عاتق بن غيث رائد فقدناه
لمحمد البليهشي
لمحمد البليهشي
رحمك الله يا أبا غيث رحمة الأبرار لقد عدت لتوي من سفر ففوجئت بمغادرتك دنيانا الفانية إلى دار البقاء والخلود وحظيت بثرى أم القرى التي أحببتها واتخذت منها سكنا ًوإقامة واستلهمت من نفحاتها عبق تاريخ طويل فتحت من خلاله جميع الأبواب والنوافذ ووقفت أمام بوابة التاريخ تستقبل تياراته ونسماته.. تستنطق كل نسمة منه وتسألها تاريخ السابقين إنساناً ومكاناً ونعيش معها بلغة أولئك وتفاعلهم مع حياتهم في مختلف العصور والأزمان.
لقد أعطتك أم القرى منذ أن أحببتها واتخذت منها سكناً الشيء الكثير في تاريخها الموغل في القدم وكانت نفسك الأبية مشرئبة لذلك العطاء فاستقبلته بكل حب وأريحية وتقدير وعرفان بالجميل واتخذت من فجاجها وشعابها وجبالها ووديانها وفوق كل ذلك من قداستها منطلقاً لبحوث مثمرة وكتابات نيرة.. بل اتخذت مكة المكرمة نقطة ارتكاز تخرج منها على مختلف الجهات باحثاً منقباً مغربلاً لجزئيات من التاريخ بحب ليس له نهاية ودأب لا يعرف الكلل ونظرة ثاقبة لا تعرف اليأس، اتخذت عصا التسيار تتوكأ عليها في دروب موحشة وفجاج صعبة وأودية مخيفة وجبال وعرة قبل انفتاحها بالطرق الممهدة والقرى العامرة، تنبش بعصاك كل أثر وتستنطق كل معلم وتخاطب كل عابر سبيل بلغة ابن الصحراء العارف الحصيف لتصل إلى معلومة تحقق من خلالها تاريخاً يسجل للأجيال اللاحقة غير عابئ بكل المتاعب الجسمية والنفسية والمالية ومحققاً قول الشاعر:
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
ولذلك ونتيجة لجهودك طوال ما يزيد على خمسين عاماً من البحث والعطاء استقبلت المكتبة العربية ثمرات تلك الجهود فرأينا: كتب (فضائل مكة وحرمة البيت العتيق) و(معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية) و(معالم مكة التاريخية والأثرية) و(بين مكة وحضرموت) و(بين مكة واليمن) و(أودية مكة) و(هديل الحمام في تاريخ البلد الحرام) و(بين مكة وبرك الغماد) و(نشر الرياحين في تاريخ البلد الأمين) و(معجم معالم الحجاز) و(الرحلة النجدية) و(على طريق الهجرة)، وغيرها الكثير كلها يا أبا غيث قد كانت مكة مرتكز البداية والنهاية ولذلك فلا غرابة إذا لقبت بمؤرخ البلد الحرام.. أو مؤرخ الحجاز في العصر الحديث ومما يلفت النظر أنك مؤرخ عصري بنفس المؤرخين القدماء كابن بطوطة والبتنوني وابن جبير وغيرهم.
رحمك الله يا أبا غيث وإذا ذكرنا هذا الجانب فأنت رجل متعدد الاتجاهات في أبواب التاريخ ولك في أدب الرحلات القدح المعلى وقد مشيت على الشوك في هذا الجانب وفي جانب تاريخ الأنساب يوم أن أصدرت كتابك (نسب حرب) ولاقيت ما لاقيت من متاعب وإزعاج ولكنك كنت الأقدر على استيعاب كل التيارات وكنت الحصيف في علاج المشاكل وكنت تعرف الحق وتعود إليه وتعتذر عن الخطأ بكل جرأة وثقة واطمئنان ولا أزال أذكر يوم أن خرج كتابك (نسب حرب) وكنت يومها اكتب في جريدة الندوة أنا مدير مكتبها بالمدينة المنورة فاستعرضت ذلك الكتاب وباستطلاع موسع تحت عنوان (إعلان الحرب على كتاب نسب حرب) لأن أحد الرواة الذين اعتمدت عليهم في نقل معلومة قد نسب قبيلة إلى أخرى تختلف عنها في المعتقد مما أوقع في إشكال كبير فاتصلت بكل تواضع معتذراً وأرسلت خطابات لشيخ القبيلة تعتذر عن ذلك الخطأ ولدى صور من ذلك بخطك الرائع وكان ذلك في أواخر التسعينات الهجرية من القرن الماضي.. وعندما صدرت الطبعة الثانية والتي تليها من طبعات قمت بالاعتذار والتعديل ولم تكتف بذلك بل سجلت ذلك في محكمة مكة المكرمة.
وهذا هو حال الرجال الكبار لا يأنفون من الرجوع إلى الحق ولا يتمادون في باطل إذا تحقق لديهم ذلك وهذه واحدة من كثير من الحالات الأخرى كنت تستقبل في دارك بمكة المكرمة كل معترض على معلومة أوردتها وكان لعلو همتك وشفافية (حدسك) وفراستك ومعرفتك بأقدار الرجال ما جعل منزلتك وتقديرات تفرض نفسها على كل الأطياف من البشر بشموخ وإباء وعقلانية.
رحمك الله يا أبا غيث.. لقد تراءت أمامي وأنا أكتب هذا المقال بحرقة على فقدك صورتك وسمتك ونظراتك العميقة يوم أن كنت برفقتك نائباً عن أعضاء مجلس إدارة نادي المدينة المنورة الأدبي وكنا في زيارة لمدينة خيبر التي كانت زيارتها ضمن برنامج حفل جائزة أمين مدني للبحث في تاريخ الجزيرة العربية سنة 1421هـ وكنت تحاول يومها أن تحتضن التاريخ وأنت تسير بين حصون وسدود وعيون تلك المدينة التاريخية وكنت يومها الفائز بالجائزة وأنت جدير بها.
تراءت أمامي صورتك وأنا بجانبك وأنت تعاين بنظرتك الفاحصة وعينك الثاقبة وخبرتك بمعطيات أحقاب التاريخ وتؤكد لكل المرافقين بأن ذلك السد العظيم من بناء الدولة العباسية وقد سردت أمامهم أدلتك لإثبات مقولتك بهدوئك المعهود يوم أن شرفتنا جميعاً بحضورك في حفل العيد قبل أربع سنوات في قرية أم العيال وألقيت قصيدتك وكنت محل الحفاوة التي أنت أهل لها من كل المواطنين في وادي الفرع.
وتراءت أمامي صورتك وأنت تعلمني درساً لن أنساه عندما جرى النقاش حول جهودك وكتاباتك وقلت في تواضع جم وثقة بالنفس وشموخ واعتزاز بأن علينا كمثقفين وكتاب ومؤرخين أن نفتح الأبواب للأجيال اللاحقة وسيأتي من بعدنا آخرون يدخلون منها ويصححون ما قد يكون خطأً أو يعدلون ما قد يحتاج إلى تعديل المهم أن نفتح الأبواب ولو (مواربة).. إنا يا أبا غيث حكمة تنسف التواكل والتخاذل وتحقق معنى الريادة بكل مفاهيمها ولذلك فأنت بحق رائد حفرت دربك في الصخر في وقت يعز فيه من يسلك ما سلكت من دروب ويلاقي ما لاقيت من متاعب وقد بنيت ريادتك بعصامية مميزة وتضحيات كلفتك الشيء الكثير من الجهد والمشاق وحصدنا نحن ثمرات تلك الجهود بثروة تحفل بها المكتبة العربية قوامها أكثر من أربعين كتاباً بعضها تجاوز العشرة مجلدات ولذلك ورغم أن فقدك يعز علينا ولكن قضاء الله نافذ وستبقى رائداً يضرب بك المثل في العصامية والدأب والبحث والتاريخ والأنسب وعفة النفس والشموخ والإباء والشمم والتواضع.. ولن ينساك أبدأ التاريخ بكل معطياته لأن (جادتك) به واضحة المعالم و(حداءك) قد شنف الآذان و(ربابتك) لن تنكسر بموتك..
المصدر: صحيفة المدينة، الأربعاء 1/4/1431هـ
http://www.al-madina.com/node/232561/arbeaa