• ×

الرواية الشفوية بين الضرورة والضرار

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الرواية الشفوية بين الضرورة والضرار

سألقي الضوء على بعض تمظهرات الرواية الشفهية وتدوينها وما يتصل بذلك فأقول مستعيناً بالله وناقلاً لما كتبه أئمة التاريخ والأدب في عصور الإسلام الزاهرة:
لا يسعنا ابتداءً إلا أن نورد ما قاله المؤرخ ابن خلدون وفيما يتصل بالرواية الشفهية يقول: (اعلم أن فن التاريخ....... فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً لم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنة الكذب ومطية الهذر ولا بد من رده إلى الأصول وعرضها على القواعد) ثم ذهب كل مذهب في إيراد نماذج من تهويلات المؤرخين ونقولات الشفاهيين. مثل المسعودي الذي ذكر أن موسى عليه السلام أحصى بنو إسرائيل في التيه فكانوا ستمئة ألف أو يزيدون..!
ابن خلدون هنا يضع أسس لتناقل الرواية الشفهية وتدوينها وأن الأمر ليس على عواهنه بأن يدون كل ما يقال من دون فحص وتدقيق وفعلاً من طالع التفاسير وكتب التاريخ وأحداث آخر الزمان يجد العجائب.
الرواية الشفهية من وسائل رصد الحقائق وفي قاموس لاروس (أنَّ التراث الشَّفهي هو: (مجموعة التقاليد من أساطير ووقائع ومعارف ومذاهب وآراء وعادات وممارسات) أمَّا قاموس روبير فيُعرِّف التراث الشفهي بأنه: (انتقال غير مادي للمذاهب والممارسات الدينية والأخلاقية المتوارثة من عصر إلى آخر بواسطة الكلمة المنطوقة).
ورغم أن الرواية الشفهية لا ترقى إلى مستوى النص المكتوب كوثيقة لاعتمادها الذاكرة والتي يشوبها ما يشوبها من نسيان وتخليط في الوقائع والأحداث.. ولكن في تاريخنا المحلي أجدنا مضطرين إلى جمع الروايات من شفاه الرجال لقلة الوثائق والأوراق المكتوبة في تاريخنا القريب.
يقول روبرت لوي (كيف يُمكن للمؤرِّخ أن يخدم نفسَه باعتقادِه أنَّه يحتاج فقط إلى أن يَستجْوِب السكَّان المحلِّيين؛ لكي يتعرَّف على تاريخِهم)؟ أو قوله أيضًا: إنَّني لا أستطيع أن أعلِّق أيَّة قيمة تاريخية على الروايات الشفهية، تحت أية ظروف).
وكذلك بما أنه (وما آفة الأخبار إلا رواتها) وبما أن الرواية الشفهية فيها مبالغة ومزج للواقعي بالإسطوري فيجب علينا التحرز والعمل بما أشار به ابن خلدون وفي الغالب أن الأحداث الكبرى يكاد يجمع عليها المتناولون للتاريخ المحلي إلا أن الجزئيات هي موضع الشك والريب وعليها مدار الاشتجار الفكري بين المهتمين وبناءً عليه لا بد من إيجاد مخرج من اللغط بتحكيم أقيسة العقل لدراسة الحدث المروي بأكثر من شكل ولون للخروج بصيغة مروية معقولة.
وخلاف ما ذهب إليه روبرت لوي نجد (فيدر) يقول (إنَّ المأثورات يَجب أن تكون مقبولة؛ لأنَّها تستحق الثقة).
ومع أن رواية الشفاة يعتريها ما مر إلا أنه لا ينبغي الشك في كل مروي، وهنا نموذج للتفكير السوي في المرويات يذهب د. محمد عابد الجابري في (تكوين العقل العربي) الجزء الأول من مشروعه لنقد هذا العقل أنه يجب علينا مناقشة هل العصر الجاهلي بوصفه زمناً ثقافياً نسخة طبق الأصل للواقع الثقافي والفكري الذي عاشه عرب الجزيرة قبل الإسلام مستدركاً بقوله إننا لا نريد أن نطرح القضية التي أثارها طه حسين وهي صحة أو عدم صحة الأدب الجاهلي إن الشك في مثل هذه الأمور يجب أن يكون في حدود وإلا فقد كل مبرر منهجي ذلك لأنه بإمكان (الوضاع) أن يضعوا فعلاً بعض الأشعار ولكن من المستبعد تماماً أن يتناول الوضع شخصيات الماضي وما ينسب إليها في آن واحد إنه يرى أنه لكي تنسب أشعار إلى شعراء جاهليين يجب أن يكون هناك بالفعل ليس فقط شعراء جاهليين بل أيضاً شعر جاهلي ينسج على منواله فالتزوير من غير نموذج سابق غير ممكن.
ومنهج الجابري هنا لا يحتاج إلى إيضاح..
كتب الدكتور محمد الشثري مقالاً بعنوان (العرب والرواية والتاريخ الشفهي) جريدة الجزيرة في الوراق الأحد 16 رمضان 1430, وأرخ فيه بشكل موجز لرحلة الرواية الشفهية في الثقافة العربية واهتمام العرب بتلك المرويات وسعيهم الحثيث لجمعها ولو تكبدوا في ذلك الرحلة والبقاء في الصحراء لسماع لغة العرب غضة ورواية أشعار الأقدمين والتي يستشهد بها في أبواب الفقه والتفسير والتاريخ واللغة منذ الأصمعي إلى دارة الملك عبدالعزيز حيث ذكر الدكتور محمد اهتمام القائمين بالدارة على جمع المرويات الشفهية لتدوينها وحفظها من الاندثار إذا ذهب الجيل الذي يحملها في صدره وتوجه بالإشادة للجميع وعلى رأسهم رئيس مجلس إدارة الدارة الأمير سلمان بن عبدالعزيز والأمين العام للدارة فهد السماري في مشروعهم (مسح المصادر التاريخية).
وبودي هنا أن أعرض لما في ثقافتنا العربية من احتفالاً بالرواة ودعم لوجستي منقطع النظير بل وإكرام في المرحلة الثانية للأعراب الذين يقدمون من الصحراء وتزيين المجالس بأحاديثهم ورواياتهم قال الجاحظ في بيانه وتبيينه: (وحدثني الأصمعي قال: جلست إلى أبي عمرو عشر حجج ما سمعته يحتج ببيت إسلامي) (يريد أصالة ما يحتج به شيخه ولغة الشعر قبل اختلاط المسلمين بغيرهم أفصح) وقال مرة: لقد كثر هذا المحدث وحسن حتى هممت أن آمر فتياننا بروايته يعني شعر جرير والفرزدق وأشباههما وحدثني أبو عبيدة: قال: كان أبو عمرو أعلم الناس بالعرب والعربية وبالقراءة والشعر وأيام الناس (إلى قوله وما زال الكلام لأبي عبيدة) وكانت كتبه التي كتب عن العرب الفصحاء قد ملأت بيتاً له إلى قريب من السقف ثم إنه قرأ (تنسَّك) فأحرقها كلها، فلما رجع بعدُ إلى علمه الأول لم يكن عنده إلا ما حفظه بقلبه. وكان عامة أخباره عن أعراب قد أدركوا الجاهلية وفي أبي عمرو بن العلاء يقول الفرزدق:
ما زلت أفتح أبواباً وأغلقها
حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
قال: فإذا كان الفرزدق، وهو راوية الناس وشاعرهم وصاحب أخبارهم يقول فيه مثل هذا القول فهو الذي لا يشك في خطابته وبلاغته وقال يونس لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس وقال في أبي عمرو مكي بن سوادة:
الجامع العلم ننساه ويحفظه
والصادق القول إن أنداده كذبوا
ص192 ج1 المكتبة العصرية ط 2007م
ولعلنا هنا نبين أن العلم عموماً لا يكون منظما في مرحلته الأولى فهو يبحث في مسائل متنوعة لا رابط بينها إلا أنها يعتمد فيها على الروايات وآراء العلماء نعم كان العلم جسد واحد ليس له فروع وكلما تطور العلم رام إلى الاختبار والجزم ولم يكتف بأقول الرواة وآراء السابقين وفي المرحلة الثانية ينظم العلم وتجمع مسائله المتعلقة بموضوع واحد في مجموعة واحدة لتصبح فرعا مستقلا نوعا ما.
ففي العصر الجاهلي مثلا كهانة وكلام في النجوم والرياح وطب تنتقل من جيل لآخر بالرواية كذلك جاء بعد البعثة العلم الديني إلى قبيل الدولة العباسية ومع ذلك لم تستقل العلوم بعضها عن بعض فليس هناك علم الفقه وعلم التفسير بل العالم يكتب ويقول في كل العلوم جملة إلى القرن الثاني فتميزت العلوم بعضها عن بعض فعلم العهد الأموي كان رواية العلماء من حفظهم أو من بعض الصحائف يوجد فيها مسائل لعلوم متفرقة لغوية وحديثية وفقهية ولكن ومع هذا القرن كذلك لم يعد المحور الكتاب والحديث فقط بل جاءت العلوم الدنيوية من طب وفلسفة وطبيعيات مع تأثر كل هذا بالدين طبعاً ولكن لكل علم منهج وأسلوب خاص.
والبعض يظن أن التدوين لم يحدث إلا في العصر الأموي وهذا فيما يبدو غير مقبول فإن التدوين كان قبل البعثة في اليمن والحيرة وشيء في الحجاز فأخبار الحميريين وحوادثهم دونوها ونقشوها على الأحجار وتكتشف بين الفينة والأخرى وبعد ذلك كتبة الوحي وتدوين السنة كما فعل عبدالله بن عمرو قال عنه أبوهريرة (فإنه كان يكتب) وقال عن نفسه (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله عليه الصلاة والسلام أريد حفظه) ورسائل النبي عليه الصلاة والسلام كانت تكتب وفي كتاب (الفهرست): أن عبيد بن شرية الجرهمي وفد على معاوية فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وأمر افتراق الناس في البلاد فأجابه على ما سأل فأمر معاوية أن يدون وينسب إلى عبيد بن شرية وله من الكتب (كتاب الأمثال) و(كتاب الملوك وأخبار الماضين).
وذكر أيضاً أن بمدينة الحديثة رجل اسمه محمد بن الحسين لديه خزانة لم أرى لأحد مثلها كثرة في النحو واللغة والأدب والكتب القديمة يقول وقد كان ضنينا بما عنده فلما انس بي دفع لي ثلاثمئة رطل من جلود وصكاك وقراطيس وورق صيني وورق تهامي وجلود أدم فيها تعليقات عن العرب وقصائد وشيء من النحو والحكايات والأخبار والأسماء والأنساب وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم وكان على كل جزء أو ورقة توقيع العلماء واحدا إثر واحد.
ولكن ذلك التدوين عبارة عن جمع لا يعكس شخصية الكاتب فلما دخل الفرس والروم الإسلام وكانوا أصحاب كتب وحضارات ظهرت شخصية المؤلف فأصبح يجمع ما يتعلق بالموضوع الواحد في كتاب ومع ذلك لم يصل إلينا من كتب الأمويين إلا القليل وأغلب هذه الكتب انتقلت بالرواية وأدخلت في كتب العباسيين.
وبالنسبة للتاريخ كانت هذه المرويات هي الأساس الذي عليه بنيت المؤلفات ككتب ابن إسحاق وابن جرير ولو تتبعت سلسلة رواية بن جرير وجدت الأربعة الذين يتصلون بحياته كانوا في العصر العباسي وهم يروون عن الذين في عهد الأمويين والراشدين.
وإن كان المقصود ببداية التدوين المنظم المؤسساتي المدعوم من الدولة فالعهد العباسي بلا شك هو من تولى كبر هذه النقلة الحضارية من عام 143هـ وهو زمن المنصور الخليفة العباسي.
وهنا سنعرض للرواية الشفهية في القرن الثاني لأنها قنطرة التدوين المنظم:
1- مراحل الرواية الشفهية في القرن الثاني:
المرحلة الأولى: رحلة الرواة إلى الصحراء
واستمرت مرحلة الأخذ عن البادية مشافهة حتى أواخر القرن الرابع الهجري، ومن هؤلاء الرواة أبو عمر عيسى بن عمر الثقفي (49هـ) وتلميذاه الخليل بن أحمد (1745هـ) ويونس بن حبيب (182هـ). ومنهم أبو عمرو بن العلاء (154هـ) وتلميذه النضر بن شميل (203هـ)، وأبو زيد الأنصاري (215هـ)، وعبد الملك بن قريب الأصمعي (217هـ)، والكسائي (189هـ)، وتلميذاه أبو عمر الشيباني (206هـ) والفراء (207هـ). ثم يعودون بهذه المادة العلمية لتملى على الطلاب وتروى في مجالس الخلفاء
المرحلة الثانية: رحلة البدو الفصحاء إلى الحواضر؟
والدافع لهذا ما رأوه من إقبال الرواة عليهم، وهي فرصة للتكسب وطلب الرزق، ومنهم أبو البيداء الرياحي نزل البصرة وكان يعلم الصبيان فيها بأجرة وأقام بها أيام عمره يؤخذ عنه العلم وأبو مالك عمرو بن كركره، كان يعلم في البادية وفي الحاضرة، وأبو عرار وأبو زياد الكلابي قدم بغداد أيام المهدي، وأبو سرار الغنوي، وأخذ عنه أبو عبيدة ومن دونه ولم يستمر هذا التكسب فتوقف مع أواخر القرن الرابع لفساد فصاحتهم وحتى الذين في البادية طالهم ذهاب الفصاحة وترك النقل عن الأعراب في أواخر القرن الرابع وهو ما قرره ابن جني (322-392هـ) بقوله: (لو فتشنا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها، وترك تلقي ما يرد عنها، وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا، لأنا لا نكاد نرى بدوياً فصيحاً).
المرحلة الثالثة: نقل التلاميذ عمن أخذ عن الأعراب
وهم معظم تلاميذ الرواة كأبو حاتم السجستاني (248هـ) والتوزي (230هـ) وأبو علي الحرمازي وأبو عمر صالح بن إسحاق الجرمي (225هـ) والعباس الرياشي (257هـ) وأبو نصر الباهلي (231هـ). وعن هؤلاء التلاميذ نقل العلماء الكبار في جميع الفنون وأغلبها ما يتصل بالأدب والتاريخ والتفسير.
2- أسباب الاهتمام بالرواية الشفهية عند رواة القرن الثاني:
1- مخافة التصحيف والتحريف:
قال التوزيُّ: قرأت على أبي عبيدة:
فتخالسا نَفْسيهِما بنوافذٍ
كنوافذِ العُبُطِ التي لا ترفَعُ
فقال: من أقرأك هذا؟ قلت: الأصمعي، قال: صحَّف العبد، أو العلج إنما هو (الغبط).
2- النزعات الشعوبية:
وهي ردة فعل لتمييز الدولة الأموية بين العرب والموالي، وتفضيل العرب عليهم، فجعل هؤلاء الموالي يهتمون برواية الشعر واللغة حتى يبلغوا المناصب العالية في الدولة، ومنهم أبو عبيدة معمر بن المثنى فقد كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارهم والهيثم بن عدي وغيرهما.
3- التفسير اللغوي للقرآن والحديث:
وليس هذا بجديد بل هو من القرن الأول ولكن الذي حصل هو نشاط الدراسات القرآنية والحديثية في القرن الثاني وما بعده.
آمل من العلي القدير أن يتيح الفرصة لبحث أطوار الكتابة بشقيها الفني والعلمي لاتصالها بهذا الموضوع والتوسع في قراءة التدوين ونظرات المفكرين له ولمرحلته.

تركي بن رشود الشثري

t-alsh3@hotmail.com


____________
المصدر: صحيفة الجزيرة الأحد 22/10/1430هـ

بواسطة : hashim
 0  0  11517
التعليقات ( 0 )

-->