أخطأ النابغة وأصاب حسان
يتناقل بعض النقاد قصة حسان بن ثابت - رضي الله عنه - مع النابغة في سوق عكاظ ويجعلونها ركيزة من ركائز النقد الجاهلي , ومثالا مهما من أمثلة النقد في ذلك العصر ,
وقد طبل المستشرقون وزمروا لتلك القصة , وجعلوها فتحا من فتوحات النقد في عصر الجاهلية
والغريب أن الكثير من أساتذة الجامعات يرددونها عند التمثيل للنقد في العصر الجاهلي , ولا يقبلون المناقشة فيها وكأنها نص مقدس ؛ حتى إن بعض زملاء الدراسة أراد أن يعرض رأي قدامة بن جعفر في نقد النابغة فلم يسمح له ذلك الدكتور
وقصة حسان مع النابغة :
أن النابغة كان يحكم بين الشعراء في سوق عكاظ , فجاءه حسان بن ثابت فأنشده
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى .... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابني محرق .... فأكرم بنا خالا وأكرم بنا ابنما
فقال له النابغة :
إنك شاعر لولا أنك أقللت جفانك وسيوفك , وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك
وقلت ( الغر ) ولو قلت ( البيض ) لكان أجود
وقلت : ( يلمعن ) ( في الضحى ) ولو قلت ( يبرقن ) ( في الدجي ) لكان أبلغ
- وقلت ( يقطرن دما ) ولو قلت ( يجرين ) لكان أفضل فجريان الدم دلالة على كثرة القتلى من الأعداء .
وإنك لا تحسن أن تقول مثل قولي :
فإنك كالليل الذي هو مدركــي= وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
والذي يقرأ القصة السابقة يتوهم أن النابغة محق في نقده
ثم رد قدامة بن جعفر ( المتوفى سنة 337 هـ ) في كتابه نقد الشعر على النابغة وبين أنه أجحف في نقده ,
يقول قدامة بن جعفر :
فإن النابغة على ما حكي عنه لم يرد من حسان إلا الإفراط والغلو ، وعلى أن من أنعم النظر علم أن هذا الرد على حسان من النابغة خطأ بين ، وأن حسان مصيب , فمن ذلك أن حسان لم يرد بقوله الغر أن يجعل الجفان بيضا وإنما أراد بقوله الغر: المشهورات ، كما يقال يوم أغر ، وليس يراد البياض في شي من ذلك ، بل تراد الشهرة .
وأما قول النابغة في : يلمعن بالضحى، أنه لو قال : بالدجى ، لكان أحسن من قوله :
بالضحى ، إذ كل شيء يلمع بالضحى ، فهو خلاف الحق وعكس الواجب ، لأنه ليس يكاد يلمع بالنهار من الأشياء إلا الساطع النور الشديد الضياء ، فأما الليل فأكثر الأشياء مما له أدنى نور وأيسر بصيص يلمع فيه , فمن ذلك الكواكب , وهي بارزة لنا مقابلة لأبصارنا دائما تلمع بالليل ويقل لمعانها بالنهار حتى تختفي , وكذلك المصابيح ينقص نورها كلما أضحى النهار , والليل تلمع فيه عيون السباع بشدة بصيصها .
أما قول النابغة , إن قوله في السيوف يجرين خير من يقطرن لأن الجري أكثر من القطر , فلم يرد حسان الكثرة , وإنما ذهب إلى ما يلفظ به الناس , ويعتادونه من وصف الشجاع الباسل والبطل الفاتك بأن يقولوا سيفه يقطر دما , ولم يسمع : سيفه يجري دما , ولعله لو قال يجرين دما لعدل عن المألوف المعروف من وصف الشجاع إلى ما لم تجرِ عادة العرب به ( انتهى كلام قدامة بن جعفر )
وتذكرت قول عنترة :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل= مني وبيض الهند تقطر من دمي
وأرى أن النابغة في سوق عكاظ أراد أن ينتصر لنفسه في نقده المجحف , والسبب أن حسان تفوق عليه عند عمرو بن الحارث
يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
قدمت على عمرو بن الحارث فدخلت عليه فوجدت عنده النابغة وهو جالس عن يمينه ، وعلقمة بن عبدة وهو جالس عن يساره ، فقال لي : يابن الفريعة ؛ قد عرفت عيصك ( أي أصلك , والفريعة أمه ) ونسبك في غسان ، فارجع فإني باعث إليك بصلة سنية ، ولاأحتاج إلى الشعر ، فإني أخاف عليك هذين السبعين _ النابغة وعلقمة _ أن يفضحاك ؛ وفضيحتك فضيحتي ، وأنت والله لاتحسن أن تقول :
رقاق النعال طيب حجزاتهم= يحيون بالريحان يوم السباسب
فأبيت وقلت : لابد منه . فقال ذاك إلى عميك ، فقلت لهما: بحق الملك إلا قدمتماني عليكما! فقالا: قد فعلنا ، فقال عمرو بن الحارث : هات يابن الفريعة، فأنشأت :
لله در عصابة نادمتهم= يوما بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة عند قبر أبيهم = قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم= بردى يصفق بالرحيق السسل
يُغشون حتى ماتهر كلابهم= لايسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم = شم الأنوف من الطراز الأول
فلبثت أزمانا طوالا فيهم = ثم ادركت كأنني لم أفعل
قال: فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن موضعه سرورا ، وهو يقول: هذا وأبيك الشعر ؛ لا ما يعللاني به منذ اليوم ! هذه والله البتارة التي قد بترت المدائح ! هات له ياغلام ألف دينار مرجوحة ، فأعطيت ذلك ، ثم قال: لك علىّ في كل سنة مثلها .
وأود أن أعلق على بيت حسان :
يُغشون حتى ماتهر كلابهم .... لايسألون عن السواد المقبل
فما أجمل هذا البيت , وما أجوده ؛ فهو يصف ممدوحيه بالكرم والشجاعة , وما أكرم أولئك القوم الذين لا تهر كلابهم من كثرة الضيوف , والعرب تقول للكريم : \" فلان جبان الكلب \" كناية عن الكرم , لأن كلبه اعتاد قدوم الضيفان في كل وقت , فلا ينبحهم , فكأن الكلب جبان , بعكس البخيل فكلبه يهاجم الضيوف لأنه غير معتاد عليهم .
وكذلك أولئك القوم لا يسألون عن السواد المقبل , فإن كان ضيفا أكرموه وإن كان عدوا قاتلوه
ولعل النابغة أخذ موقفا من أهل المدينة عندما قدم إليهم , فقال :
أمن آل مية رائح أو مغتدِ ..... عجلان ذا زاد وغير مزودِ
زعم البوارح أن رحلتنا غدا ..... وبذاك خبرنا الغراب الأسودُ
فأدرك أهل المدينة الخلل في شعر النابغة , وهو الإقواء ( والإقواء اختلاف حركة الروي , فالدال الأولى مكسورة , والأخرى مضمومة )
فأرادوا أن ينبهوه إلى الخطأ الذي ارتكبه , ولكنهم تقديرا له أرادوا أن يخبروه بطريقة غير مباشرة , فجاؤوا بجارية تغني الأبيات , وتمد حرف الروي في غنائها , فتنبه النابغة للخلل .
ملاحظات :
1- من غير المعقول أن يأتي حسان بن ثابت رضي الله عنه ببيتين فيهما سبعة أخطاء , وهو الذي قد قال عنه الأصمعي : ( حسان بن ثابت أحد فحول الشعراء ) , ولو كان في شعره خلل لما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى , وكذلك اختاره الصحابة الكرام وفيهم نقاد بصيرون كعمر رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها , وهم نقاد يعرفون أسرار البيان .
2- أن حسان بن ثابت رضي الله عنه يكفيه فخرا أنه شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم , وسخر شعره للدفاع عن الإسلام , وكان شعره على الكافرين أشد من وقع النبال , ويقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اهجهم وروح القدس معك ) .
3- أن النابغة في قوله (وإنك لا تحسن أن تقول مثل قولي :
فإنك كالليل الذي هو مدركــي وإن خلت أن المنتأي عنك واسع ) كأنه ينتقم لنفسه , ويظهر التعالي ويستغل مكانته في السوق للنيل من حسان نظرا لمواقف شعرية سابقة تفوق فيها حسان عليه
4- من خلال بحثي في شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه تبين لي أنه قد ظلم كثيرا ونسب إليه الكثير من رديء الشعر للنيل منه , ولا يزال الظلم مستمرا إلى اليوم عندما جعلت هذه القصة التي تنال من شاعريته مثالا للنقد الجاهلي وعدم ذكر الآراء المؤيدة لقوله والمنافحة عنه .
5- أن الظلم قد تجاوز شاعريته إلى النيل من شخصه الكريم فنعتوه بالجبن , واستدلوا بروايات لا تؤيد كلامهم , وهذا ينافي محبة صحابي جليل دافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فرضي الله عن حسان وأرضاه .
بقلم :
الأديب والشاعر : رداد بن شبير الفضلي الهذلي
الأديب والشاعر : رداد بن شبير الفضلي الهذلي
وعلى اله وصحبه اجمعين
هنا تاتي مقولة يرددونها العامه
المعنى في قلب الشاعر
بارك الله فيكم
هذا بحث جميا رائق لا يستهوي الا المهتم بهذا الموضوع الجميل
شكرا لك
اولا النابغة يتحدث عن صيغة مفاضلة ... فعندما يقول اجود ..فهو يعني ان هناك جودة و لكن الاجود ان تقول و كذلك في قوله احسن .. و اما قول عنترة يقطرن و لم ينتقده احد لانه كان مصيبا فكيف له ان يقول ان اعداءه اثخنوه جراحا فالدم الذي يقطر هو دمه كناية عن قلة اصاباتهم له ... على عكمقصود حساتانا اكي
لا ننكر شاعرية حسان ولكن لا يصل إلى شاعرية النابغة مطلقاً ، وقصة النقد التي يستشهد بها المعلمون لا ريب في سلامتها وسلامة قول النابغة .
فحكم عقلك .