البلاغة والأدب في كتابات الشيخ ابن محمود
كانت كتابات الشيخ وأعماله العلمية تتميز ببلاغة السبك وحسن البديع ويدخل فيها الاستشهاد بأبيات من الشعر يحسن الشيخ بحسه الأدبي اختيارها . وكان الشيخ يهتم منذ أيام طلبه العلم بالأدب والبلاغة والشعر باعتبارها ضرورية لتقويم اللسان وتحسين مستوى الخطابة والكتابة. ونظرة إلى كتاباته ومراسلاته تعطي القارئ فكرة عن تميزه رحمه الله بقلم بليغ وحس أدبي رفيع ، وأسلوبه كما قيل من السهل الممتنع.
يقول رحمه الله في مقدمة كتابه ( الحكم الجامعة ) : " وما يوجد فيه ( أي الكتاب ) من أساليب البلاغة والبيان ، وانسجام الألفاظ مما يعد من علم الجناس ، فهو من نتيجة القريحة والسجية السمحة غير المتكلفة . وقدوتي في ذلك كتاب الله ، إذ أن فيه من البلاغة والبيان مايعجز عن وصفه كل إنسان ، يقول الله تعالى ( وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ) أي يبلغ من أفهامهم ويعلق بأذهانهم . ويوجد فيه من العظات ما يظن بأنها من المكررات، وهذا لا يوجد فيه إلا من قبيل الندور، فإن كل ما يوجد فيه مما يظن أنه متفق في الرسم والعنوان؛ لكنه يفترق في العلم والبيان، ولنا الأسوة بكتاب ربنا حيث يذكر القصة مبسوطة في مكان، ومتوسطة ومختصرة في مكان ... ".
وأسوق هنا نماذج لأعماله التي تبرز فيها ملكته الأدبية وبلاغته الجميلة مقسمة بحسب الموضوع :
١- المراسلات : تبرز ملكة الشيخ الأدبية وقدرته البلاغية في الكثير من المراسلات التي كان يخطها أو يمليها ، ومن ذلك كتابه للملك سعود بن عبدالعزيز المؤرخ في 1/3/1376 هـ الموافق 5/10/1956م والذي أرسله كرد على كتاب الملك سعود إليه والذي ذكر فيه نقد المشايخ لرأيه في رمي الجمار قبل الزوال وبالليل فقال : ".... فهؤلاء المشايخ الذين عرضت عليهم هم على كل حال أطول مني باعاً، وأوسع اطلاعاً، لأنهم الأساتذة المعلّون والقادة المتبعون ، ولكن الخلاف في مسائل الفروع لا يزال يجري بين الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين، فيرد الصغير فيها على الكبير، ويعارض التلميذ رأي العالم النحرير، فيفترقان في الفهم ثم يتفقان في الحكم، لأن الغرض واحد والغاية متساوية ، والله قد نصب لهم حكماً قسطاً يقطع عنهم النزاع، ويعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع، وهو الكتاب والسنة، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
فلا تجد عليّ أيها الملك في نفسك ، وأنا لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرص في الأحكام ، ولا التنقص لمشاعر حج بيت الله الحرام، وإنما بنيت أصول ما قلت على النصوص الجلية والبراهين القطعية، قارناً كل قول بدليله، مميزاً بين صحيحه وعليله، وبودي لو أعطاها الملك إصغاء واستكملها سماعاً ، ليدرك بذهنه الوقّاد وفهمه النقّاد حقيقة معناها، وجلية مغزاها، وأنها بريئة مما رميت به من التحريش والتشويش ، فإن الملك ذو رأي وروية، وشكيمة قوية، لا تقرع له العصا، ولا يقلقله الحصى ، وإن أملي في نصرته لها، من أجل كونها حقاً، أقوى من أمل غيري في الاستعانة به على خذلانها بحجة أنها باطل، إذ كلانا بمحض الوزن بالعدل سيّان، ونحن من بني الإنسان، الذي هو محل الخطأ والنسيان، والخطأ كما يقع كثيراً من القائل، فإنه يحتمل من الناقد أيضاً، إذ ليس كل ناقد بصير، سوى الله الذي لا نقص في كلامه، وتمتنع حصول العصمة لكتاب غير كتابه....."
وفي الرسالة التي وجهها إلى علماء الرياض في تحقيق القول بجواز رمي الجمار قبل الزوال ووزعها على المشايخ عندما ذهب إلى الرياض لمناظرتهم تلبية لطلب الملك سعود ومما قال فيها:
"... لأني وإن كنت أرى في نفسي أني أصبت فيه مفاصل الإنصاف والعدل , ولم أنزع فيه إلى ما ينفاه الشرع أو يأباه العقل ، لكنني أعرف أني فرد من بني الإنسان الذي هو محل للخطأ والنسيان , وأنتم من الفقه والإتقان بمكان , تعرفون النصوص ولا تخفى عليكم القصود ، وهذا المسؤول عنه بين أيديكم معروض ، والقول منكم بما يستحقه مفروض، فعلى كل أخ مخلص ناصح أن يجيل فيه النظر بإمعان وتفكر, وذلك بأن يعيد دراسته, ويعجم عود فراسته، ليتضح له على الجلية معناه ، ويقف على حقيقة مغزاه ، فإن تبين أني خلطت في الدراية ، وأخطأت في الرواية ، وجئت قولاً إدّاً , وجرت عن الحق قصداً , وجب عليه أن يسددني من الهفوة ، ويسندني من الكبوة , ويكشف لي بكتاب عن وجه ما خفي علي من الصواب , لأن الحق أحق أن يتبع , والعلم جدير بأن يستمع , والقصد واحد والغاية متساوية , وكل على حسبه من العلم بكتاب ربه وسنة نبيه ، والله يعلم - وهو عند لسان كل قائل وقلبه - أنّي لم أتخوض فيما قلت بمحض التخرص في الأحكام، ولا التقول بلا علم في أمور الحلال والحرام , وإنما بنيت أصول ما قصدت على النصوص الجلية والبراهين القطعية , قارناً كل قول بدليله مميزاً بين صحيحه وعليله , ودعوت فيها الناس إلى ما دعاهم إليه كتاب ربهم وسنة نبيهم من السماحة واليسر , بدل ما وقعوا فيه من الحرج والعسر ..." .
وكتب في إحدى نصائحه لأحد حكام قطر السابقين :
"...فإن من لوازم المحبة الدينية التقدم إليكم بالنصيحة الودية، فقد أخذ الله العهد علينا بأن نناصح من ولاه الله أمرنا , لأن الدين النصيحة , لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم . وعسى أن لا أقول شيئاً إلا وعلمك يسبقني إلى القول بصحته والاعتراف بموجبه , غير أن قولي هو من باب تنبيه الغافلين (وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) . فلا تجد في نفسك من أجله, فإنك عزيز عندي والحق أعز من كل أحد, وأعوذ بالله أن أموت وأنا غاشّ لك , أو كاتم نصيحتي عنك :
ما ناصحتك خبايا الود من أحد ما لم ينلك بمكروه من العذل
مـودتي لك تأبى أن تسامحنـي بأن أراك على شئ من الزلل
وكان بعض السلف يقول: "لو أن لي دعوة مستجابة, لصرفتها إلى السلطان, لأن صلاحه يترتب عليه صلاح رعيته".
أيها الأمير , إن العدل قوام الدنيا والدين , وصلاح المخلوقين , وهو الآلف المألوف , المؤمّن من كل مخوف , به تآلفت القلوب والتأمت الشعوب , والعدل مأخوذ من العدل والاستواء , وحقيقته وضع الأمور في مواضعها , وأخذ الأموال من حلها , ووضعها في محلها . فجدير بمن ملّكه الله بلاده, وحكّمه على عباده, أن يكون لنفسه مالكاً, ولطريق العدل والقصد سالكاً, وللهوى والشهوات الخارجة عن حد الاعتدال تاركاً, فإذا فعل ذلك ألزم النفوس طاعته, والقلوب محبته, وأشرق بنور عدله زمانه, وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه.."
وقال في رد على تعزية أحد المشايخ له ".... وما أشرت إليه من التعزية في المحب الفاضل, علامة القصيم الشيخ عبدالرحمن بن سعدي, فأحسن الله لنا ولكم فيه العزاء, وأجزل لنا على فقده جزيل الخلف والجزاء, مصابه عام وخطبه جلل , وفي الله عنه الخلف , أسأل الله أن لا يحرمنا أجره ولا يفتنا بعده ..."
وأوصى أحد محبيه الذي سافر للعلاج في بيروت فكتب له : "... وإني أوصيك بتقوى الله تعالى , والاعتصام بالكتاب والسنة , والتجافي عن مواقع الفتنة , واعلم يا أخي أن رؤية المنكرات تعمل عملها وتقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور العلم والعرفان , والتمييز والفرقان , لأن المنكرات متى كثر على القلب ورودها وتكرر في العين شهودها , ذهبت عظمتها من القلب شيئاً بعد شئ , إلى أن يراها الإنسان فلا يرى بقلبه أنها منكرات , ولا يمر بفكره أنها معاصي ... والناس يعرفون بالحواس أنه متى كثر الإمساس قلّ الإحساس . وهو وإن كان الشر المخوف فاشٍ في الناس , لكن حنانيك إن بعض الشر أهون من بعض , وحسبك من شر سماعه ... وفيك والحمد لله من الدين ما يزعك إلى الهدى ويردعك عن الردى , ولا حول ولا قوة إلا بالله , ولكن خلاصة الحب حدا بي إلى بذل محض النصح, لعلمك أن الأخلاق تتقاضى والطباع تتناقل , والمرء على دين جليسه , وأني استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك ..".
وكتب ردّاً على رسالة عتاب من واحد من كبار المسؤولين من العائلة الحاكمة :
"... وبما أنني أحمل لك في القلب ودّاً مكينا ، وقد وقعت نصيحتي منك بالموقع الذي لم أرده فإنني أعتذر إليك مما وقع في نفسك سواء كان صوابا أو خطأ ، ولك العتبى حتى ترضى ، وما أريد إلا استدامة محبتي في الله إن رأيتني أهلا لها ، بدون أن يشوبها شيء من أمر الدنيا ، أما ما أشرت إليه من دفاعك عن عرضي في لندن حين حاول شخص أن يتناول مني ، فهذا شيء لا نستغربه منك لأنني منصوبكم ، وقد ذقت شيئا من حلاوة جميل عطفكم وجزيل لطفكم في سبيل نصرتي والدفاع عن عرضي في غيبتي ، شكر الله إحسانكم وأدام فضلكم وامتنانكم ، وإنني لا ألوم أي شخص تكلم فيّ بأمر أنا فاعله ، فإن الناس شهداء الله في أرضه ، أما من تكلم فيّ بأمر يريد تنقّصي به وأنا بريء منه فالله حسيبه ، وسيتصدى له من يحتسب نصرتي في الله مع مناضلة أعمالي دون عرضي..."
ذكر في ردّه على رسالة أحد الوجهاء ممن كانت له علاقة قوية معه، بعد أن حكم ضده في قضية لصالح امرأة ضعيفة وبناتها الأيتام "... وإني أشعرك بأمر يعود عليك بالراحة , وهو أن مدحك لي لا يحملني على الحيف لك , كما أن ذمّك لا يستدعيني إلى ظلمك , ولو كان الأمر بالتخيير, وأن الحكم لا يعقبه حساب خبير ولا عقاب قدير , لاخترت أن يكون عندك دونهم , ولن يرهقني طغيان عليك ما نسبتني إليه من اللّوم والذم , وما نسبتني إليه من الجور والظلم في خصوص هذا الحكم , لأنه ما من أحد سلم من أذى الناس حتى كتاب الله الموصوف بالصدق والعدل لم يسلم من الطعن ..." .
٢- الخطب : تظهر بلاغة الشيخ في خطبه العديدة والتي غطت معظم ما يشغل الناس من شؤون الدين والحياة ، ونظرة إلى مقدمة خطبه تبرز لنا مقدرته في تركيب الجمل على نسق مسجوع يجذب آذان السامعين. مثال ذلك هذه المقدمة:
" الحمدلله معز من أطاعه واتّقاه ، ومذل من أضاع أمره وعصاه ، الذي وفق أهل طاعته للعلم بما يرضاه ، وحقق على أهل معصيته ما قدره عليهم وقضاه ، أحمده سبحانه على حلو نعمه ومرّ بلواه ، وأشهد أن لا إله إلا الله لاربّ لنا سواه ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله الذي كمل به عقد النبوّة فطوبى لمن والاه ...." وفي خطبة غيرها يقول :
"الحمد لله الذي على فوق جميع مخلوقاته وارتفع، واحتجب في هذه الدارعن لواحظ خلقه وامتنع، وفلق صم الأحجار عن أخضر الشجر فطلع، وأعطى ومنع ووصل وقطع، وحكم بالفناء على الخلائق أجمع ، أحمده حمد من أناب إليه ورجع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يجيب المضطر ويسمع. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى الإنس والجن أجمع....."
وفي خطبة أخرى يبدأ بهذه المقدمة:
"الحمد لله الكريم المنان، العزيز ذوالسلطان، خلق الإنسان من تراب ثم قال له كن فكان، يعطي ويمنع ويخفض ويرفع وكل يوم هو في شأن، أحمده سبحانه على نعمة الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من قالها باللسان وانقاد لها بالجنان والأركان. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد عدنان، بعثه الله رحمة لأهل الإيمان، وحجة على أهل الظلم والقطيعة والعدوان، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ذوي الفضل والعرفان، وأهل الصلة والإحسان، وسلم تسليماً كثيراً..."
وفي مقدمة خطبة أخرى يقول رحمه الله:
"الحمد لله الغني الحميد، المبدي المعيد، ذي العرش المجيد، والفعال لما يريد، أحمده سبحانه حمد عبد مخلص في التوحيد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أرجو بها النجاة من هول الوعيد، والخطب الشديد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الداعي إلى كل قول سديد، وفعل حميد، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين تمسكوا بسنته واتبعوا شرعه المجيد، وسلم تسليماً كثيراً ..."
وفي خطبة أخرى يبدأ بهذه المقدمة : "الحمد لله الذي وفق عباده المؤمنين لأداء الأعمال الصالحات، وشرح صدور أوليائه المتقين للإيمان بما جاء به رسوله من الحكم والآيات، أحمده سبحانه على ما له من الأسماء والصفات، وأشكره على ما أسداه من جزيل الإنعام والبركات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها رفيع الدرجات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ذوي الهمم العاليات، والأعمال الصالحات، وسلم تسليماً كثيراً ...."
وفي خطبة الأضحى وبعد تسع تكبيرات يقول : " الله أكبر كلما احرموا من الميقات ، الله أكبر كلما لبّى الملبون وزيد في الحسنات ، الله أكبر كلما دخلوا فجاج مكة وتلك الرحبات ، الله أكبر كلما طافوا بالبيت العتيق وضجت الأصوات بالدعوات ، الله أكبر كلما سعوا بين الصفا والمروة وتلك المشاعر المفضلات ، الله أكبر كلما وقفوا خاشعين بعرفات ، الله أكبر كلما نظر الجبار إليهم من فوق سبع سماوات ، الله أكبر كلما باتوا بمزدلفة وأفاضوا إلى منى ورموا تلك الجمرات ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .."
٣- كتبه ومقالاته : كما تظهر قدرة الشيخ البلاغية فيما سطره من رسائل ومؤلفات عديدة . يقول في مقدمة رسالة تحقيق المقال :
"إن المخلص الناصح والبصير الناقد يجب عليه أن يتثبت في الرد والنقد ، و أن يقر ضرورة الحال والمحل ، فإن لكل مقام مقالاً ، والعلة تدور مع المعلومات وجوداً و عدماً ، و تختلف الفتوى باختلاف الزمان والمكان، فيما لا يتعلق بأصول العقيدة والأركان ، و قد جاءت هذه الشريعة السمحة لجلب المصالح وتكثيرها ، و درء المفاسد و تقليلها ، و من قواعدها المعتبرة أنه إذا ضاق الأمر اتسع ، والمشقة تجلب التيسير ، و يجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما ، و الحرج منفي عن الدين جملة و تفصيلاً : (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (الحج/78) ، (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة / 185) ، لأن الدين عدل الله في أرضه ، ورحمته في عباده ، شرع لإسعاد البشرية في أمورهم الروحية والجسدية والاجتماعية ، ولو فكر العلماء بإمعان و نظر لوجدوا فيه الفرج والمخرج من كل ما وقعوا فيه من الشدة والحرج".
وقد منح الله الشيخ قلماً سيالاً وقوة في التعبير يظهر ذلك في العبارة التي يصف فيها أسلوبه في مقدمة كتابه (الحكم الجامعة) , "... وإنني عندما أطرق موضوعاً من مواضيع البحوث العلمية التي يحسن التذكير بها وبمحاسنها ومساوئها وحكمها وأحكامها ، فإنني آخذ للبحث بغيتي , وغاية رغبتي , مما وصل إليه فهمي وعلمي, حتى ولو طال ذيل البحث , ولن اقتصر فيه على بلغة العجلان, ورغبة العاجز الكسلان, إذ أن الناس يتفاوتون في قوة الإيراد والتعبير, وفي حسن المنطق وجمال التحبير, والعلم شجون يستدعي بعضه بعضاً ويأخذ بعضه برقاب بعض, وعدّوا من عيوب الكلام وقوع النقص من القادر على التمام, ووقوع الإنفصام والإنفصال في مواقع الإتصال ".
وكان رحمه الله ينتقد بعض المشايخ في عدم تحرّيهم للحكم الصائب فيقول : "وبعض إخواننا يعجز عن استعمال فهمه في إدراك ما عسى أن ينفعه , وإنما يصغي بإذنه إلى ما يقول الناس بدون ترو ولا تفكّر , فإذا قالوا في الشئ خطأ قال خطأ , وإذا قالوا صواباً قال صواباً ..." ويقول : "ولكن الحق مهما حاول الناس منعه وتحاملوا على قائله : فإن عادة الله في نصره أنه يشق طريقه بنفسه لنفسه , ثم يعود الناس إلى العمل به والحكم بموجبه مهما طال أو قصر زمانه" ويقول في ختام رسالة أخرى "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون , إن أجبناهم لم يفقهوا ، وإن تركناهم تركناهم إلى غيّ طويل". ويقول : " غير أنني أعرف أهل زماني، وخاصة إخواني وأقراني، وأنهم على اتباع زلاتي، وإحصاء سيئاتي، وستر حسناتي ، أحرص منهم على الانتفاع بعظاتي، لكنني أسلّي نفسي بالتأسي بالعلماء الفضلاء قبلي الذين دب إليهم داء الحسد من أقرانهم، لكون الرجل الفاضل مهما هذب نفسه، وحاول كف ألسنة الناس عن عذله ولومه فإنه لن يسعه ذلك، لأن كل ذي نعمة محسود كما قيل:
ليسَ يَخْلو المَرْءُ مِنْ ضـِدٍّ وَلَوْ
حاوَلَ العُزْلَةَ في رَأْسِ الجَبَلْ
ويقول في رسالته ( القول السديد في تحقيق الأمر المفيد ) : " ... إنه متى تصدى عالم أو كاتب لتأليف أي رسالة أو مقالة أو قصيدة فبالغ في تنقيحها بالتدقيق ، وبنى قواعدها على دعائم الحق والتحقيق ، بالدلائل القطعية والبراهين الجلية من نصوص الكتاب والسنة ، فحاول جاحد أو حاسد أو جاهل أن يغير محاسنها ويقلب حقائقها وينشر بين الناس بطلانها وعدم الثقة بها ، ويلبسها ثوباً من الزور والبهتان ، والتدليس والكتمان ، ليعمي عنها العيان ، ويوقع عدم الثقة بها عند العوام وضعفة الأفهام ، أفيلام صاحبها متى كشف عنها ظلام الإتهام ، وأزال عنها ما غشيها من ظلال الأوهام ، إذ لابد للمصدور من أن ينفث ، والحجة تقرع بالحجة ، ومن حكم عليه بحقّ فالحقّ فلَجَه ( ولمن انتصر بعد ظلمه فأُولئك ما عليهم من سبيل ) .."
٤- إختياراته الشعرية : يكثر الشيخ من الإستشهاد بأشعار العرب وأمثالهم ، وقد جمعت الكثير من استشهاداته وما أعجبه من أشعار وأقوال وقطع أدبية بحيث بلغت الحصيلة كتاباً كبيراً هو هذا الذي بين أيديكم وبما لا يحتاج إلى زيادة توضيح .
أخيراً أرجو أن أكون قد أديت جزءاً من واجبي كتلميذ للشيخ وابن له لإبراز ما يستحقه من تقدير وإظهار جوانب يجهلها كثير من الناس عن علمه الغزير وبلاغته الرفيعة واهتمامه باللغة والأدب . رحمه الله وغفر له وأجزل له المثوبة ، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
عبدالرحمن بن عبدالله بن زيد آل محمود
الدوحة في غرة جمادى الثانية 1431
الموافق 14/5/2010
الدوحة في غرة جمادى الثانية 1431
الموافق 14/5/2010