضياها سويًا في المهنة، فكان المعلم الكبير يدرس مواهب عماله ومساعديه ينظر إلى أفكارهم من بعيد وإلى مقدرتهم على إيجاد حلول لمشكلات البناء، فيضع إشارته على أحد صنايعيته إذا استحسن أفكاره وقرأ موهبته الفنية الإبداعية وأدرك أن لديه ما يضيفه للمهنة ورجالها إلى جانب تفانيه وعشقه للبناء، فمثل ما هو شرس وعنيف وقاس هو الآن مكتشف مواهبهم وسبب تفوقهم ونجاحهم.
ورغم القسوة والعنف إلا أنه يتمثّل أمامهم في شخصية الأب الذي يقسو عليهم في طلب الرزق وأداء الواجب المهني في الوقت الذي يكون عليهم عطوفًا وحانيًا عند الأعياد والمناسبات العامة، فيشتري لهم أغراضهم في الأعياد من أثمن المعروضات وأحسنها ويعينهم على شراء احتياجات أسرهم لمن لا تمكنه ظروفه المادية على طريقة سُلف تحت الحساب.
وإذا وضع المعلم إشارته فعلًا على أحدهم واختاره بين جميع مساعديه ليكون مهنيًا مستقلًا بذاته يقدمه لكبار رجال المهنة ويعلن ذلك بفخر واعتزاز كونه تلميذه الذي بدأ حياته المهنية على يديه منذ أن كان صبيًا ينقل الأحجار وعاملًا وصنايعيًا والآن ينقله إلى فضاء المهنة متباهيًا به، ويضعه في امتحان عملي يقدمه لأكبر رجالات المهنة كمعلم، والعملية لها إجراءات ومستويات للتقييم لا تتوقف على قناعة المعلم بمفرده.. وإنما هي مسؤولية يشترك فيها رجال المهنة مجتمعين وهم أفضل وأشهر معلميها تحت رئاسة شيخها أي أن قيادات طائفة المهنة تشترك في اتخاذ قرار إجازته بصفة رسمية.
ويأتي حرص المعلم هنا واهتمامه بهذا الجانب من منطلق المسؤولية المهنية التي تتعلق باهتمامات جميع الناس لما يحتله المسكن من أهمية ومكانة ترتبط بذوقهم وإمكانياتهم ومواردهم الطبيعية.
وكلما قَدّم المعلم تلميذًا له في هذه المهنة زادت مكانته وارتفعت سمعته وزاد فضله والولاء له بين المعلمين لأن تلاميذه سيكونون رهن إشارته لأنهم في وضعهم الجديد أكثر إدراكًا لفضله عليهم فهو الذي علّم وربّى ودرّس حتى وصل الصبي إلى مقام المعلم بعد سنوات طويلة من المراس واكتساب المهارة والخبرة.
والخطوة العلمية التي يقوم بها المعلم ليقدم تلميذًا من تلاميذه لدرجة معلم ويخرجه من عنق الزجاجة إلى مجال الإبداع والقيادة والمسؤولية والاستقلالية، بأن يعرض الفكرة على شيخ المعلمين ويقدمه كشخص عرفه منذ زمن طويل ويشهد له بحسن الخلق والالتزام والتفاني والمقدرة ويستعرض تجربته التي أمضاها في اكتساب المهارة ابتداءً من عمله صبيًا فمروجًا فقراريًا وعاملًا فصنايعيًا وهو الآن جدير بما يملكه أيضًا من حسن إبداع وذوق فني أن يكون معلمًا مستقلًا ويأخذ فرصته التي يستحقها.
وهذا الكلام يقوله المعلم أمام جميع المعلمين وبحضور شيخهم الكبير، ويضعونه جميعًا بعد ذلك في محك أخير يعتبر اختبار حقيقي، حيث يكلّفه معلمه ببناء بيت ويمنحه فرصة من الزمن ليأخذ وقته الكافي في البناء يبرز خلالها قدرته المهنية والإبداعية وحسه الفني، بعدها يجتمع جميع المعلمين بقيادة شيخهم ويزورون البناية التي عمل على إعدادها المعلم الناشئ بتكليف رسمي وتأخذ العملية طابعًا رسميًا حيث يتفحصون البناية ويقيّمونها تقييمًا دقيقًا دون أي يكون للمجاملة أي مكان على خارطة الفحص والتقييم، فيلاحظون وينتقدون الأخطاء ويمتدحون ما يستحق المديح والثناء وهذا يتم دون وجوده، يمثله في ذلك معلمه الذي رباه على أصول المهنة.
وإذا نجح في الامتحان خرج من عنق الزجاجة وأصبح معلمًا مستقلًا، يتم إعلان ذلك في مقهى أبو القعود حيث يتم الاجتماع هناك ويسمى الاحتفال بـ(صبة القهوة) يهنئون ويتعرفون على زميلهم الجديد ويباركون له ولمعلمه هذه الخطوة ويشربون معه القهوة من دلة واحدة دليلًا لمساواته بهم منذ تلك اللحظة التاريخية في حياته.
وهذه الدماء الجديدة في أجواء المهنة تزيد من قرب المعلمين من بعضهم البعض وتزيد منافستهم للاكتشاف المستمر وجوه جديدة تجدد الدماء في المهنة وتكسبها إضافات حقيقية تدعم مسارها وتطور منتجاتها وهذا لا يتم إلا بدعم وتشجيع وإصرار قياداتها وفق الأصول المهنية المتبعة.
المعلم عمومًا لا يتحدث عن أعماله وإنما يترك عمله يتحدث عن نفسه، ويترك موهبته تؤكد ذاتها وتجدد هويتها في كل بيت وآخر يهتم ببنائه، حتى ان أي معلم لا يستطيع أن ينتقد عمل انتاج معلم آخر أمام عامة من الناس وإذا أراد أن يستفسر عن ملاحظاته فيكون النقاش مباشرًا وبحساسية مهنية شديدة مع المعلم ذاته وفق ما تمليه الأصول المتبعة دون التشويه والخدش.
ومن طبيعة تكوينه الشخصي رفض الاستماع إلى الانتقادات ممن لا يملكون العلم في المهنة وهذا ربما يعود لسببين فضلًا عن أن المهنة ربت لديه شدة وقسوة في التعامل وكذلك الضغط النفسي الذي يتحمله أثناء العمل ومسؤولية سلامة البناء الملقية على عاتقه مع عشقه للإبداع حفرًا على الحجر ونحتًا على الخشب تاركًا لوحة فنية تخاطب الهواء الطلق.
نعود ونقول إن السبب الأول وراء عدم رغبة المعلم في الاستماع إلى شكوى العامة وانتقاداتهم هو كثرة المشكلات الفنية التي تواجهه أثناء البناء مما يدفع إلى اتخاذ سبل عديدة لعلاجها وحلها، ولكن العامة لا يدركون هذه الأبعاد وخلفياتها.
أما السبب الآخر هو في نفسية المعلم فهو شخص عنيف اعتاد في جو المهنة أن يكون قائدًا في مهنته يتعامل رجالها مع قسوة الأحجار تكسيرًا ونحتًا وتشكيلًا، وعلى العنف في رفع الحجر وحمله ورصه وهو شخصية جبروتية مع عماله يتضح هذا الجبروت في عدم قبوله للانتقادات.
وإذا استمع المعلم إلى زميل له يشكك في مقدرته ويبيّن للناس أخطاءه في البناء فإن المعلم البلدي يكون حسابه عسيرًا في قهوة أبو القعود التي يجتمعون بها ليلًا فيشتكي زميله الذي تجاوزه وتحدث عنه في غيابه بما لا يرضيه وطعن في مهارته، وتأتي الفرصة له ليرد ويشرح الأسباب التي لا يعلمها وبنى عليها آراءه وتحليلاته وتصويباته أمام الجميع ولو اضطر الأمر إيصالها لشيخ المهنة لعقد اجتماع خاص بهذه المسألة منعًا لتكرارها فالنقد له أصوله وله دوافعه ومبرراته ولا يمكن أن ينطلق من رغبة التقليل في الشأن أو لمجرد السير خلف رغبة تصيد الأخطاء.
وليس من عادات المهنة إطلاق أحكام عبثية عند إبداء الرأي، لأن هناك خطورة بالغة تتوقف عليها هذه الأحكام، تهدد حياة الناس بالخطر في بعض الحالات ذلك أن إبداء الرأي والمشورة في حالات كثيرة، يعني المشاركة في اتخاذ القرار وتحمل المسؤولية أو جانبًا منها.
وهنا تكون المبادرات جماعية لإبداء الرأي وأخذ المشورة، ولا يعطي كل معلم رأيه إلا بعد تفحص وتدقيق وتمعن يستثمر خلالها تجاربه وخبراته، وأحيانًا قد يطلب معلم من آخر مشاركته في بناء بيت معين يتبادلون خلالها خبراتهم وأفكارهم بإيجابية في أداء مميز ومتقن ويكون ذلك حديث الجميع.