لم أكن أظن أن لقائي الشيخ الدكتور عاتق البلادي في الثالث من الشهر الماضي سيكون الأخير بعد زيارات متوالية وصلة علمية غير منقطعة منذ سنوات إلا أنني كنت أقرأ في عينيه وأسمع في لسانه وبين شفتيه نعيا قريبا لنفسه.
فكنت ألح عليه في تكريمه في الثلوثية منذ سنوات وكان يقاطعني باعتلال صحته وصعوبة الحضور إلى الرياض.
إلا أن احتفاء شيخ المنتديات والصالونات اثنينية عبد المقصود خوجة أسقط الواجب الكفائي عن الباقين.
وعلى الرغم من تعاقب زياراتي واتصالاتي إلا أن تلك الجلسة التي امتدت لأكثر من ساعتين لم تكن عادية.
ساءلته عن علماء ومثقفين وكتاب ورأيه فيهم وعلاقتهم ببعضهم فلم يبخل بإجابة ولم يتوان في إبداء رأيه بكل جرأة كما هي عادته وهو العسكري الذي صرخ صرخة ولادته في صحراء جرداء.
انطلق بعدها إلى أفق المعرفة الذي كان الحرم الشريف بوابته إليها.
اشتريت منه مجموعة كبيرة من كتبه بأعداد كبيرة وكنت أسأله عن قصة كل كتاب وتأليفه له.
أما أنا فقد تعرفت على عاتق البلادي منذ أكثر من عشرين سنة من خلال كتابه «نسب حرب» إبان طبعته الأولى سنة 1408هـ.
حيث كان هذا الكتاب من أوائل الكتب التي درست أنساب القبائل يتحدث بإسهاب ودقة وطريقة جديدة عن قبيلة حرب ثم تتابعت التأليف بعده عن القبائل بفترة طويلة.
أتبعه برسائل أخرى تم تصويرها تداولها ولكنها لم تطبع مثل نهاية الدرب في نسب حرب ثم أتبعه بكتابه معجم قبائل الحجاز.
أما كتابه العظيم معجم معالم الحجاز الذي يقع في عشرة مجلدات.
فهو يعتبر أحد الكتب الهامة المفصلة لمعالم الحجاز تحقيقا وتدوينا ومعاينة وغيرها من سلسلة كتبه وأبحاثه المتميزة والمبتكرة مثل طريق الهجرة ومعجم المعالم الجغرافية وفضائل مكة والكلمات الأعجمية.
وبين مكة وحضرموت والرحلة النجدية وأخلاق البدو وغيرها.
أجل لقد قضى البلادي حياته العلمية المتقاطعة مع غرائب حيث التحق بالعسكرية مبكرا ثم درس في المعهد العالي للصحافة في الأردن والذي زرع فيه بذرة التأليف والكتابة.
ثم دراسته على علماء الحرم الشيخ عبد المهيمن عبد الظاهر أبو السمح وغيره من محطات حياته المملوءة بالبحث والدراسة.
انعتق من حياة البداوة ليعشق العلم والمعرفة ليصبح إثر ذلك أحد أبرز الباحثين في تاريخ الجزيرة العربية وتراثها.
لقد عاش البلادي «رحمه الله» وفيا لمكة المكرمة فأفرد لها كتبا ونشر عن حالها دراسات صدرها بكتابه الأهم معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية إضافة إلى هديل الحمام في تاريخ البلد الحرام ومعالم مكة التاريخية والأثرية وفضائل مكة وغيرها. لقد كان حريصا على الكتابة والتدوين في كتب ستبقى إرثا علميا.
والسؤال الأهم: وماذا بعد وفاته وقد خلف هذه الثروة الكبرى وهل سيكون بمقدور أبنائه وورثته حمل الأمانة من بعده في نشر كتبه وطباعتها وتوزيعها؟ أم ستنبري جهات ومؤسسات للمحافظة على هذه الكنوز العظيمة؟
المصدر: صحيفة عكاظ، الخميس 11/03/1431 هـ