عاتق البلادي : رحيل آخر العلماء الموسوعيين
محمد بتاع البلادي
m.albiladi@gmail.com
محمد بتاع البلادي
m.albiladi@gmail.com
لم يكن يوم الثلاثاء الماضي يوماً عادياً بالنسبة لمكة المكرمة وأهلها .. كما لم يكن كذلك بالنسبة للثقافة والتاريخ والأدب وعلم الأنساب في جزيرة العرب .. ففي صبيحة ذلك اليوم شيعت أحب البقاع إلى الله واحداً من أعظم محبيها وعلمائها.. كما نعى التاريخ في ذات الصباح أحد ابرز مدونيه في العصر الحديث .. وافتقد الجغرافيون والأدباء وعلماء البلدان والأنساب عميدهم الذي ووري ثرى مكة ، لُتطوى بذلك صفحة مضيئة من سيرةٍ سُجلت بمداد الذهب لرجل أضحى بعصاميته وكفاحه رمزاً من رموز الوطن.. ومُلهَماً خدم وطنه وأمته في المجال العسكري قبل أن يثري المكتبة العربية بأكثر من خمسين مصنفاً في الجغرافيا والتاريخ والأدب وعلم الأنساب.
عاتق بن غيث البلادي .. اسمٌ أشهر من أن أُعّرف به .. وقامةٌ علمية و أدبية أكبر من أن أُروّج لها في مقال .. فهو الأديب الأريب والعالم الموسوعي الجليل، علاّمة الجغرافيا والأنساب، مؤرخ الحجاز وعاشق مكة و أحد ابرز العلامات الثقافية في المملكة العربية السعودية ..عالمٌ من طرازٍ نادرٍ، تخطى بعلمه الثر ضيق التخصص إلى سعة شمولية العلماء الموسوعيين.. فقد كان -رحمه الله- جغرافياً فذاً، لم يكتفِ بالنقل عن القدماء ومعالجة العلم بين الكتب والأوراق كما فعل غيره، بل كانت له رحلاته الخاصة في الجزيرة العربية التي وقف فيها على كثير من الأمكنة والمشاهد .. وكان نتاج تلك الرحلات الشاقة كتابه الشهير (معجم معالم الحجاز) بأجزائه العشرة ، بالإضافة إلى مصنفات أخرى كثيرة منها «معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية ، بين مكة واليمن ، بين مكة وحضرموت ،على طريق الهجرة، قلب الحجاز، الرحلة النجدية، الرحلة اليمانية، على ربى نجد، في قلب جزيرة العرب، خيبر ذات الحصون والعيون والنخيل، رحلات في بلاد العرب» .
أحب مكة كما لم يحبها أحدٌ من مجايليه فكتب لها و فيها : « معالم مكة التاريخية والأثرية، نشر الرياحين في تاريخ البلد الأمين ، هديل الحمام في تاريخ البلد الحرام ، زهر البساتين في تاريخ البلد الأمين، فضائل مكة وحرمة البيت الحرام ، أودية مكة المكرمة « .. ولأنه كان عالماً موسوعياً - كما قلنا - فقد اشتغل بالأدب أيضاً فأخرج « معجم الكلمات الأعجمية والغربية، الأدب الشعبي في الحجاز، حصاد الأيام، سقيط الندى وفوح الشذى، ألحان وأشجان، أدواء البشر في الدين والأخلاق والمعاملات، ،أخبار الأمم المبادة في القرآن، أخلاق البدو، أمثال الشعر العربي ، طرائف وأمثال شعبية « .. أما في الأنساب فهو المرجع الثبت صاحب « معجم قبائل الحجاز، الإشراف على تاريخ الأشراف، معجم القبائل العربية المتفقة اسماً والمختلفة دياراً، نسب حرب» وغيرها الكثير .
لم يكن هذا الرائد عليه شآبيب الرحمة - يبحث عن الأضواء والشهرة بقدر ما كان باحثاً مُجدّاً في دروب العلم ،مجتهداً في التصنيف، مجاهداً في التحقيق والتأصيل .. ولعل هذا العزوف الإعلامي كان من الأسباب التي حجبت عنه ما كان يستحق من تقديرٍ في حياته..أما وقد رحل اليوم فلا أقل من تكريمه من خلال إعادة طباعة إرثه الضخم من الكتب ..والتعريف بسيرته للشباب والناشئة .. فذهابَ الراسخين في العلم أمرٌ محزن ولا شك ، غير أن المحزن أكثر هو أن يعيشوا والأضواءُ بعيدةٌ عنهم، مشغولة بغيرهم، ثم يموتوا في صمتٍ دون اهتمام بهم أو إكبار وتقدير لأعمالهم .
لم ألتقِ الشيخ إلا في مناسبات عامة قليلة..وهذا ما أعتبره من الخسائر الشخصية .. وقد كنت عقدت العزم على زيارته في منزله، بعد أن بلغني انه كان يسأل عني، إلا أن قدر الله كان أسرع.. رحمك الله أبا غيث و جزاك عن أمتك ووطنك خير ما يجزى به إنسان.. فقد فقدنا برحيلك نفساً جوادة كريمة محبة، وعالماً موسوعياً وعلماً من أعلام المملكة .. لكن عزاءنا أن أثرك وعلمك وجهدك باقٍ طالما بقي إنسانٌ يقرأ على وجه البسيطة .
المصدر: صحيفة المدينة، الأربعاء 10/3/1431هـ
http://www.al-madina.com/node/226900