كلمة حول الآثار غير المشروعة في مكة للشيخ عبدالمحسن العباد حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فقد نشرت صحيفة عكاظ للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان مقالاً في ثمان حلقات بعنوان: ((الأماكن التاريخية في مكة وعناية الملك عبد العزيز بها)) مؤرخاً في 20-28/1/1430هـ، وقد اطلعت عليه في هذه الأيام ووجدت أن الذي فيه نقل عن بعض المصادر التاريخية التي تُعنى بمثل هذه الآثار وبعضها ينقل من بعض، وقد ذكر أن كثيراً من تلك الآثار اندثرت لدخولها في توسعات المسجد الحرام، وبقي منها مواضع قليلة ذكرها، وما جاء في مقاله من آثار مكانية مأخوذ من مصادر تاريخية تُعنى بذكر مثل هذه الأخبار - وهو ما عبَّر عنها بالرصد- دون تمحيص لها لمعرفة ما يصح وما لا يصح كما هو شأن كتب التاريخ خلافاً لطريقة المحدثين، وأول مصدر نقل عنه رسالة منسوبة للحسن البصري رحمه الله بعث بها إلى رجل مقيم في مكة أراد الانتقال منها إلى اليمن، رغَّبه فيها بالبقاء في مكة والعدول عما أراد من مغادرتها، قال في تمهيده لمقاله تحت عنوان: ((تأصيل التدوين للأماكن الإسلامية المأثورة في مكة المكرمة)) قال: ((بداية هذا التدوين ــ فيما أحاط به العلم ــ رسالة التابعي الجليل الإمام أبو سعيد (كذا) الحسن بن أبي الحسن البصري، المتوفى سنة عشرة (كذا) ومائة بعد الهجرة، التي خاطب بها صديقه الزاهد عبد الرحيم أو عبد الرحمن بن أنس الرمادي، وكان يسكن مكة شرفها الله، ثم أراد مغادرتها إلى اليمن، فبلغ ذلك الحسن، وكان يواخيه في الله تعالى، فكتب إليه كتابا يرغبه في المقام بمكة زادها الله شرفاً، وذكر له من فضائلها وخصائصها ما يثني عزم صديقه الزاهد عبد الرحيم بن أنس الرمادي عن مغادرة مكة المكرمة. ذكر في هذه الرسالة المواضع التي يستجاب فيها الدعاء في مكة المكرمة في الفقرة التالية: (وما على وجه الأرض بلدة يستجاب فيها الدعاء في خمسة عشر موضعا إلا مكة: أولها: جوف الكعبة الدعاء فيه مستجاب، والدعاء عند الحجر الأسود مستجاب، والدعاء عند الركن اليماني مستجاب، والدعاء عند الحجر مستجاب، والدعاء خلف المقام مستجاب، والدعاء في الملتزم مستجاب، والدعاء عند بئر زمزم مستجاب، والدعاء على الصفا والمروة مستجاب، والدعاء بين الصفا والمروة مستجاب، والدعاء بجمع مستجاب، والدعاء بعرفات مستجاب، والدعاء في المشعر الحرام مستجاب، فهذه ــ يا أخي ــ خمسة عشر موضعا، فاغتنم الدعاء فيها؛ فإنها المواضع التي لا يرد فيها الدعاء، وهي المشاهد العظام التي ترجى فيها المغفرة، فاجتهد ــ يا أخي ــ في الدعاء عند هذه المشاهد العظام، وإنك إذا خرجت من حرم الله تعالى وأمنه ذهبت عنك بركة هذه المشاهد))).وأنبه حول هذه الرسالة المنسوبة إلى الحسن البصري إلى ما يلي:1ـ في صحة نسبتها للحسن البصري رحمه الله نظر؛ فمن حيث إسنادها فقد بحثت وبحث غيري عن رجال الإسناد فلم يحصل الوقوف على تراجم غالبيتهم، وقد ذكر السخاوي في المقاصد الحسنة (ص418) حديثاً مرفوعاً في فضل الطواف فيه مجازفة ومبالغة في الثواب، وفي الرسالة المنسوبة للحسن البصري نحوه، وقال: ((أخرجه الجندي في تاريخ مكة من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس به مرفوعاً وفي رسالة الحسن البصري ومناسك ابن الحاج نحوه وهو باطل))، وذكره أيضاً العجلوني في كشف الخفاء (2/260) فقال: (( وأخرجه الجندي في تاريخ مكة عن ابن عباس مرفوعاً، وفي رسالة الحسن البصري ومناسك ابن الحاج نحوه، ولكن آثار الوضع عليه لائحة، ولذا قال السخاوي: إنه باطل))، ومن حيث متنها ففيه مجازفات ومبالغات وجفاء في حق الأنبياء لا يليق صدورها ممن هو دون الحسن البصري، وسيأتي بيان ذلك بعد قليل.2ـ لم يتطابق في الصحيفة المعدود مع العدد؛ إذ نقص المعدود عن العدد ذكر موضعين وهما: بين الركن والمقام ومنى، وفي الرسالة التي نشرتها مكتبة الفلاح بالكويت بعنوان: ((فضائل مكة والسكن فيها)) ــ وهي الأصل الذي نقل عنه صاحب المقال ــ التطابق بين العدد والمعدود.
3ـ المواضع الخمسة عشر كلها الآن في داخل المسجد الحرام إلا أربعة وهي منى وعرفة وجمع والمشعر الحرام، وتُرجى إجابة الدعاء في أي مكان من المسجد، والتنصيص على استجابة الدعاء في المواضع المذكورة فيه بخصوصها يفتقر إلى دليل، والركن اليماني لم يثبت نص في الدعاء عنده، وإنما الثابت في حقه مسحه في حال الطواف، وأما الحجر الأسود فلا يوقف للدعاء عنده بل يقول عند استلامه: بسم الله والله أكبر، وعند محاذاته: الله أكبر، وقد ثبت الدعاء في حال الطواف بين الركن اليماني والحجر الأسود ولم يأت ذكره في الرسالة المنسوبة للحسن البصري، ففي سنن أبي داود (1892) بإسناد حسن عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما بين الركنين: ((ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار))، ولا يختص الدعاء ببئر زمزم، وإنما يكون عند شرب مائها ولو لم يكن عند البئر، وأما السعي بين الصفا والمروة والدعاء فيه فهو خاص بالسعي للحج والعمرة، ولا يجوز التطوع بالسعي بإجماع العلماء، فقد نقل الحافظ في الفتح (3/499) عن الطحاوي الإجماع على ذلك، ذكرت ذلك في رسالة: ((تبصير الناسك بأحكام المناسك على ضوء الكتاب والسنة والمأثور عن الصحابة)) (ص16)، وذكرت أيضاً كلام بعض العلماء في معنى قوله تعالى: ﭽﮘ ﮙ ﮚﭼ وأنه ليس المراد به تكرار السعي بدون حج أو عمرة، بل المراد تكرار الحج والعمرة أو التطوع بالعبادات الأخرى التي شرع فيها التكرار كالطواف والصلاة وغيرها، وأما المواضع الأربعة الأخرى فلا تُقصد للعبادة والدعاء إلا في موسم الحج، وليس لأحد أن يقصدها في غير الموسم للعبادة والدعاء لأنه لم يرد دليل على ذلك.
4ـ جاء في المقال: ((وذكر له ــ أي الحسن البصري لصديقه ــ من فضائلها وخصائصها ما يثني عزم صديقه الزاهد عبد الرحيم بن أنس الرمادي عن مغادرة مكة المكرمة)).
وهذه الفضائل في الرسالة التي أشار إليها صاحب المقال بعضها مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضها لم يُنص على رفعه، وقد ختمت هذه الفضائل بما يلي: ((ومن صلى في الحِجْر ركعتين ناحية الركن الشامي فكأنه أحيا سبعين ألف ليلة، وكان له كعبادة كل مؤمن ومؤمنة، وكأنما حج أربعين حجة مبرورة متقبلة، ومن صلى مقابل باب الكعبة أربع ركعات فكـأنما عَبَد الله تعالى كعبادة جميع خلقه أضعافاً مضاعفةً، وآمنه الله تعالى يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأمر الله عز وجل جبريل وميكائيل وجميع ملائكته عليهم السلام أن يستغفروا له إلى يوم القيامة، فاغتنم ــ يا أخي! ــ هذا الخير كله، وإياك أن يفوتك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته))!!
أقول: مثل هذه المجازفات والمبالغات في الثواب لهاتين الركعتين والأربع ركعات يبعد معها كل البعد صدورها من الحسن البصري رحمه الله، بل إن مجرد ذكرها مما يستحيى منه، ومن الفضائل التي اشتملت عليها تلك الرسالة (ص38): ((ومن مات في الحرم فكأنما مات في السماء الرابعة))!! ومنها (ص23): ((وما على وجه الأرض بلدة أبواب الجنة كلها مفتوحة إليها إلا مكة، وإن أبواب الجنة لثمانية أبواب كلها مفتوحة إليها بمكة إلى يوم القيامة، فباب منها للكعبة، وباب منها تحت الميزاب، ومنها باب عند الركن اليماني، وباب منها عند الركن الأسود، وباب منها خلف المقام، وباب منها عند زمزم، وباب منها على الصفا، وباب منها على المروة))!! ومنها (ص19): ((وما من ملَك يبعثه الله تعالى من السماء إلى الأرض في حاجة إلا اغتسل من تحت العرش وانقض محرماً، فيبدأ ببيت الله تعالى فيطوف به أسبوعاً ثم يصلي خلف المقام ركعتين، ثم يمضي لحاجته وما بُعث إليه))!! ومنها (ص25): ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن خير البقاع وأطهرها وأزكاها وأقربها من الله تعالى ما بين الركن والمقام))!! ومنها (ص26): ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المقام بمكة سعادة، والخروج منها شقاوة))!! ومنها (ص27): ((قال صلى الله عليه وسلم: من مرض بمكة يوماً كتب الله له من العمل الصالح الذي كان يعمل في غيرها عبادة ستين سنة))!! ومنها (ص30): ((والنظر في بئر زمزم عبادة))!!
وبعد ذكر هذه النماذج من الفضائل المضحكة المبكية التي ليس لها خطام ولا زمام والتي لا يقبلها عقل، أقول: أفمثل هذه الفضائل يفرح بها عضو في هيئة كبار العلماء ويثني عليها بقوله: ((وذكر له من فضائلها وخصائصها ما يثني عزم صديقة الزاهد عبد الرحيم بن أنس الرمادي عن مغادرة مكة المكرمة))؟!
5ـ ومما جاء في الرسالة (ص20): ((وإن حول الكعبة قبر ثلاثمائة نبي، وما بين الركن اليماني والركن الأسود قبر سبعين نبياً قتلهم الجوع والقمل، وقبر إسماعيل وأمه هاجر صلى الله عليهما وسلم في الحِجْر تحت الميزاب، وقبر نوح وهود وشعيب وصالح صلى الله على نبينا وعليهم وسلم فيما بين زمزم والمقام))!!!
وأشير حول هذه القبور المزعومة إلى ما يلي:
أ. هذه القبور المزعومة لهؤلاء الأنبياء هل هي من الخصائص أو الفضائل لمكة أو هما معاً التي نوَّه عنها صاحب المقال بقوله: ((وذكر له من فضائلها وخصائصها ما يثني عزم صديقه الزاهد عبد الرحيم بن أنس الرمادي عن مغادرة مكة المكرمة))؟! وكل ذلك غير لائق.
ب. أن شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم منعت من اتخاذ القبور مساجد وجاء فيها ذم الأمم السابقة لاتخاذها قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، وذِكر هذه الخصائص والفضائل المزعومة في أشرف البقاع مناف لذلك.
جـ. أن وصف هذا العدد الكبير من الأنبياء الذين زُعم دفنهم حول الكعبة بكونهم قتلهم الجوع والقمل فيه جفاء في حق الأنبياء وسوء ظن بالله عز وجل؛ إذ كيف يليق أن يوصفوا بأن هلاكهم بسبب الجوع والقمل؟! وينزَّه الله أن يتركهم بلا زاد وأن يسلط عليهم القمل فيجعل إهلاكهم بجوع من الداخل وقمل من الخارج، سبحانك هذا بهتان عظيم!
د. أما زعم دفن إسماعيل وأمه في الحِجر تحت الميزاب، فإن إسماعيل أعان أباه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام على بناء الكعبة، وكان موضع الحجر داخلاً في بناء الكعبة على القواعد التي بناها إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام؛ والحِجْر بدءُ وجوده في زمن قريش لمَّا قصَّرَت بهم النفقة عند بنائها تركوا المقدار الذي داخل الحجر خارجاً عن بنائها وجعلوا من ورائه الجدار علامة على ذلك، وقد جاء ذلك مبيَّناً في قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: ((يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين: باباً شرقياً وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحِجْر، فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة)) رواه البخاري (1586) ومسلم (3244) واللفظ له، وفي رواية للبخاري (1584) ومسلم (3249) عن عائشة قالت: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدخلوه البيت؟ قال: إن قومك قصَّرت بهم النفقة))الحديث.
هـ. وأما الزعم بأن قبر نوح وهود وشعيب وصالح فيما بين زمزم والمقام، فمعلوم أن نوحاً وهوداً وصالحاً كانوا قبل زمن إبراهيم وقبل وجود بئر زمزم والمقام، وأما شعيب فكان بعد لوط ولوط كان في زمن إبراهيم؛ قال الله عز وجل عن شعيب: (وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ)، وهؤلاء الرسل الخمسة وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب أسماؤهم مصروفة، وقد ذكر الله قصصهم مع أممهم مرتبة حسب أزمانهم في سور الأعراف وهود والشعراء وكذا سورة القمر إلا أن قصة شعيب لم تُذكر فيها.
وكل ما جاء في الرسالة المنسوبة إلى الحسن البصري من ذكر قبور أنبياء مسمين وغير مسمين وكذا ما جاء فيها من مجازفات ومبالغات في فضائل ليس لها أصل هو من الرجم بالغيب، ويبعد صدور ذلك من الحسن البصري رحمه الله.
وبعد ذكر صاحب المقال ما نقله عن الرسالة المنسوبة إلى الحسن البصري رحمه الله قال: ((يقول العلامة قطب الدين بن علاء الدين النهروالي المكي الحنفي في خاتمة كتابه الإعلام بأعلام بيت الله الحرام في تاريخ مكة المشرفة تحت عنوان: (ذكر المواضع المباركة، والأماكن المأثورة بمكة المشرفة): (فمنها المواضع التي نص العلماء رحمهم الله تعالى أن الدعاء فيها مستجاب، وذكر الحسن البصري رضي الله عنه خمسة عشر موضعا يستجاب الدعاء فيها، عدَّدها، وزاد غيره مواضع أخرى فبلغت ثلاثة وخمسين موضعا، وذكر منها مواضع غير معروفة الآن)، ثم تتابعت الكتابات في هذا الموضوع وتواترت عند المؤرخين والفقهاء، وتوسعوا في ذكرها نثرا ونظما، حتى أصبحت تمثل جزءا من موضوعات كتب التاريخ المكي وكتب فقه المناسك بخاصة، يأتي في مقدمة المصادر التاريخية التي عددت الأماكن التاريخية التي تنتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام كتب السيرة النبوية والمصادر التاريخية العامة والمتخصصة: أولا: الأماكن التاريخية المأثورة في مؤلفات السيرة النبوية الشريفة: عرض علماء السيرة النبوية الشريفة للأماكن التاريخية المأثورة في مكة المكرمة مما له علاقة بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأضافوا في مقالاتهم كل ما يذكر عنها من أقوال كما هي عادة المؤرخين؛ إذ إن من وظائف المؤرخ أن يرصد كل ما يقال عن المكان والحدث بصرف النظر عن صحته أو عدم صحته، فمنهم من يطلق الرواية، ومنهم من يكون أكثر دقة فيُسقط من الاعتبار ما لم تشهد له الشواهد أو الوقائع في زيفها ويبطلها من اعتباره، ثم يبين في النهاية الراجح من تلك الأقوال، وبهذا يستقيم لهم المنهج التاريخي كاملا)).
ثم بعد ذلك أورد صاحب المقال ما أمكنه من أسماء الكتب في السيرة النبوية والتاريخ وغيرها التي تشتمل على ذكر أخبار حول ما أراده من آثار مكانية دون تمييز بين صحيح وغيره ودون اعتماد على الأسانيد كما هي طريقة كتب التاريخ خلافاً لطريقة المحدثين، وفي مقدمة صحيح مسلم (32) عن عبد الله بن المبارك رحمه الله قال: ((الإسناد من الدين؛ ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء))، وقد أعجبتني كلمة من أحد أساتذة التاريخ في الجامعة الإسلامية بالمدينة قبل ربع قرن شارك في مناقشة رسالة جامعية موضوعها مرويات غزوة من غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ((قد شارك القصاصُ المحدثين في مناقشة هذه الرسالة))، يعني نفسه لكونه من المؤرخين الذين وصفهم بالقصاص.
ثم خلص صاحب المقال إلى أنه لم يبق من الأماكن التاريخية بمكة في عام 1429هـ إلا أحد عشر موضعاً عدَّدها، وهي: الموضع الذي يُذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد فيه وغاران وثمانية مساجد، وأشهر هذه المساجد مسجد الخيف بمنى الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم في حجته، ولم يأت ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قصده للصلاة فيه في غير حجته ولا أرشد أمته إلى قصده للصلاة فيه في غير الحج، وقد أحرم النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته الثالثة من الجعرانة بعد غزوة حنين وأذن لعائشة رضي الله عنها أن تحرم بعمرة بعد الحج من التنعيم، وأهل مكة إذا أرادوا الإحرام بالعمرة يحرمون من الحِل سواء كان من التنعيم أو الجعرانة أو من أي مكان خارج حدود الحرم من جميع الجهات، ولا يلزم أن يكون الإحرام من الجعرانة أو التنعيم من المسجدين الموجودين فيهما، بل يجوز أن يكون الإحرام من داخلهما أو خارجهما، ولا يُقصد هذان المسجدان من أجل الصلاة فيهما، ويصدق على قصد مسجد الخيف ومسجدَيْ الجعرانة والتنعيم وكذا المساجد الأخرى ما جاء في الأثر الذي جاء عن عمر رضي الله عنه المتعلق بمسجد بين مكة والمدينة سيأتي ذكره قريباً، والحجاج والعمار بحاجة إلى توجيههم إلى الإكثار من الطواف بالبيت والصلاة في المسجد الحرام فرضاً ونفلاً، وليسوا بحاجة إلى إرشادهم إلى الذهاب إلى غيران وغير غيران مما لم يأت في مشروعية قصدها عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم برهان.
والآثار المكانية تنقسم إلى قسمين:
الأول: مواضع ثبت في الأدلة الشرعية بيان فضلها والترغيب في التقرب إلى الله عز وجل فيها، كالمساجد الثلاثة التي لا تُشد الرحال إلا إليها ومسجد قباء، فهذا القسم يُقصد ويُتقرب إلى الله عز وجل فيه.
الثاني: مواضع لم يثبت فيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترشد إلى قصدها والتقرب إلى الله عز وجل فيها، فلا تُقصد للصلاة فيها، ومن ذلك المساجد التي اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها دون قصدها؛ يدل على ذلك الأثر الذي رواه عبد الرزاق (2/118ـ119) وابن أبي شيبة (2/376ـ377) بإسناد صحيح عن المعرور بن سويد قال: ((كنت مع عمر بين مكة والمدينة، فصلى بنا الفجر فقرأ ﭽﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﭼ، وﭽﭑ ﭒﭼ، ثم رأى قوماً ينزلون فيصلون في مسجد، فسأل عنهم فقالوا: مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعاً، من مرَّ بشيء من المساجد فحضرت الصلاة فليصلِّ وإلا فليمض))، قال شيخ الإسلام ابن تيمية معلقاً على هذا الأثر: ((فلمَّا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصَه بالصلاة فيه، بل صلَّى فيه لأنَّه موضع نزوله، رأى عمر أنَّ مشاركتَه في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة، بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك، ففاعل ذلك متشبِّه بالنَبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصورة، ومتشبِّه باليهود والنصارى في القصد الذي هو عمل القلب)) مجموع الفتاوى (1/281)
وقد كتبت في الموضوع رسالة بعنوان: ((التحذير من تعظيم الآثار غير المشروعة)) وهي مطبوعة في عام 1428هـ ضمن مجموعة كتبي ورسائلي (4/207ـ229).
والآثار الحقيقية للرسول صلى الله عليه وسلم التي على المسلم المحافظة عليها سنته المطهرة وهي أقواله وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم واتباع ما جاء في الكتاب والسنة، وذلك علامة محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الله عز وجل: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقد قال الله عز وجل: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، وقال: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)، وقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم)) الحديث رواه البخاري (7288) ومسلم (6113)، وقال صلى الله عليه وسلم: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) رواه البخاري (7280)، وقال الشاعر:
دين النبي محمد أخبار
نعم المطية للفتى آثارُ
لا ترغبنَّ عن الحديث وأهله
فالرأي ليل والحديث نهار
ولربما جهل الفتى أثر الهدى
والشمس بازغة لها أنوار
وقد وُضعت صورة صاحب المقال في حلقاته الثمان خالية من أثر الآثار الشرعية، وكان ينبغي له أن يحافظ على هذه الآثار الشرعية وأن يسلم من التعلق بالآثار غير الشرعية والإرشاد إليها، وقد اجتمع في إعفاء اللحى الوجوه الثلاثة التي تثبت بها السنة وهي القول والفعل والتقرير؛ وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية وأمر بإعفائها وكان أصحابه ذوي لحى وقد أقرهم على ذلك، وقد قلت في رسالة: ((تبصير الناسك بأحكام المناسك على ضوء الكتاب والسنة والمأثور عن الصحابة)) (ص50) عند ذكر محظورات الإحرام: ((وأما اللحية فإن حلقها أو أخذ شيء منها حرام في جميع الأحوال في حال الإحرام وغيرها؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب، وأوفوا اللحى)) رواه البخاري (5892) ومسلم (602)، ولفظه في البخاري: (( ووفروا اللحى ))، وعند البخاري (5893) ومسلم (600) بلفظ: ((وأعفوا))، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)) رواه مسلم (603)، وفي هذين الحديثين جاء الأمر بذلك بألفاظ أربعة وهي: الإعفاء والإيفاء والإرخاء والتوفير، قال شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في منسكه: ((وقد عظمت المصيبة في هذا العصر بمخالفة كثير من الناس هذه السنة ومحاربتهم للِّحى ورضاهم بمشابهة الكفار والنساء، ولاسيما من ينتسب إلى العلم والتعليم، فإنا لله وإنا إليه راجعون!))، وذكر شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان (4/630) في تفسير سورة طه عند ذكر هارون وموسى دلالة القرآن على إعفاء اللحى وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم وقال: ((وقد كان صلى الله عليه وسلم كث اللحية وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة، والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها ليس فيهم حالق)))).
وأسأل الله عز وجل أن يوفقني وصاحب المقال وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات على الحق والالتزام بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
عبد المحسن بن حمد العباد البدر
20/9/1431هـ
20/9/1431هـ
___________
المصدر: موقع الالوكة