آداب واحكام شجرة النسب
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظ النسب من مقاصد الشرع الشريف ، و قد تنوعت طرقه في إثبات الأنساب ، و حمايتها من عوامل الضياع و الادعاء . و قد تنوعت وسائل الناس في حفظ الأنساب ، فهناك من اعتمد على الروايات ، و هناك من نحت اسمه منسوباً إلى قبيلته على أحجار المقابر و غيرها ، و هناك من ذكر المآثر و الأجداد العظام في قصائد الشعر ، و هناك من كتب و صنف في أنساب قومه ، و من بين تلك الوسائل : وسيلة صنع " شجرة النسب " ، فما هي " شجرة النسب " ؟ و ما معنى " الشجرة " في الاصطلاح ؟ و من أول من صنع الشجرة ؟ و ما آدابها و أحكامها ؟
هذه الرسالة المختصرة تجيب عن شيء من تلك التساؤلات ، و يحاول مؤلفها من خلال جملها التأصيل لمصطلح " شجرة النسب " . و قد كانت الرسالة على النحو الآتي :
- الأصل اللغوي .
- المعاني الاصطلاحية للفظ " الشجرة " .
- الشجرة و ما يرادفها عند النسابين .
- أولية التشجير في النسب لمن ؟
- التشجير صنعة لها آداب .
ـ آداب و أحكام في صنع الشجرة .
ـ خطوات عمل الشجرة .
- الفروق بين المبسوط و المشجر في النسب .
- حكم العمل بالشجرات ؟
و الله تعالى من وراء القصد .
- الأصل اللغوي :
جاء في القران الكريم :" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم .. " . و قوله :" لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة .. " ، و قوله :" و لا تقربا هذه الشجرة .. " ، و غير ذلك من المواضع .
قال ابن فارس :" الشين و الجيم و الراء أصلان متداخلان ، يقرب بعضهما من بعض ، و لا يخلو معناهما من تداخل الشيء بعضه في بعض ، و من علو في شيء و ارتفاع " أهـ[1] .
و قد ورد في " السنة " ما يدل على تمثيل النبي صلى الله عليه وعلى آله و سلم للإنسان بالخط على الأرض ، ودليل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : خطَّ النبي صلى الله عليه و على آله و سلم خطَّاً مربعاً ، و خطَّ خطَّاً في الوسط خارجاً منه ، و خط خططاً صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط ، وقال :" هذا الإنسان ، و هذا أجله محيط به - أو : قد أحاط به - ، و هذا الذي هو خارج أمله ، و هذه الخطط الصغار الأعراض ، فإنْ أخطأه هذا نهشه هذا ، و إن أخطأه هذا نهشه هذا " [2].
و ورد في "السنة المطهرة" أيضاً ما يدل على تشبيه الإنسان ببعض أنواع الشجر ، فورد تمثيل المؤمن بـ"النخلة " ، و " خامة الزرع " ، و ورد تمثيل الكافر و المنافق بـ"شجرة الأرز " ، و " الريحان " ، و غير ذلك من الآثار .
و ذكر أحمد تيمور في " معجم الألفاظ العامية " أن العامة ، تقول للشجرة " :" سجرة ، و لكنها تطلق الشجرة على الحشيش كناية ، و يقولون : فلانٌ بيشجَّر ، أي : يدخن الحشيش ؛ كأنهم جعلوه اسماً بالغلبة " [3].
قلت : فكأن هذا هو أصل استعمال العامة الآن للفظ :" السجارة " في :" لفائف الدخان الخبيث " .
- المعاني الاصطلاحية للفظ " الشجرة " :
توارد جمعٌ من أرباب الفنون و المعارف على استخدام هذا اللفظ و ما يقاربه ، ليدللوا به على معانٍ تخصهم . من أولئكم : معاشر النسابين ، و الشعراء ، و الصوفية ، والأطباء .
و الاستعمال عندهم لمصطلح " شجرة النسب " على النحو الآتي :
1_ مفهوم " الشجرة " ، و " المشجر " عند النسابين .
تقدم أن " ش ج ر " أصلان متداخلان يدلان على : تداخل ، و ارتفاع . و من هنا حكى بعضهم أن مأخذ " التشجير " مأخوذ من :" السبط " ، و هو :" ضربٌ من الشجر ، فجعل الأب الذي يجمعهم كالشجر الذي يتفرع عنه الأغصان الكثيرة ، ولذلك ينقش شكل الشجر في الأنساب " ، قاله ابن فندق البيهقي [4].
و مع أن الشجرة تستخدم في ألفاظ و كلام النسابين كثيراً ، إلا أنني لم أعثر على من عرفها تعريفاً اصطلاحياً ، فكأنهم اكتفوا بما هو متقرر من معناها اللغوي . و يمكن للمرء أن يقول " شجرة النسب " : ورقة مفردة في نسب قوم ما دون غيرهم ، منسوبين إلى رجل واحد ، فرعت أنسابهم من أعلى أو أسفل على هيئة شجرة أو ما يشبهها ، يتبين من النظر فيها اسم كل فرد و عقبه ، و كيفية اتصال نسبه بذلك الرجل .
و قد يطلق على " الشجرة " أنها :" كتاب " ، كما وقع في كلام أبي حامد الغزالي في " فضائح الباطنية "[5] ، و كما في " اللباب "[6] لابن الأثير ، حيث نصَّا على :" كتاب الشجرة " ، لما ذكرا نسب إسماعيل بن جعفر ، و ربما قصدا " المشجر " ، لأنه على هيئة كتاب ، و سيأتي الحديث عنه بعد قليل .
و قال بعضهم : إن طريقة أهل الشام و الحجاز في كتابة الشجرة من أعلى إلى أسفل ، و أهل العراق بالعكس [7]. و المعروف من عادة أهل الحجاز في شجراتهم القديمة و الحديثة أنها من أسفل إلى أعلى . و قد اطلعت على بعض الشجرات الحديثة لأهل فلسطين و غيرها من بلاد الشام ، فرأيتها من أعلى إلى أسفل ، فيبدو أن هذا من عادة أهل الشام فحسب ، على أنها مخالفة للأصل اللغوي لمادة " شجر " ، إذ الشجر ينبت من أسفل إلى أعلى لا العكس .
تنبيه : المقصود من الشجرة عند معاشر النسابين وصل الأسماء من أسفل إلى أعلى بـ :" بـــن " ، ثم يذكرون الأسماء ، هذا هو المتبادر ، و هو الذي يوجد في شجرات النسابة ، كشجرة أبي قناع ، و شجرات الزبيدي و غيرهما ، و لا يرسمون أوراق الشجر مجردة ، و يضعون فيها الأسماء ، كما هي عادة كثير من العصريين ، فهذا خلاف عمل المتقدمين ، و الأولى متابعة من تقدم ، فإن إثبات لفظ " بن " من سنن العرب ، و تركها من عادة العجم ، فلا ينبغي تركها في كتابة الأنساب .
و بسبر كلام متقدمي النسابين نجد ألفاظاً مقاربة للفظ " الشجرة " ، و هي تحتاج إلى تبيين و توضيح لضرورة ضبط الاصطلاح . فمن ذلك :
1. جريدة النسب : كقولهم مثلاً - في جرائد العلوية[8] : " جريدة الري " ، و " جريدة نسابور " ، و " جريدة طبرستان " ، و " جريدة أصفهان " ، و " جريدة الكوفة العتيقة " [9] ، و " جريدة البصرة العتيقة "[10] ، و " جريدة شيراز "[11] ، و "جريدة بغداد"[12] . و استعمل هذا اللفظ حتى أصبح للحمام :" دفاتر بأنسابها ، كأنساب العرب " . و قد بالغ العبيديون القرامطة في العناية بالحمام حتى :" أفردوا له ديواناً و جرائد بالأنساب " .
و هذه الجرد يحتمل أن تكون على هيئة " الديوان " - إذا اعتبرنا الأصل اللغوي لمادة " جرد " - فهي إثبات مجرد لأسماء من ينتسب إلى فلان و أسماء آبائهم كما في " ديوان الجند " ، و " ديوان عمر " ، و نحو ذلك . و في كلام بعضهم ما يشير إلى أن هناك فرقاً بين " الجريدة " ، و " الشجرة "[13] . وهذا هو المناسب لمعنى مادة " جرد " ، فإنَّ " الجيم والراء و الدال أصلٌ واحد ، و هو بدو ظاهر الشيء حيث لا يستره ساتر .. " [14] ، فتكون " جريدة النسب " إذاً كالديوان الذي تسجل فيه الأسماء ظاهرة ، فتعرف من أولها ، فلا تحتاج إلى نظر خاص ، كما يحصل لمن ينظر في " الشجرة " ، فإنه يحتاج أن ينظر في الأصول و البطون و يتابع تسلسلها لمعرفة مكان شخص ما فيها .
و لهذا قد يذكر النسابون في " جرائدهم " بعض أسماء من لا يتحققون أمره ، لكنهم لا يثبتونه في " المشجرات "[15] .
و قد يسمي بعض النسابة مشجراتهم بديوان النسب ، و هم إنما يعنون " الشجرة " ، و لكن هذا قليل فيهم ، و لم أجده إلا لأبي القاسم علي بن الحسن بن محمد بن علي بن أبي جعفر محمد بن علي المرتضى ، فإنه ألف مشجرة سماها :" ديوان النسب " ، نقله ابن عنبة عن ابن معية في " عمدة الطالب " [16].
2. مُشَجَّر النسب : يحلى باللام أحياناً ، فيقال : " المشجر في النسب " . و هو إما أن يكون تأليفه ابتداءً على هيئة مشجر ، أو أن يعمد أحد النسابين إلى كتاب مبسوط في النسب ، فيشجره [17] .
و جرت العادة عندهم أن يكون المشجر - على هيئة كتاب ، حتى ربما وصل إلى مجلدات ، يتصل الخط فيها ، في أعلى أول صفحة بالصفحات التي تليها حتى يصل إلى آخر الكتاب . قال ابن الطقطقي :" المشجر الضابط فيه أن يكون بـ:" ابن " متصلة بالنون كيف تقلبت بها الحال في جهاتها الست[18] ؛ وربما امتدت الخطة الواحدة في مجلدات كثيرة فما سلم اتصالها بالنون فليس بضائر اختلاف أحوالها ، ... " . أهـ .
3. المبسوط . و هو كتاب منثور في النسب . كنسب قريش للزبيري ، و نسب ابن الكلبي ، و جمهرة النسب لابن حزم ، و عمدة الطالب لابن عنبة ، و أمثال ذلك . و سيأتي الفرق بينه و بين المشجر.
و قد انتفع بطريقة التشجير هذه ، فألَّفَ الشيخ أحمد أبو الخير المكي مشجراً سماه :" مشجر الأسانيد " ، قال الكتاني عنه : " ذكر فيه أسانيد الكتب الستة والموطأ و مسند الدارمي والشمائل ، وتنوع أسانيده لابن حجر و الحجار وابن البخاري والدمياطي والتنوخي والبلقيني و ابن الجزري و غيرهم من كبار المسندين ، وهو مشجر عجيب على نسق غريب جعله دوائر ، و كل دائرة يكتب فيها اسم راوٍ ، و يصلها بأخرى يكتب داخلها اسم الراوي عنه ، وهكذا إلى اسم جامعه الشيخ أحمد أبي الخير ، وهو عندي بخط جامعه ، و هبنيه بمكة المكرمة ، جزاه الله خيراً ، أرويه عنه " . أهـ[19] .
و كانت من طرائق الشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله إبان تدريسه للحديث في " الجامعة الاسلامية " كتابته للأسانيد و المتابعات و بيان الطرق على هيئة التشجير .
2_ المشجر عند الشعراء :
تطلق كلمة :" المشجر " [20] ، ويراد بها تشجير أبيات الشعر ، وهو أن يُقَطِّعَ أحرفَ اسمٍ ما على أوائل كل بيت من القصيدة ، فإذا جمعت هذه الأحرف خرج لك منها الاسم المراد . و قد كثر استعماله عند المتأخرين من الأدباء والشعراء ، كما هو مبثوث في كتب التراجم للقرون المتأخرة كالحادي عشر والثاني عشر .
3_ لفظ " الشجرة " ، و " المشجر " عند الصوفية :
تطلق لفظة " الشجرة " في كتب الصوفية و تصانيفهم بمعنى خاص لا يوجد عند غيرهم . و خلاصة اصطلاحهم في هذا اللفظ تعود إلى مفهوم " الحقيقة المحمدية " ، و معنى " الانسان الكامل " ، و هي بهذا المعنى من آثار الباطنية ، و زنادقة الصوفية . و قد قالوا في تعريف " الشجرة " ، هي : " الانسان الكامل ، مدبر هيكل الجسم الكلي ، فإنه جامع الحقيقة ، منتشر الدقائق إلى كل شيء ، فهو شجرة وسطية ، لا شرقية وُجُوبية ، و لا غربية إمكانية ، بل أمرٌ بين الأمرين ، أصلها ثابتٌ في الأرض السفلى ، و فرعها في السموات العلى ، أبعاضها الجسمية عروقها ، و حقائقها الروحانية فروعها ، والتجلي الذاتي المخصوص بأحدية جمع حقيقتها الناتج فيها بسر :" إني أنا الله رب العالمين " ثمرتها . كذا في " الجرجاني " " [21]. و هو كلامٌ أقرب إلى الإلغاز منه للتعريف .
و لهذا يشيع عندهم هذا الاسم في التصانيف ، فلابن عربي ـ صاحب وحدة الوجود ـ : " شجرة الكون " ، و " شجرة الوجود و البحر المورود " ، و " الشجرة النعمانية "[22] . و لمحمد بن يوسف بن سعادة المرسي المتوفى سنة 565 :" شجرة الوهم المترقية إلى ذروة الفهم " ؛ و لا بن فتحون " شجرة الحكمة " .
و إذا أمكن إدراك ذلك ، أمكن فهم سبب استعمال بعض الناس لمصطلح " شجرة النسب " في قراءة الحظ و متابعة النصيب ، زعموا ، و هو من آثار و بلايا المتصوفة .
4 - مصطلح " شجرة النسب " عند الأطباء .
جدَّ عند أهل الطب في الزمن الحديث استعمال مصطلح " شجرة النسب " ، و هي من نوازل العصر ، و يقصدون بها متابعة أمراض الدم و الوراثة ، و يمكنهم ذلك من تتبع " الأنماط الجينية " . و توجد مجالات كثيرة عندهم لاستخدامه ، من أهمها : المجال الجنائي ، و مجال إثبات النسب [23].
- أولية التشجير في النسب :
ذكر بعض النسابين أنَّ الإمام الشافعي هو أول من وضع المشجر في النسب ، ويحكون حكاية غريبة دلالة الصنعة عليها ظاهرة أنه أهدى كتاباً إلى هارون الرشيد ، وعلى أوله ما صورته :" أهديت إليك يا ابن سيد البطحاء شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأنا أشفع إليك في ضعفاء الحاج من ركب الريح و مصع الرشيح ، وكتبه محمد بن إدريس " [24] .
و الظاهر أن هذه القصة مفتعلة على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، و لقياه بهارون الرشيد قد افتعل حولها كثير من القصص المكذوبة ، فلتكن هذه نغمة في ذلك الطنبور .
و قد نقل الهمداني في " الإكليل " أن دغفل السدوسي النسابة[25] (توفي سنة 65هـ وقيل : 70هـ ) كان له " كتاب التشجير " [26]. و من المشهور أن الإمام محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري (58 - 124 هـ) كان معه كتاب فيه نسب قومه . و الظاهر أنه على جهة البسط كما يدل عليه صنيع الزبيري في النقل عنه في مقدمة " نسب قريش " [27] ، والله أعلم .
والظاهر أنَّ أولية التشجير في النسب لا تنسب لأحد ، و لهذا قال ابن الطقطقي :" فأما المشجر :
فلم أدر من ألقى عليه رداءه و لكنه قد سلَّ من ماجد محض
قلت ذلك لأني لا أعرف من وضعه و اخترعه " . أهـ [28].
- التشجير صنعة لها آداب :
الأصل جواز عمل الشجرات و المشجرات في النسب بأسماء بني آدم ، لأدلة منها :
1- أن الأصل هو الإباحة .
2- اندراجه ضمن حفظ الضرورات الخمس التي منها حفظ النسب .
و يشترط لعملها شروط و آداب ، ستأتي عند " آداب وضع الشجرات " .
قال ابن الطقطقي في :" كتاب الأصيلي في الأنساب " : " والتشجيرُ صنعةٌ مستقلة ، مهر فيها قومٌ ، وتخلف آخرون[29] . فمن الحذاق فيها الشريف قثم ابن طلحة الزينبي[30] النسابة ، كان فاضلاً يكتب خطاً جيداً ؛ قال : " شجرت المبسوط ، و بسطت المشجر " ، و ذلك هو النهاية في ملك رقاب هذا الفن . و من حذاق المشجرين : عبدالحميد الأول بن عبدالله بن أسامة النسابة الكوفي ، كتب خطاً أحسن من خط العذار ، وشجر تشجيراً أحسن من الأشجار ، حفت بأنواع الثمار .
و من حذاقهم ابن عبدالسميع الخطيب النسابة ، صنف الكتاب الحاوي لأنساب الناس ، مشجراً في مجلدات ، يتجاوز العشرة على قلب النصف ؛ قرأتُ بخطه رقعة كتبها إلى بعض الخلفاء يقول فيها :" وقد جمع العبد من المشجرات والأنساب والأخبار ما لاينهض به جمل بازل "
[و] المشجر الضابط فيه أن يكون بـ:" ابن " متصلة بالنون كيف تقلبت بها الحال في جهاتها الست ؛ وربما امتدت الخطة الواحدة في مجلدات كثيرة فما سلم اتصالها بالنون فليس بضائر اختلاف أحوالها ، ولا يجوز تراكب الخطط " . أهـ [31].
وقال في صفات المشجر :" و من صفاته المستحسنة : أن يكون جيد الخط ، فإنَّ التشجير لا يليق به إلا الخط الحسن " [32].
و هناك فرق بين الاعتناء بالنسب و بين العلم بالنسب ، فليس كل من اعتنى بالنسب ، و لو لخاصة أهله ، يقبل كلامه فيهم ، بل لابد أن يكون ذلك الاعتناء مما يوجب العلم بالنسب بالوسائل الشرعية . و قديماً قيل في بعضهم إنه كان جمَّاعاً للنسب ، و لكنه :" لا يحسن التشجير " [33]. و قال جمال الدين ابن عنبة لما تعرض لذكر الشريف أبي المظفر محمد الشاعر النسابة الحسيني :" وقفت له على مشجرة ألفها لنقيب النقباء قطب الدين محمد الشيرازي الرسي المعروف بـ:" أبي زرعة " ، فوجدت فيها أغلاطاً فاحشة ، و خطأً منكراً ، لا يغلط بمثله عالم . و ذلك مثل أنه نقل عن كتاب " المجدي " لأبي الحسن علي بن محمد العمري: أنَّ عيسى الأزرق الرومي العريضي أولد اثنا عشر ولداً ذكوراً لم يعقبوا . ثم جزم على أن النقيب عيسى الأزرق بن محمد العريضي منقرض لا عقب له . و لاشك أن الذي نقله عن المجدي صحيح ، ولكن العمري ذكر هناك في عقب هذا الكلام بعد أن ذكر الاثنى عشر غير المعقبين وعددهم ، [ عدَّ] بعدهم الجماعة الذين أعقبوا من بني عيسى النقيب ، و ليت شعري كيف لم يطالع الكلام إلى آخره ، ويسلم من الطعن في قبيلة كثيرة من العلويين بمجرد الخطأ ! والعجب أنه يزعم أنه قرأ " المجدي " على النقيب الطاهر رضي الدين علي بن علي ابن الطاوس الحسني ، وكيف يشذ عنه ما هو مسطور في كتاب قرأه ؟ بل كيف يتجرأ مسلم على مثل هذا ، و ينفي قبيلة عظيمة من آل أبي طالب ؟ " أهـ[34] .
إذا علمت ذلك ، فكن على خبر أننا في زمن سوء ، تروج فيه ثقافة الاستهلاك ، و منها استهلاك الأنساب ، حتى ترى شجرات الأنساب تباع و تشترى ، و ترى التحول عن الأنساب و التجول في أعمدتها من علامات العصر ، فقد فتح الباب على مصراعيه ، و أصبحت صناعة شجرات النسب تجارة رابحة . فمن مواقع ( الانترنت ) التي تعرض حبالها لمن يبحث عن أصله إلى الأقراص المدمجة التي يسرت على مجهولي النسب و مقطوعيه بناء شجرات النسب الضخمة . و ما أحرى هؤلاء أن يؤخذ على أيديهم ، فإن المحافظة على الأنساب من ضرورات الشرع .
آداب و أحكام في صنع الشجرات :
ينبغي أن يكون من آداب كتابة " الشجرات " :
1. إخلاص النية لله عز و جل في هذا العمل ، فإنما الأعمال بالنيات . و قديماً قال السلف :" كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل " . و من كان حظه و مقصوده من كتابة الأنساب غير وجه الله تعالى لم ينتفع بعلمه و بما كتب .
2. تسمية الشجرة بوضع عنوان يدل عليها .
3. ما في الشجرة خبر و ليس رواية ، فيجب فيه الصدق و الصحة ، و إلا كان كذباً .
4. عدم التفريع لنسب غيره في نسب قبيلته ، لأن هذا مدعاة للاختلاف ، و ليس هو راوٍ ههنا بل هو مخبر .
5. كتابة اسم جامعها كاملاً بيناً واضحاً ، فإنْ كان أكثر من واحد ، نص على عمل كل واحد منهم فيها ، و لا يساق ذكرهم على جهة الإجمال .
6. كتابة بدء سنة الجمع و التحرير .
7. التشجير لا يليق به إلا الخط الحسن و المداد الواضح .
8. وصل الأسماء فيها بـ:" بن " ؛ لأن هذا من سنة العرب ، و هو مما دل عليه الشرع ، و تركها من عادة الأعاجم . و قد درجت كثير من الشجرات الحديثة على إهمال هذا المعنى .
9. ذكر اسم كاتب الشجرة إن لم يكن هو جامعها .
10.ضرورة نظر الجامع لها في كتابة الكاتب و تصحيح ما يشكل عليه أو يغلط فيه . و قد وقع بسبب إهمال هذا الأمر تحريف في الأسماء أو زيادة أو نقصان في الأعمدة ، و من أقوالهم المشهورة :" أسماء الناس لا يدخلها القياس " .
11.نص النسابة على عدم جواز تراكب خطوط التشجير ، لأنه مدعاة للالتباس .
12. ذكر تاريخ طبع الشجرة ، و بيان رقم الطبعة .
13. بيان المصادر التي اعتمد عليها في جمعها ، فإن كانت مخطوطة نص عليها و عينها ، و إن كانت مطبوعة دل القاريء عليها ، و إن كانت شهادات استفاضة أو روايات و أخبار ، أو وثائق أو مصادر تأريخية وجغرافية أو كتابة على حجج وقف أو عقود بيوع و شراء أو صكوك و عقود نكاح ، أو كتابة و نقش على حجارة ، يبين ذلك كله ، بالإحالة عليه في هامش الشجرة .
14. لا يجوز تغيير ما في الشجرات الصحيحة القديمة في الشجرات الحديثة .
15. الزيادة في الشجرة القديمة الصحيحة إن كانت بغير خط الأصل ، فلا قيمة لها إلا عند واضعها .
16. لا يزاد على الشجرة الصحيحة إلا بدليل .
17. لا يقبل إدعاء الزيادة في الشجرات الصحيحة إلا بدليل .
18. ليست مصادر جمع النسب على درجة سواء ، فمنها ما هو شرعي رباني ، و منها ما هو نفساني شيطاني ، و منها ما هو بين ذلك .
19.إقرار كل " خامس " أو بطن بما فيها من أنسابهم إقراراً شرعياً ، خاصة إذا كبرت بطون و فخوذ القبيلة . و يجعل هذا في خاتمة و حاشية الشجرة .
20. تجنب التعبير بالألقاب القبيحة ، اللهم إلا أن يكون المرء لا يعرف إلا بها ، فلا بأس من ذكرها حينئذ ، و ليس هذا من الغيبة . فإن كانت هناك مفسدة من وضعها ، كتحرج بعض الذرية مثلا ، فالأولى تركها .
21. ذكر مصطلحات النسابين فيها ، كقولهم : درج ، و انقرض ، و نحو ذلك .
22. لا يستحسن تبديل مصطلحات النسابين بذكر بعض الرموز و الاشارات التي لا تعرف إلا عند صاحب الشجرة ، فالمحافظة على الاصطلاح مما يعصم به العلم ، و النسب من جملة العلوم ، فمن جهله يتعلمه .
23. يستحب تعيين ما يدل على مواضع الديار و السكنى خاصة إذا انتشر العقب جداً ، لفائدته في عدم الالتباس مع طول الزمن .
24. ذكر سني الولادة و الوفاة تحت كل اسم لما فيه من الفائدة .
25. الإشهاد عليها من قبل العدول من أهل المعرفة بالنسب .
26.توثيقها و تسجيلها في دوائر الحفظ و الوثائق .
27.العادة محكمة في كتابة أسماء النساء في الشجرات .
28.كتابتها على هيئة البسط لمزيد الحفظ و الاحتياط .
29.الأولى عدم تدبيجها بالآيات القرانية و الأحاديث النبوية ، لئلا يؤدي إلى الامتهان و الابتذال . فإن كان فاعلاً ، فليلتزم في الحديث الصحة ، و ليخرج من رواه ، و من صححه ، إذ العناية بذلك أهم من العناية بالنسب ، و إلا كتب عليه وزر الكذب على النبي صلى الله عليه و على آله و سلم .
30.لا بأس من تعليقها على جدران المجالس ، لأنه من التحديث بنعمة الله ، و من تعليم أهل البيت و الأقارب و الصغار النسب ، و إشاعة النسب ، و هذا أمر مشروع ؛ فإن جرَّت إلى محاذير شرعية كالفخر أو العجب أو العصبية ، فالمتعين المنع و التحريم .
31. لا يجوز وضع الصور فيها .
32. لا بأس من استخدام الوسائل الحديثة في حفظ الأنساب كبرامج الحاسب الآلي المعدة في صنع شجرات العائلة .
33.وضع الشجرة و صنعها فرع من العلم بالنسب ، و العلم به شعبة من شعب علم الحديث ، و قديماً قالوا :" علم الحديث لا يحبه إلا الذكور " ، فلابد من كبر نفس من يعاني علم النسب ، و عدم ضجره من أول الطريق ، فيجب الصبر على ما يواجه فيه حتى يفتح الله له أو يعذر من نفسه .
خطوات عمل " الشجرة " :
أولاً : جمع المعلومات التي تحتاجها " الشجرة " ، كالأجداد و الآباء الأقربين و معرفة وجه الصلة فيما بينهم ، و فرز أعمدة النسب . و هي معرفة مجردة بالأخبار . و من ذلك معرفة أحوال و عادات من يجمع أنسابهم ، و كيفية جريان الأسماء و الألقاب عندهم ، و نحو ذلك ، فإن هذا مما يعين في وضع الشجرة . و هذا يحتاج إلى وقت طويل ، و إلى مرنة عند الجامع للنسب ، يحصل بهما الاطمئنان إلى ما يورده من معلومات و أخبار .
ثانياً : الاعتماد على الطرق الشرعية و الوسائل الموضوعية في إثبات الصلة بين تلك المعلومات . و هذا أيضاً يحتاج إلى وقت طويل في التحليل و المقارنة . و قد دل الشرع و العقل على عدد من القواعد المهمة في هذا الباب تحتاج إلى جمع و تأصيل .
ثالثاً : توثيقها و حفظها عند الجهات المعتبرة .
- الفروق بين المشجرات و المبسوطات في النسب :
قال في الأصيلي :" الفروق الظاهرة بينهما كثيرة ، وإنما الفرق المهم[35]هو أن المشجر يبتدأ فيه بالبطن الأسفل ثم يترقى أباً فأب إلى البطن الأعلى . والمبسوط : يبتدأ فيه بالبطن الأعلى ثم ينحط ابناً فابناً إلى البطن الأسفل . وخلاصة ذلك أن المشجر مقدم فيه الابن على الأب ؛ والمبسوط عكسه ، يقدم فيه الأب على الابن " . أهـ[36] .
وقد سبق أن عرفنا المبسوط أنه كتاب منثور مثل: كتاب "نسب قريش" للزبيري وكتاب "جمهرة النسب" لابن حزم.
أما المشجر فهو مثل: كتاب "الأصيلي في أنساب الطالبيين" لابن الطقطقي المخطوط المشجر لا المطبوع اليوم بتحقيق الرجائي، و كتاب" روضة الألباب وتحفة الأحباب المعروف بمشجر أبي علامة".
و من الفروق الظاهرة بين المشجر والمبسوط :
- أن القراءة في المبسوط أيسر منها في المشجر ، و أدعى للحفظ . و لذلك لمَّا طلب الفخر الرازي من إسماعيل المروزي الحسيني أن يصنف له كتاباً في أنساب الطالبية فضَّلَ أن يكون على هيئة المبسوط لا التشجير ، و قال له :" المشجر لا ينضبط بالحفظ ، و أنا أريد شيئاً أحفظه ، " [37].
و بالجملة ، فمن كان متعوداً على كتب العلم والقراءة فيها ، يَسُرَ عليه أمرُ المبسوط بخلاف المشجر ، ومن لم يعرف من القراءة في النسب إلا ما في المشجرات ، يسر عليه أمرها .
- التصنيف في المبسوط أيسر منه في " المشجر" ، ولهذا كثرت تصانيف الناس فيه . و الناس اليوم على الضد من هذا !!
- كثرة فوائد المبسوط ، وذلك لأن الكتابة فيه على سنن التصنيف والترتيب ، فتجد ما يطرقه النسابة متسلسلاً ، يورد البطون من أعلى إلى أسفل ، ويذكر الألقاب والوقائع والأشعار ، و تواريخ الولادة والوفاة ، وهو في فسحة و سعة ، وذلك بخلاف المشجر ، فكم من ورقة ضاقت على نساب حجبت دفعاً لشبهة ، أو تقريراً لوجه غمز وطعن ببطلان نسب و نكارته ، أوربما فوتت ذكر سنة ولادة أو وفاة يحتاجها المتأخر في بحث أو مقارنة .
- ومن الفروق بينهما أن المشجر توضع فيه رموز لعلامات الطعن و القدح ونحو ذلك ، و تكتب أحياناً بالحمرة أو السواد ، بينما المبسوط لا تذكر فيه الرموز ، ولكنهم يحكون الحال في أثناء النسب ، و ربما رمزوا ببعض الاصطلاحات ، فكتبوا في المشجر والمبسوط :" في صح " [38].
- بقاء المبسوط و تعميره أكثر من المشجر . و هي مسألة نسبية .
- الوضع والزيادة في الشجرات أسهل و أيسر من المبسوطات .
ما حكم العمل بما في " الشجرات " ؟
ورد إلى الشيخ علي بن عمر العرشان اليمني سؤال هو : هل يجوز اعتماد القاضي و المفتي و الشاهد على كتب الشجرة المحررة المعتبرة إذا كان من صنفها من الثقات أم لا ؟؟ أجاب بقوله :" نعم يجوز للحاكم الحكم بما فيها ، و للمفتي أن يعتمد عليها إذا حصل بها العلم ، و كذلك للشاهد أن يشهد بما فيها إذا حصل بها الجزم ، من غير أن يسند ذلك إليها ، كالاستفاضة " . أهـ [39].
و للشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بلفقيه فتوى في " حكم الشجرة والحكم بها والاعتماد عليها " . و قد ذكر عمر بن سالم العطاس في رسالته في أنساب باعلوي المطبوعة سنة 1317 أن الشيخ عبدالله بلفقيه أفتى و أجاب عنها ، وأن العلم إذا تحقق بها كان للإنسان أن يشهد بما فيها [40].
كتبها
الشريف محمد بن حسين الصمداني الحسني
________________________________________
[1] معجم مقاييس اللغة ( ص 549 ) تحقيق : شهاب الدين أبو عمرو .
[2] صحيح البخاري ( رقم 6417 ) الفتح ( 11 / 235-236 ) .
[3] 0 انظر : معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية ( 4 / 179 ) .
[4] لباب الألباب ، لابن فندق البيهقي (1/199 ) .
[5] فضائح الباطنية 12 .
[6] اللباب 1 / 59 .
[7] جريدة الرياض عدد رقم 12565 بتاريخ 10/9 /1423 (( مقابلة مع أحد النسابين من حمص )) .
[8] انظر : لباب الألباب ، لابن فندق البيهقي ( 2/720-721 ) .
[9] المجدي للعمري ( 168 ) .
[10] المجدي 168-169 .
[11] عمدة الطالب
[12] عمدة الطالب لابن عنبة 315 .
[13] انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، للطهراني ( 5/ 97 ) .
[14] معجم مقاييس اللغة ( ص 213 ) .
[15] انظر : عمدة الطالب ص 222 . ط: الكمالية .
[16] انظر : ص 300 . و يوجد كتاب قريب من هذا العنوان من مقتنيات ابن الطاوس الحسني .
[17] من عجائب المشتغلة بالنسب في هذا الزمان تشجيرهم لأعمدة النسب ، ثم يسمون ذلك بـ:" مبسوط النسب " ؟!! انظر : طبعة " عمدة الطالب " بتصوير يوسف جمل الليل ( ص45 -50 ، 59 ) .
[18] على سطح الكتاب لا توجد ست جهات ، بل الجهات الأربع و ما بينها .
[19] فهرس الفهارس للكتاني ( 2 / 588- 589 ) .
[20] كشاف اصطلاح الفنون (2/ 732 ) للتهانوي . و فيه أيضاً : " المشجر : المطير بالياء المثناة التحتانية " .
[21] كشاف اصطلاح الفنون ( 2/ 732 ) .
[22] موجود بمكتبة جاريت ( رقم 2103 ) ضمن مجموع . نسخت سنة 684 . تقع في 43 ورقة .و انظر : برن ، ليدن ( 1904 م ) . ( كذا في فهرس جاريت ) . و انظر أيضاً : برلين ( 5 /4214 ) ، و القاهرة VII صفحة 552 . .
[23] البصمة الوراثية و مدى مشروعية استخدامها في النسب و الجناية ، للشيخ عمر بن محمد السبيل رحمه الله تعالى ، ( ص 14 ) .
[24] انظر : الأصيلي في الأنساب لابن الطقطقي ، المخطوط ( ص4-5 ) ، والمطبوع ( ص31 ) .
[25] انظر : الأعلام (2/340) ، و طبقات النسابين لبكر أبو زيد (24-25) .
[26] الإكليل (158) .
[27] انظر : نسب قريش (ص3 ) .
[28] الأصيلي المطبوع (31) .
[29] قلت : إذا كان يقول هذا في أهل زمانه ، فمابالك بأهل هذا الزمان ؟؟
[30] في المخطوط :" الزيدي " ، و الصواب ما أثبته ، وهو الشريف النقيب قثم بن طلحة الزينبي العباسي ، والله أعلم .
[31] الأصيلي لابن الطقطقي ، مخطوط ( 4 ) . ما بين القوسين زيادة ليتسق الكلام .
[32] الأصيلي (43 ) المطبوع .
[33] المجدي 180 .
[34] عمدة الطالب ( ص 428 ) ط: الكمالية .
[35] في المخطوط كلمة ليست واضحة ، ولعل ما أثبته هو الصواب ، والله أعلم .
[36] الأصيلي ، مخطوط (ص 5 ) .
[37] معجم الأدباء لياقوت الحموي (6/149) .
[38] الأصيلي المطبوع (41-42) .
[39] انظر : رسالة العطاس في أنساب با علوي ( ص 13 ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
حفظ النسب من مقاصد الشرع الشريف ، و قد تنوعت طرقه في إثبات الأنساب ، و حمايتها من عوامل الضياع و الادعاء . و قد تنوعت وسائل الناس في حفظ الأنساب ، فهناك من اعتمد على الروايات ، و هناك من نحت اسمه منسوباً إلى قبيلته على أحجار المقابر و غيرها ، و هناك من ذكر المآثر و الأجداد العظام في قصائد الشعر ، و هناك من كتب و صنف في أنساب قومه ، و من بين تلك الوسائل : وسيلة صنع " شجرة النسب " ، فما هي " شجرة النسب " ؟ و ما معنى " الشجرة " في الاصطلاح ؟ و من أول من صنع الشجرة ؟ و ما آدابها و أحكامها ؟
هذه الرسالة المختصرة تجيب عن شيء من تلك التساؤلات ، و يحاول مؤلفها من خلال جملها التأصيل لمصطلح " شجرة النسب " . و قد كانت الرسالة على النحو الآتي :
- الأصل اللغوي .
- المعاني الاصطلاحية للفظ " الشجرة " .
- الشجرة و ما يرادفها عند النسابين .
- أولية التشجير في النسب لمن ؟
- التشجير صنعة لها آداب .
ـ آداب و أحكام في صنع الشجرة .
ـ خطوات عمل الشجرة .
- الفروق بين المبسوط و المشجر في النسب .
- حكم العمل بالشجرات ؟
و الله تعالى من وراء القصد .
- الأصل اللغوي :
جاء في القران الكريم :" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم .. " . و قوله :" لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة .. " ، و قوله :" و لا تقربا هذه الشجرة .. " ، و غير ذلك من المواضع .
قال ابن فارس :" الشين و الجيم و الراء أصلان متداخلان ، يقرب بعضهما من بعض ، و لا يخلو معناهما من تداخل الشيء بعضه في بعض ، و من علو في شيء و ارتفاع " أهـ[1] .
و قد ورد في " السنة " ما يدل على تمثيل النبي صلى الله عليه وعلى آله و سلم للإنسان بالخط على الأرض ، ودليل ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : خطَّ النبي صلى الله عليه و على آله و سلم خطَّاً مربعاً ، و خطَّ خطَّاً في الوسط خارجاً منه ، و خط خططاً صغارا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط ، وقال :" هذا الإنسان ، و هذا أجله محيط به - أو : قد أحاط به - ، و هذا الذي هو خارج أمله ، و هذه الخطط الصغار الأعراض ، فإنْ أخطأه هذا نهشه هذا ، و إن أخطأه هذا نهشه هذا " [2].
و ورد في "السنة المطهرة" أيضاً ما يدل على تشبيه الإنسان ببعض أنواع الشجر ، فورد تمثيل المؤمن بـ"النخلة " ، و " خامة الزرع " ، و ورد تمثيل الكافر و المنافق بـ"شجرة الأرز " ، و " الريحان " ، و غير ذلك من الآثار .
و ذكر أحمد تيمور في " معجم الألفاظ العامية " أن العامة ، تقول للشجرة " :" سجرة ، و لكنها تطلق الشجرة على الحشيش كناية ، و يقولون : فلانٌ بيشجَّر ، أي : يدخن الحشيش ؛ كأنهم جعلوه اسماً بالغلبة " [3].
قلت : فكأن هذا هو أصل استعمال العامة الآن للفظ :" السجارة " في :" لفائف الدخان الخبيث " .
- المعاني الاصطلاحية للفظ " الشجرة " :
توارد جمعٌ من أرباب الفنون و المعارف على استخدام هذا اللفظ و ما يقاربه ، ليدللوا به على معانٍ تخصهم . من أولئكم : معاشر النسابين ، و الشعراء ، و الصوفية ، والأطباء .
و الاستعمال عندهم لمصطلح " شجرة النسب " على النحو الآتي :
1_ مفهوم " الشجرة " ، و " المشجر " عند النسابين .
تقدم أن " ش ج ر " أصلان متداخلان يدلان على : تداخل ، و ارتفاع . و من هنا حكى بعضهم أن مأخذ " التشجير " مأخوذ من :" السبط " ، و هو :" ضربٌ من الشجر ، فجعل الأب الذي يجمعهم كالشجر الذي يتفرع عنه الأغصان الكثيرة ، ولذلك ينقش شكل الشجر في الأنساب " ، قاله ابن فندق البيهقي [4].
و مع أن الشجرة تستخدم في ألفاظ و كلام النسابين كثيراً ، إلا أنني لم أعثر على من عرفها تعريفاً اصطلاحياً ، فكأنهم اكتفوا بما هو متقرر من معناها اللغوي . و يمكن للمرء أن يقول " شجرة النسب " : ورقة مفردة في نسب قوم ما دون غيرهم ، منسوبين إلى رجل واحد ، فرعت أنسابهم من أعلى أو أسفل على هيئة شجرة أو ما يشبهها ، يتبين من النظر فيها اسم كل فرد و عقبه ، و كيفية اتصال نسبه بذلك الرجل .
و قد يطلق على " الشجرة " أنها :" كتاب " ، كما وقع في كلام أبي حامد الغزالي في " فضائح الباطنية "[5] ، و كما في " اللباب "[6] لابن الأثير ، حيث نصَّا على :" كتاب الشجرة " ، لما ذكرا نسب إسماعيل بن جعفر ، و ربما قصدا " المشجر " ، لأنه على هيئة كتاب ، و سيأتي الحديث عنه بعد قليل .
و قال بعضهم : إن طريقة أهل الشام و الحجاز في كتابة الشجرة من أعلى إلى أسفل ، و أهل العراق بالعكس [7]. و المعروف من عادة أهل الحجاز في شجراتهم القديمة و الحديثة أنها من أسفل إلى أعلى . و قد اطلعت على بعض الشجرات الحديثة لأهل فلسطين و غيرها من بلاد الشام ، فرأيتها من أعلى إلى أسفل ، فيبدو أن هذا من عادة أهل الشام فحسب ، على أنها مخالفة للأصل اللغوي لمادة " شجر " ، إذ الشجر ينبت من أسفل إلى أعلى لا العكس .
تنبيه : المقصود من الشجرة عند معاشر النسابين وصل الأسماء من أسفل إلى أعلى بـ :" بـــن " ، ثم يذكرون الأسماء ، هذا هو المتبادر ، و هو الذي يوجد في شجرات النسابة ، كشجرة أبي قناع ، و شجرات الزبيدي و غيرهما ، و لا يرسمون أوراق الشجر مجردة ، و يضعون فيها الأسماء ، كما هي عادة كثير من العصريين ، فهذا خلاف عمل المتقدمين ، و الأولى متابعة من تقدم ، فإن إثبات لفظ " بن " من سنن العرب ، و تركها من عادة العجم ، فلا ينبغي تركها في كتابة الأنساب .
و بسبر كلام متقدمي النسابين نجد ألفاظاً مقاربة للفظ " الشجرة " ، و هي تحتاج إلى تبيين و توضيح لضرورة ضبط الاصطلاح . فمن ذلك :
1. جريدة النسب : كقولهم مثلاً - في جرائد العلوية[8] : " جريدة الري " ، و " جريدة نسابور " ، و " جريدة طبرستان " ، و " جريدة أصفهان " ، و " جريدة الكوفة العتيقة " [9] ، و " جريدة البصرة العتيقة "[10] ، و " جريدة شيراز "[11] ، و "جريدة بغداد"[12] . و استعمل هذا اللفظ حتى أصبح للحمام :" دفاتر بأنسابها ، كأنساب العرب " . و قد بالغ العبيديون القرامطة في العناية بالحمام حتى :" أفردوا له ديواناً و جرائد بالأنساب " .
و هذه الجرد يحتمل أن تكون على هيئة " الديوان " - إذا اعتبرنا الأصل اللغوي لمادة " جرد " - فهي إثبات مجرد لأسماء من ينتسب إلى فلان و أسماء آبائهم كما في " ديوان الجند " ، و " ديوان عمر " ، و نحو ذلك . و في كلام بعضهم ما يشير إلى أن هناك فرقاً بين " الجريدة " ، و " الشجرة "[13] . وهذا هو المناسب لمعنى مادة " جرد " ، فإنَّ " الجيم والراء و الدال أصلٌ واحد ، و هو بدو ظاهر الشيء حيث لا يستره ساتر .. " [14] ، فتكون " جريدة النسب " إذاً كالديوان الذي تسجل فيه الأسماء ظاهرة ، فتعرف من أولها ، فلا تحتاج إلى نظر خاص ، كما يحصل لمن ينظر في " الشجرة " ، فإنه يحتاج أن ينظر في الأصول و البطون و يتابع تسلسلها لمعرفة مكان شخص ما فيها .
و لهذا قد يذكر النسابون في " جرائدهم " بعض أسماء من لا يتحققون أمره ، لكنهم لا يثبتونه في " المشجرات "[15] .
و قد يسمي بعض النسابة مشجراتهم بديوان النسب ، و هم إنما يعنون " الشجرة " ، و لكن هذا قليل فيهم ، و لم أجده إلا لأبي القاسم علي بن الحسن بن محمد بن علي بن أبي جعفر محمد بن علي المرتضى ، فإنه ألف مشجرة سماها :" ديوان النسب " ، نقله ابن عنبة عن ابن معية في " عمدة الطالب " [16].
2. مُشَجَّر النسب : يحلى باللام أحياناً ، فيقال : " المشجر في النسب " . و هو إما أن يكون تأليفه ابتداءً على هيئة مشجر ، أو أن يعمد أحد النسابين إلى كتاب مبسوط في النسب ، فيشجره [17] .
و جرت العادة عندهم أن يكون المشجر - على هيئة كتاب ، حتى ربما وصل إلى مجلدات ، يتصل الخط فيها ، في أعلى أول صفحة بالصفحات التي تليها حتى يصل إلى آخر الكتاب . قال ابن الطقطقي :" المشجر الضابط فيه أن يكون بـ:" ابن " متصلة بالنون كيف تقلبت بها الحال في جهاتها الست[18] ؛ وربما امتدت الخطة الواحدة في مجلدات كثيرة فما سلم اتصالها بالنون فليس بضائر اختلاف أحوالها ، ... " . أهـ .
3. المبسوط . و هو كتاب منثور في النسب . كنسب قريش للزبيري ، و نسب ابن الكلبي ، و جمهرة النسب لابن حزم ، و عمدة الطالب لابن عنبة ، و أمثال ذلك . و سيأتي الفرق بينه و بين المشجر.
و قد انتفع بطريقة التشجير هذه ، فألَّفَ الشيخ أحمد أبو الخير المكي مشجراً سماه :" مشجر الأسانيد " ، قال الكتاني عنه : " ذكر فيه أسانيد الكتب الستة والموطأ و مسند الدارمي والشمائل ، وتنوع أسانيده لابن حجر و الحجار وابن البخاري والدمياطي والتنوخي والبلقيني و ابن الجزري و غيرهم من كبار المسندين ، وهو مشجر عجيب على نسق غريب جعله دوائر ، و كل دائرة يكتب فيها اسم راوٍ ، و يصلها بأخرى يكتب داخلها اسم الراوي عنه ، وهكذا إلى اسم جامعه الشيخ أحمد أبي الخير ، وهو عندي بخط جامعه ، و هبنيه بمكة المكرمة ، جزاه الله خيراً ، أرويه عنه " . أهـ[19] .
و كانت من طرائق الشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله إبان تدريسه للحديث في " الجامعة الاسلامية " كتابته للأسانيد و المتابعات و بيان الطرق على هيئة التشجير .
2_ المشجر عند الشعراء :
تطلق كلمة :" المشجر " [20] ، ويراد بها تشجير أبيات الشعر ، وهو أن يُقَطِّعَ أحرفَ اسمٍ ما على أوائل كل بيت من القصيدة ، فإذا جمعت هذه الأحرف خرج لك منها الاسم المراد . و قد كثر استعماله عند المتأخرين من الأدباء والشعراء ، كما هو مبثوث في كتب التراجم للقرون المتأخرة كالحادي عشر والثاني عشر .
3_ لفظ " الشجرة " ، و " المشجر " عند الصوفية :
تطلق لفظة " الشجرة " في كتب الصوفية و تصانيفهم بمعنى خاص لا يوجد عند غيرهم . و خلاصة اصطلاحهم في هذا اللفظ تعود إلى مفهوم " الحقيقة المحمدية " ، و معنى " الانسان الكامل " ، و هي بهذا المعنى من آثار الباطنية ، و زنادقة الصوفية . و قد قالوا في تعريف " الشجرة " ، هي : " الانسان الكامل ، مدبر هيكل الجسم الكلي ، فإنه جامع الحقيقة ، منتشر الدقائق إلى كل شيء ، فهو شجرة وسطية ، لا شرقية وُجُوبية ، و لا غربية إمكانية ، بل أمرٌ بين الأمرين ، أصلها ثابتٌ في الأرض السفلى ، و فرعها في السموات العلى ، أبعاضها الجسمية عروقها ، و حقائقها الروحانية فروعها ، والتجلي الذاتي المخصوص بأحدية جمع حقيقتها الناتج فيها بسر :" إني أنا الله رب العالمين " ثمرتها . كذا في " الجرجاني " " [21]. و هو كلامٌ أقرب إلى الإلغاز منه للتعريف .
و لهذا يشيع عندهم هذا الاسم في التصانيف ، فلابن عربي ـ صاحب وحدة الوجود ـ : " شجرة الكون " ، و " شجرة الوجود و البحر المورود " ، و " الشجرة النعمانية "[22] . و لمحمد بن يوسف بن سعادة المرسي المتوفى سنة 565 :" شجرة الوهم المترقية إلى ذروة الفهم " ؛ و لا بن فتحون " شجرة الحكمة " .
و إذا أمكن إدراك ذلك ، أمكن فهم سبب استعمال بعض الناس لمصطلح " شجرة النسب " في قراءة الحظ و متابعة النصيب ، زعموا ، و هو من آثار و بلايا المتصوفة .
4 - مصطلح " شجرة النسب " عند الأطباء .
جدَّ عند أهل الطب في الزمن الحديث استعمال مصطلح " شجرة النسب " ، و هي من نوازل العصر ، و يقصدون بها متابعة أمراض الدم و الوراثة ، و يمكنهم ذلك من تتبع " الأنماط الجينية " . و توجد مجالات كثيرة عندهم لاستخدامه ، من أهمها : المجال الجنائي ، و مجال إثبات النسب [23].
- أولية التشجير في النسب :
ذكر بعض النسابين أنَّ الإمام الشافعي هو أول من وضع المشجر في النسب ، ويحكون حكاية غريبة دلالة الصنعة عليها ظاهرة أنه أهدى كتاباً إلى هارون الرشيد ، وعلى أوله ما صورته :" أهديت إليك يا ابن سيد البطحاء شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وأنا أشفع إليك في ضعفاء الحاج من ركب الريح و مصع الرشيح ، وكتبه محمد بن إدريس " [24] .
و الظاهر أن هذه القصة مفتعلة على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، و لقياه بهارون الرشيد قد افتعل حولها كثير من القصص المكذوبة ، فلتكن هذه نغمة في ذلك الطنبور .
و قد نقل الهمداني في " الإكليل " أن دغفل السدوسي النسابة[25] (توفي سنة 65هـ وقيل : 70هـ ) كان له " كتاب التشجير " [26]. و من المشهور أن الإمام محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري (58 - 124 هـ) كان معه كتاب فيه نسب قومه . و الظاهر أنه على جهة البسط كما يدل عليه صنيع الزبيري في النقل عنه في مقدمة " نسب قريش " [27] ، والله أعلم .
والظاهر أنَّ أولية التشجير في النسب لا تنسب لأحد ، و لهذا قال ابن الطقطقي :" فأما المشجر :
فلم أدر من ألقى عليه رداءه و لكنه قد سلَّ من ماجد محض
قلت ذلك لأني لا أعرف من وضعه و اخترعه " . أهـ [28].
- التشجير صنعة لها آداب :
الأصل جواز عمل الشجرات و المشجرات في النسب بأسماء بني آدم ، لأدلة منها :
1- أن الأصل هو الإباحة .
2- اندراجه ضمن حفظ الضرورات الخمس التي منها حفظ النسب .
و يشترط لعملها شروط و آداب ، ستأتي عند " آداب وضع الشجرات " .
قال ابن الطقطقي في :" كتاب الأصيلي في الأنساب " : " والتشجيرُ صنعةٌ مستقلة ، مهر فيها قومٌ ، وتخلف آخرون[29] . فمن الحذاق فيها الشريف قثم ابن طلحة الزينبي[30] النسابة ، كان فاضلاً يكتب خطاً جيداً ؛ قال : " شجرت المبسوط ، و بسطت المشجر " ، و ذلك هو النهاية في ملك رقاب هذا الفن . و من حذاق المشجرين : عبدالحميد الأول بن عبدالله بن أسامة النسابة الكوفي ، كتب خطاً أحسن من خط العذار ، وشجر تشجيراً أحسن من الأشجار ، حفت بأنواع الثمار .
و من حذاقهم ابن عبدالسميع الخطيب النسابة ، صنف الكتاب الحاوي لأنساب الناس ، مشجراً في مجلدات ، يتجاوز العشرة على قلب النصف ؛ قرأتُ بخطه رقعة كتبها إلى بعض الخلفاء يقول فيها :" وقد جمع العبد من المشجرات والأنساب والأخبار ما لاينهض به جمل بازل "
[و] المشجر الضابط فيه أن يكون بـ:" ابن " متصلة بالنون كيف تقلبت بها الحال في جهاتها الست ؛ وربما امتدت الخطة الواحدة في مجلدات كثيرة فما سلم اتصالها بالنون فليس بضائر اختلاف أحوالها ، ولا يجوز تراكب الخطط " . أهـ [31].
وقال في صفات المشجر :" و من صفاته المستحسنة : أن يكون جيد الخط ، فإنَّ التشجير لا يليق به إلا الخط الحسن " [32].
و هناك فرق بين الاعتناء بالنسب و بين العلم بالنسب ، فليس كل من اعتنى بالنسب ، و لو لخاصة أهله ، يقبل كلامه فيهم ، بل لابد أن يكون ذلك الاعتناء مما يوجب العلم بالنسب بالوسائل الشرعية . و قديماً قيل في بعضهم إنه كان جمَّاعاً للنسب ، و لكنه :" لا يحسن التشجير " [33]. و قال جمال الدين ابن عنبة لما تعرض لذكر الشريف أبي المظفر محمد الشاعر النسابة الحسيني :" وقفت له على مشجرة ألفها لنقيب النقباء قطب الدين محمد الشيرازي الرسي المعروف بـ:" أبي زرعة " ، فوجدت فيها أغلاطاً فاحشة ، و خطأً منكراً ، لا يغلط بمثله عالم . و ذلك مثل أنه نقل عن كتاب " المجدي " لأبي الحسن علي بن محمد العمري: أنَّ عيسى الأزرق الرومي العريضي أولد اثنا عشر ولداً ذكوراً لم يعقبوا . ثم جزم على أن النقيب عيسى الأزرق بن محمد العريضي منقرض لا عقب له . و لاشك أن الذي نقله عن المجدي صحيح ، ولكن العمري ذكر هناك في عقب هذا الكلام بعد أن ذكر الاثنى عشر غير المعقبين وعددهم ، [ عدَّ] بعدهم الجماعة الذين أعقبوا من بني عيسى النقيب ، و ليت شعري كيف لم يطالع الكلام إلى آخره ، ويسلم من الطعن في قبيلة كثيرة من العلويين بمجرد الخطأ ! والعجب أنه يزعم أنه قرأ " المجدي " على النقيب الطاهر رضي الدين علي بن علي ابن الطاوس الحسني ، وكيف يشذ عنه ما هو مسطور في كتاب قرأه ؟ بل كيف يتجرأ مسلم على مثل هذا ، و ينفي قبيلة عظيمة من آل أبي طالب ؟ " أهـ[34] .
إذا علمت ذلك ، فكن على خبر أننا في زمن سوء ، تروج فيه ثقافة الاستهلاك ، و منها استهلاك الأنساب ، حتى ترى شجرات الأنساب تباع و تشترى ، و ترى التحول عن الأنساب و التجول في أعمدتها من علامات العصر ، فقد فتح الباب على مصراعيه ، و أصبحت صناعة شجرات النسب تجارة رابحة . فمن مواقع ( الانترنت ) التي تعرض حبالها لمن يبحث عن أصله إلى الأقراص المدمجة التي يسرت على مجهولي النسب و مقطوعيه بناء شجرات النسب الضخمة . و ما أحرى هؤلاء أن يؤخذ على أيديهم ، فإن المحافظة على الأنساب من ضرورات الشرع .
آداب و أحكام في صنع الشجرات :
ينبغي أن يكون من آداب كتابة " الشجرات " :
1. إخلاص النية لله عز و جل في هذا العمل ، فإنما الأعمال بالنيات . و قديماً قال السلف :" كل ما لا يراد به وجه الله يضمحل " . و من كان حظه و مقصوده من كتابة الأنساب غير وجه الله تعالى لم ينتفع بعلمه و بما كتب .
2. تسمية الشجرة بوضع عنوان يدل عليها .
3. ما في الشجرة خبر و ليس رواية ، فيجب فيه الصدق و الصحة ، و إلا كان كذباً .
4. عدم التفريع لنسب غيره في نسب قبيلته ، لأن هذا مدعاة للاختلاف ، و ليس هو راوٍ ههنا بل هو مخبر .
5. كتابة اسم جامعها كاملاً بيناً واضحاً ، فإنْ كان أكثر من واحد ، نص على عمل كل واحد منهم فيها ، و لا يساق ذكرهم على جهة الإجمال .
6. كتابة بدء سنة الجمع و التحرير .
7. التشجير لا يليق به إلا الخط الحسن و المداد الواضح .
8. وصل الأسماء فيها بـ:" بن " ؛ لأن هذا من سنة العرب ، و هو مما دل عليه الشرع ، و تركها من عادة الأعاجم . و قد درجت كثير من الشجرات الحديثة على إهمال هذا المعنى .
9. ذكر اسم كاتب الشجرة إن لم يكن هو جامعها .
10.ضرورة نظر الجامع لها في كتابة الكاتب و تصحيح ما يشكل عليه أو يغلط فيه . و قد وقع بسبب إهمال هذا الأمر تحريف في الأسماء أو زيادة أو نقصان في الأعمدة ، و من أقوالهم المشهورة :" أسماء الناس لا يدخلها القياس " .
11.نص النسابة على عدم جواز تراكب خطوط التشجير ، لأنه مدعاة للالتباس .
12. ذكر تاريخ طبع الشجرة ، و بيان رقم الطبعة .
13. بيان المصادر التي اعتمد عليها في جمعها ، فإن كانت مخطوطة نص عليها و عينها ، و إن كانت مطبوعة دل القاريء عليها ، و إن كانت شهادات استفاضة أو روايات و أخبار ، أو وثائق أو مصادر تأريخية وجغرافية أو كتابة على حجج وقف أو عقود بيوع و شراء أو صكوك و عقود نكاح ، أو كتابة و نقش على حجارة ، يبين ذلك كله ، بالإحالة عليه في هامش الشجرة .
14. لا يجوز تغيير ما في الشجرات الصحيحة القديمة في الشجرات الحديثة .
15. الزيادة في الشجرة القديمة الصحيحة إن كانت بغير خط الأصل ، فلا قيمة لها إلا عند واضعها .
16. لا يزاد على الشجرة الصحيحة إلا بدليل .
17. لا يقبل إدعاء الزيادة في الشجرات الصحيحة إلا بدليل .
18. ليست مصادر جمع النسب على درجة سواء ، فمنها ما هو شرعي رباني ، و منها ما هو نفساني شيطاني ، و منها ما هو بين ذلك .
19.إقرار كل " خامس " أو بطن بما فيها من أنسابهم إقراراً شرعياً ، خاصة إذا كبرت بطون و فخوذ القبيلة . و يجعل هذا في خاتمة و حاشية الشجرة .
20. تجنب التعبير بالألقاب القبيحة ، اللهم إلا أن يكون المرء لا يعرف إلا بها ، فلا بأس من ذكرها حينئذ ، و ليس هذا من الغيبة . فإن كانت هناك مفسدة من وضعها ، كتحرج بعض الذرية مثلا ، فالأولى تركها .
21. ذكر مصطلحات النسابين فيها ، كقولهم : درج ، و انقرض ، و نحو ذلك .
22. لا يستحسن تبديل مصطلحات النسابين بذكر بعض الرموز و الاشارات التي لا تعرف إلا عند صاحب الشجرة ، فالمحافظة على الاصطلاح مما يعصم به العلم ، و النسب من جملة العلوم ، فمن جهله يتعلمه .
23. يستحب تعيين ما يدل على مواضع الديار و السكنى خاصة إذا انتشر العقب جداً ، لفائدته في عدم الالتباس مع طول الزمن .
24. ذكر سني الولادة و الوفاة تحت كل اسم لما فيه من الفائدة .
25. الإشهاد عليها من قبل العدول من أهل المعرفة بالنسب .
26.توثيقها و تسجيلها في دوائر الحفظ و الوثائق .
27.العادة محكمة في كتابة أسماء النساء في الشجرات .
28.كتابتها على هيئة البسط لمزيد الحفظ و الاحتياط .
29.الأولى عدم تدبيجها بالآيات القرانية و الأحاديث النبوية ، لئلا يؤدي إلى الامتهان و الابتذال . فإن كان فاعلاً ، فليلتزم في الحديث الصحة ، و ليخرج من رواه ، و من صححه ، إذ العناية بذلك أهم من العناية بالنسب ، و إلا كتب عليه وزر الكذب على النبي صلى الله عليه و على آله و سلم .
30.لا بأس من تعليقها على جدران المجالس ، لأنه من التحديث بنعمة الله ، و من تعليم أهل البيت و الأقارب و الصغار النسب ، و إشاعة النسب ، و هذا أمر مشروع ؛ فإن جرَّت إلى محاذير شرعية كالفخر أو العجب أو العصبية ، فالمتعين المنع و التحريم .
31. لا يجوز وضع الصور فيها .
32. لا بأس من استخدام الوسائل الحديثة في حفظ الأنساب كبرامج الحاسب الآلي المعدة في صنع شجرات العائلة .
33.وضع الشجرة و صنعها فرع من العلم بالنسب ، و العلم به شعبة من شعب علم الحديث ، و قديماً قالوا :" علم الحديث لا يحبه إلا الذكور " ، فلابد من كبر نفس من يعاني علم النسب ، و عدم ضجره من أول الطريق ، فيجب الصبر على ما يواجه فيه حتى يفتح الله له أو يعذر من نفسه .
خطوات عمل " الشجرة " :
أولاً : جمع المعلومات التي تحتاجها " الشجرة " ، كالأجداد و الآباء الأقربين و معرفة وجه الصلة فيما بينهم ، و فرز أعمدة النسب . و هي معرفة مجردة بالأخبار . و من ذلك معرفة أحوال و عادات من يجمع أنسابهم ، و كيفية جريان الأسماء و الألقاب عندهم ، و نحو ذلك ، فإن هذا مما يعين في وضع الشجرة . و هذا يحتاج إلى وقت طويل ، و إلى مرنة عند الجامع للنسب ، يحصل بهما الاطمئنان إلى ما يورده من معلومات و أخبار .
ثانياً : الاعتماد على الطرق الشرعية و الوسائل الموضوعية في إثبات الصلة بين تلك المعلومات . و هذا أيضاً يحتاج إلى وقت طويل في التحليل و المقارنة . و قد دل الشرع و العقل على عدد من القواعد المهمة في هذا الباب تحتاج إلى جمع و تأصيل .
ثالثاً : توثيقها و حفظها عند الجهات المعتبرة .
- الفروق بين المشجرات و المبسوطات في النسب :
قال في الأصيلي :" الفروق الظاهرة بينهما كثيرة ، وإنما الفرق المهم[35]هو أن المشجر يبتدأ فيه بالبطن الأسفل ثم يترقى أباً فأب إلى البطن الأعلى . والمبسوط : يبتدأ فيه بالبطن الأعلى ثم ينحط ابناً فابناً إلى البطن الأسفل . وخلاصة ذلك أن المشجر مقدم فيه الابن على الأب ؛ والمبسوط عكسه ، يقدم فيه الأب على الابن " . أهـ[36] .
وقد سبق أن عرفنا المبسوط أنه كتاب منثور مثل: كتاب "نسب قريش" للزبيري وكتاب "جمهرة النسب" لابن حزم.
أما المشجر فهو مثل: كتاب "الأصيلي في أنساب الطالبيين" لابن الطقطقي المخطوط المشجر لا المطبوع اليوم بتحقيق الرجائي، و كتاب" روضة الألباب وتحفة الأحباب المعروف بمشجر أبي علامة".
و من الفروق الظاهرة بين المشجر والمبسوط :
- أن القراءة في المبسوط أيسر منها في المشجر ، و أدعى للحفظ . و لذلك لمَّا طلب الفخر الرازي من إسماعيل المروزي الحسيني أن يصنف له كتاباً في أنساب الطالبية فضَّلَ أن يكون على هيئة المبسوط لا التشجير ، و قال له :" المشجر لا ينضبط بالحفظ ، و أنا أريد شيئاً أحفظه ، " [37].
و بالجملة ، فمن كان متعوداً على كتب العلم والقراءة فيها ، يَسُرَ عليه أمرُ المبسوط بخلاف المشجر ، ومن لم يعرف من القراءة في النسب إلا ما في المشجرات ، يسر عليه أمرها .
- التصنيف في المبسوط أيسر منه في " المشجر" ، ولهذا كثرت تصانيف الناس فيه . و الناس اليوم على الضد من هذا !!
- كثرة فوائد المبسوط ، وذلك لأن الكتابة فيه على سنن التصنيف والترتيب ، فتجد ما يطرقه النسابة متسلسلاً ، يورد البطون من أعلى إلى أسفل ، ويذكر الألقاب والوقائع والأشعار ، و تواريخ الولادة والوفاة ، وهو في فسحة و سعة ، وذلك بخلاف المشجر ، فكم من ورقة ضاقت على نساب حجبت دفعاً لشبهة ، أو تقريراً لوجه غمز وطعن ببطلان نسب و نكارته ، أوربما فوتت ذكر سنة ولادة أو وفاة يحتاجها المتأخر في بحث أو مقارنة .
- ومن الفروق بينهما أن المشجر توضع فيه رموز لعلامات الطعن و القدح ونحو ذلك ، و تكتب أحياناً بالحمرة أو السواد ، بينما المبسوط لا تذكر فيه الرموز ، ولكنهم يحكون الحال في أثناء النسب ، و ربما رمزوا ببعض الاصطلاحات ، فكتبوا في المشجر والمبسوط :" في صح " [38].
- بقاء المبسوط و تعميره أكثر من المشجر . و هي مسألة نسبية .
- الوضع والزيادة في الشجرات أسهل و أيسر من المبسوطات .
ما حكم العمل بما في " الشجرات " ؟
ورد إلى الشيخ علي بن عمر العرشان اليمني سؤال هو : هل يجوز اعتماد القاضي و المفتي و الشاهد على كتب الشجرة المحررة المعتبرة إذا كان من صنفها من الثقات أم لا ؟؟ أجاب بقوله :" نعم يجوز للحاكم الحكم بما فيها ، و للمفتي أن يعتمد عليها إذا حصل بها العلم ، و كذلك للشاهد أن يشهد بما فيها إذا حصل بها الجزم ، من غير أن يسند ذلك إليها ، كالاستفاضة " . أهـ [39].
و للشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بلفقيه فتوى في " حكم الشجرة والحكم بها والاعتماد عليها " . و قد ذكر عمر بن سالم العطاس في رسالته في أنساب باعلوي المطبوعة سنة 1317 أن الشيخ عبدالله بلفقيه أفتى و أجاب عنها ، وأن العلم إذا تحقق بها كان للإنسان أن يشهد بما فيها [40].
كتبها
الشريف محمد بن حسين الصمداني الحسني
________________________________________
[1] معجم مقاييس اللغة ( ص 549 ) تحقيق : شهاب الدين أبو عمرو .
[2] صحيح البخاري ( رقم 6417 ) الفتح ( 11 / 235-236 ) .
[3] 0 انظر : معجم تيمور الكبير في الألفاظ العامية ( 4 / 179 ) .
[4] لباب الألباب ، لابن فندق البيهقي (1/199 ) .
[5] فضائح الباطنية 12 .
[6] اللباب 1 / 59 .
[7] جريدة الرياض عدد رقم 12565 بتاريخ 10/9 /1423 (( مقابلة مع أحد النسابين من حمص )) .
[8] انظر : لباب الألباب ، لابن فندق البيهقي ( 2/720-721 ) .
[9] المجدي للعمري ( 168 ) .
[10] المجدي 168-169 .
[11] عمدة الطالب
[12] عمدة الطالب لابن عنبة 315 .
[13] انظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة ، للطهراني ( 5/ 97 ) .
[14] معجم مقاييس اللغة ( ص 213 ) .
[15] انظر : عمدة الطالب ص 222 . ط: الكمالية .
[16] انظر : ص 300 . و يوجد كتاب قريب من هذا العنوان من مقتنيات ابن الطاوس الحسني .
[17] من عجائب المشتغلة بالنسب في هذا الزمان تشجيرهم لأعمدة النسب ، ثم يسمون ذلك بـ:" مبسوط النسب " ؟!! انظر : طبعة " عمدة الطالب " بتصوير يوسف جمل الليل ( ص45 -50 ، 59 ) .
[18] على سطح الكتاب لا توجد ست جهات ، بل الجهات الأربع و ما بينها .
[19] فهرس الفهارس للكتاني ( 2 / 588- 589 ) .
[20] كشاف اصطلاح الفنون (2/ 732 ) للتهانوي . و فيه أيضاً : " المشجر : المطير بالياء المثناة التحتانية " .
[21] كشاف اصطلاح الفنون ( 2/ 732 ) .
[22] موجود بمكتبة جاريت ( رقم 2103 ) ضمن مجموع . نسخت سنة 684 . تقع في 43 ورقة .و انظر : برن ، ليدن ( 1904 م ) . ( كذا في فهرس جاريت ) . و انظر أيضاً : برلين ( 5 /4214 ) ، و القاهرة VII صفحة 552 . .
[23] البصمة الوراثية و مدى مشروعية استخدامها في النسب و الجناية ، للشيخ عمر بن محمد السبيل رحمه الله تعالى ، ( ص 14 ) .
[24] انظر : الأصيلي في الأنساب لابن الطقطقي ، المخطوط ( ص4-5 ) ، والمطبوع ( ص31 ) .
[25] انظر : الأعلام (2/340) ، و طبقات النسابين لبكر أبو زيد (24-25) .
[26] الإكليل (158) .
[27] انظر : نسب قريش (ص3 ) .
[28] الأصيلي المطبوع (31) .
[29] قلت : إذا كان يقول هذا في أهل زمانه ، فمابالك بأهل هذا الزمان ؟؟
[30] في المخطوط :" الزيدي " ، و الصواب ما أثبته ، وهو الشريف النقيب قثم بن طلحة الزينبي العباسي ، والله أعلم .
[31] الأصيلي لابن الطقطقي ، مخطوط ( 4 ) . ما بين القوسين زيادة ليتسق الكلام .
[32] الأصيلي (43 ) المطبوع .
[33] المجدي 180 .
[34] عمدة الطالب ( ص 428 ) ط: الكمالية .
[35] في المخطوط كلمة ليست واضحة ، ولعل ما أثبته هو الصواب ، والله أعلم .
[36] الأصيلي ، مخطوط (ص 5 ) .
[37] معجم الأدباء لياقوت الحموي (6/149) .
[38] الأصيلي المطبوع (41-42) .
[39] انظر : رسالة العطاس في أنساب با علوي ( ص 13 ) .
جزاك الله خير الجزاء على ما تفضلت بتوضيحه من أحكام وآداب ، والمصادر المتعين على أصحاب المشجرات الإشارة إليهاوغيرها من اللوازم .
وبالخصوص لعشيره
ال صيبح هل هيه من الساده
اولا اشكرك على الطرح الجميل صراحة ما كنت اعتقد يتم المعرفة بالانساب بهذه الشروط عندي سؤال لك اذا كان في الإمكان الجواب عليه
آل شعيرة القاطنين في قرية الشعيرة في وادي الاحسبة هل هم من الأشراف؟!
الله يعطيك العافية و يوفقك ربي و ييسر أمرك