شِعب بني هاشم
للدكتور زهير محمد جميل كتبي
للدكتور زهير محمد جميل كتبي
وقعت يدي -حين كنت أفتش في بعض أمهات الكتب والمراجع الدينية والتاريخية المهمة- على معلومة مهمة. قمت بالبحث عنها ثم وجدت أنه لم يكتب عنها، كما ينبغي. وهي اهمية ومكانة ودور وتأثير..[شعب بني هاشم].. أو..[شعب أبو طالب].. والمقصود هنا أبو طالب عم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أو.. [شعب علي]..، والمقصود هنا سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذلك بمدينة مكة المكرمة. وهذا المسمى هو آخر مسمى أطلق على هذا الموقع المهم في تاريخنا. وفي أول هذا الشعب يوجد موقع ولادة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو اليوم مقر مكتبة مكة المكرمة. وأعني تأثير هذا الشعب المهم على الحركة الاسلامية.
أعود وأكرر السؤال مرات وهو: إلى أين ومتى نستمر في هدم وتحطيم آثارنا الاسلامية. ونحن نشاهد البعض يتخلون عن فكرة..[الوقار].. للاثار الاسلامية. فموقع مثل هذا كان يفترض ألا يزال من الوجود.
شِعب بن هاشم، هو أول مكان على الأرض تسجن وتحاصر فيه..[قبيلة، أو عائلة].. كاملة من رجالها ونسائها وشيوخها واطفالها والعجزة وغيرهم، وهذه..[العائلة الكريمة والتاريخية].. هم.. (([بنو هاشم])).. وهي عائلة سيد الخلق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وسبب الحصار جاء نتيجة انه لما لم يستطع كفار قريش الاستمرار في الضغط والحاق الاذي بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والقرشيون الذي اسلموا!. وأصيب الكفار ..[باليأس].. من تعذيب وأذى من أسلم منهم. وقد فقدوا كل معطيات العقلانية، ولم يبق لديهم أي درجة من الحصافة العقلانية والحذر السياسي في تحديد ميزان القوى. فكروا في فكر.. [الاستبداد].. وخاصة بعد أن رفض أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم. التجاوب وتحقيق رغبات كبار كفار قريش، لم يكن لديهم وقت تفعيل المقدمات والاستهلالات والتمهيدات لدورها. وضغط المخاوف من خلال أوهام صيانة الذات القرشية. هذا الهاجس تسكنه رغبة عارمة في الكشف عن قفا كبار قريش وزعمائها الكفرة والمشركين بغضب وتحدٍ في مواجهة ذلك الخوف من انتشار وتوسع الدعوة الاسلامية في مكة المكرمة ودخول الكثير من أبناء ورجال ونساء وأطفال قريش الإسلام. فاجتمعوا في خيف بني خيف بني كنانة من وادي المحصب. وكان هدف ذلك الاجتماع الحاقد والخسيس حتى يبحثوا في إيجاد عمل بغيض ليتحالفوا على بني هاشم وبني عبدالمطلب.
أصبح..[الفكر القرشي المشرك والكافر]..،. ينتظر لحظة الخلاص في صورة الانقضاض على الدعوة المحمدية التي ملأت عقول وصدور القرشين. وبدأ التهديد الفعلي يسيطر على أؤلئك الكبار الكفار، والخوف أن يسحب أو يلغي دورهم الرئاسي والزعمائي. فمنحهم المتخيل العقلي والسياسي والثقافي والاجتماعي أن يعملوا على تعطيل مفعول دور وأهمية ومكانة..(([بنو هاشم]))..، أي أهل وأقارب وأرحام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، في نشر الدعوة الإسلامية. فمارس أؤلئك الكفار حرية كشف القفا وعملوا.. (([وثيقة مقاطعة بني هاشم])).. للانكفاء على نتائج الهدم التي بلغتها نفوسهم. فصاغوا في تلك الوثيقة البغيضة عناصر ضد بني هاشم منها:
((ألا ينكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل))، وكتبوا بذلك صحيفة فيها عهود ومواثيق: (ألا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدأ، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل). قال ابن القيم: إن من كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: نضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده.
ثم كتب هذا الميثاق وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو عبد المطلب، مؤمنهم وكافرهم، إلا أبا لهب وحبسوا في شعب ابي طالب، وذلك فيما يقال: ليلة هلال محرم سنة سبع من البعثة. وقد قيل غير ذلك. وهذا ما قرأته في إحدى المقالات.
وكانت تلك..[الوثيقة المقاطعة].. سدًا منيعًا ومحصنًا ضد (بني هاشم) على المستوى الداخلي. انها نزعات توحش على حساب قيم الإنسانية. اراد كفار قريش الفجرة تحويل.. [شعب بن هاشم].. إلى سجن كبير ومقبرة صامتة. وكان المحاصرون المسلمون الاتقياء صابرين لا تسمع منهم أي ضجيج او صوت، حتى إذا رميت الإبرة فإنك تسمع لها رنينًا، وذلك بعد أن حازوا رضا ربهم ذي الجلال والإكرام. وصمت بعض العقلاء من قريش على ذلك الاستبداد الكافر بسبب إذعانهم وطاعتهم للكفرة.
لقد صبر المسلمون، وصبر بنو هاشم على كل ذلك الضيْم. والظلم والقهر والجور، فلم يصدر عنهم أنينًا مكبوتًا. ولم يكن أمامهم سوى الرضوخ والاستسلام وتحمل المعاناة.
وتقول كتب التاريخ العربي والاسلامي وكذلك بعض المقالات، عن ذلك الحصار البغيض: ((واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعامًا يدخل مكة ولا بيعًا إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، وكانوا لا يخرجون من الشعب لشراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعوا شراءها. وكتب أيضا أن حكيم بن حزام كان يحمل قمحًا إلى عمته خديجة رضي الله عنها وقد تعرض له مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه، فتدخل بينهما أبو البختري، ومكنه من حمل القمح إلى عمته. وتقول ايضا كتب التاريخ:
((أن أبا طالب كان يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يأتي بعض فرشهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يخرجون في أيام الموسم، فيلقون الناس، ويدعونهم إلى الإسلام)).
**
وذلك.. [الحصار التاريخي].. البغيض وازعم انه الأول من نوعه في التاريخ البشري السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وضع المشركين أمام علاقة صراعية تنطوي على تناقض بين الأهل وذوي القربي، ولكن قسوة القلوب طغت فوق كل شيء. بغض النظر على الحمولات الدلالية المتصلة على انهم جميعًا من قبيلة قريش العظيمة.
إن هذه السلسلة من العذابات والتعب والإرهاق النفسي، الذي عانى منه المسلمون أثناء محاصرتهم في شعب بن هاشم تساعد على استحضارات تاريخية ثابتة في اللاشعور الجمعي التاريخي المكي العظيم. تحضر تلك الاستحضارات بوصفها امتدادًا معنويًا لقيم وأخلاق ومبادئ الإسلام. ويحضر فكر مشركي قريش كممثل لثقافة الاستبداد والفعل الإجرامي لمقاومة الدعوة الإسلامية. فأنا أحب دائما استقراء الفعل والسلوك وفق ضرورات نظام التكامل والتكافؤ الإسلامي، والصبر على المصائب والاوجاع.
..[فالصبر].. في اثناء الحصار كان هو..((اداة)).. في صياغة الموقف الإنساني الشامل. وقام الحصار من الداخل على..[التآزر].. و.. [التعاون].. و.. [الطاعة].. و.. [الامتثال].. لقدر الله، مع تقديس للموقف، هذه العناصر التي استولت على الساحة الداخلية لشعب بني هاشم وكونت الدلالية لنظام التحدى الاسلامي الأول الذي واجه المسلمون كتحدٍ جماعي.
والغريب في أمري أنني أميل إلى استقرار الفعل التاريخي وما يترتب عليه من تحمل للقدرات البشرية التي انبعثت من معطيات وإفرازات ذلك.. [الحصار البغيض].. اصوغ مقولتي وفق ضرورات نظام الكلام السياسي، التي تضطرنا احيانا لإنتاج ملفوظ البوح الحقيقي للموقف أو الحدث. أن هذا الحصار، محنة، وابتلاء، ومصيبة، وفتنة كبري وقعت على المسلمين في مرحلة بدايات الدعوة. وتذكر نفس المراجع التاريخية عن.. [فك ونقض الحصار].. التالي:
مر عامان أو ثلاثة أعوام والأمر على ذلك، وفي المحرم سنة عشر من النبوة نقضت الصحيفة وفك الحصار؛ وذلك أن قريشًا كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهًا لها.
وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤى وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفيًا بالليل بالطعام فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومي وكانت أمه عاتكة بنت عبدالمطلب وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما والله لو كان معى رجل آخر لقمت في نقضها، قال: قد وجدت رجلًا. قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زهير: أبغنا رجلًا ثالثًا. فذهب إلى المطعم بن عدي، فذكره أرحام بني هاشم وبني عبدالمطلب ابنيْ عبد مناف، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا. قال: ابغنا ثالثًا. قال: قد فعلت. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعًا. فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحوًا مما قال للمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدى، وأنا معك، قال: ابغنا خامسًا فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعونى إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم، فاجتمعوا عند الحَجُون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق. فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به. قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك. فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل، وتُشُووِر فيه بغير هذا المكان. وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت)).
وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم)، وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله.
ثم نقض الصحيفة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، وقد رأى المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم كما أخبر الله عنهم {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [القمر:2] . هذا ما ذكرته بعض المراجع التاريخية.
**
فينبغي القول أن.. [دار الندوة].. المكية هي المقر السياسي الذي اتخذ فيه.. ((قرار المقاطعة البغيضية)).. و.. [دار الندوة].. هي المؤسسة البرلمانية العربية الأولى في التاريخ الذي اتخذت فيها مثل هذا القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وتأتي بعدها.. [سقيقة بني ساعدة].. بالمدينة المنورة. وهي أولى المؤسسات البرلمانية العربية في الاسلام، والتي اتخذ فيها قرار سياسي بتعيين سيدنا ابو بكر الصديق رضي الله عنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
في كل الحالات، وبمختلف الأحداث يعدو رجال مكة المكرمة الأوائل في صناعة الفكر المؤسساتي او البرلماني العربي بالمصطلح الحديث. وهذا يدل على.. [عبقرية].. الإنسان المكي. نعم يدل ذلك القرار على عظمة الفكر السياسي الذي قدم الدبلوماسية قبل الحصار حين تفاوض المشركون مع المسلمين للرجوع عن دينهم فرفض المسلمون تقديم أي تنازل في الرجوع عن معتقدهم الجديد وابدا رغبتهم في عدم استكمال التفاوض في هذا الجانب. ذلك يدل بوضوح تام على عظمة الفكر السياسي المكي. وأن في مكة المكرمة عقول جبارة وعبقرية.
وعندما جاء الإسلام أكد أن الإنسان المكي جعل من مكة المكرمة منطلقا لرسالته،
ومعنى ذلك ان الإنسان المكي كان المؤهل الأكثر من سواه لحمل أعباء الرسالة بشهادة رب العزة والجلال. حين أخرج من مكة هذا الرسول العظيم خلقًا وأخلاقا ومعاملة.
ولا بد أن لهذه الأهلية مجموعة من المزايا العالية المتفوقة. فلا بد من احترامها وتوقيرها.
ان العقل المكي في جملته استطاع ان يفهم الاسلام اكثر من أي عقل آخر في جملته وهي نقطة متميزة تحسب للإنسان المكي ومن أسبابها. أن اللغة العربية هي وعاء الكتاب والسنة ومعظم التراث الإسلامي، فلذلك كان القران المجيد عربيًا، وبلهجة قريشية، وحكما عربيًا ونزل على جبل مكي عربي.
المصدر: صحيفة المدينة، الأربعاء 13/3/1432هـ