حاجة الملوك والأمراء لعلم النسب.
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعــد:
فإن الإحاطة بأنساب القبائل والبيوتات ذات الشوكة تُقرِّب للملوك طبائعها، وتهديهم إلى كوامن القوة فيهم، ومواطن الضعف منهم، بل لكأنَّ علم النَّسب فهرسٌ دقيقٌ لحركة أجيالهم، أو سِجِلٌّ مفصَّلٌ عن أطوارهم، وفيه ذلكم المزيجُ من الآداب، والتاريخ، والجغرافيا، وفي تضاعيفه تتوسَّم خبايا النفوس، وتتفرَّس دفائن الأخلاق، ولا شكَّ أنَّ كلَّ ذلك يعين ذوي الملك على إدارة دفَّة الحكم، والمحافظة على أركان سلطانهم؛ ولهذا كلِّه كانوا يحرصون على تعليم أبنائهم أنساب القبائل وأخبارها، ومن أمثلة ذلك أنَّ الخليفة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (ت60هـ)، كان يسأل النَّسَّابة دَغْفَلَ بن حنظلة الشيبانيَّ عن أنساب العرب، ويُحضره في مجالسه(1)، ولإدراكه أهمية وجلالة علم النسب أمر ابنه يزيد بملازمة النَّسَّابة دَغْفَلًا الشيبانيَّ لتعلُّم أنساب قريشٍ والعرب(2)، وقال لدَغْفَلٍ: «علِّم يزيد أنساب قريشٍ، وأنساب الناس»(3).
ومن الأمثلة على عناية الملوك بالنسب وتعليم أبنائهم أنساب البيوتات والقبائل: أنَّ الخليفة أبا جعفرٍ المنصور عبدالله بن محمد العباسيَّ (ت158هـ) طلب من جليسه العلامة النَّسَّابة الشرقي بن القطاميِّ الكوفيِّ (ت نحو 155هـ)، أن يُعلِّم ابنه المهديَّ محمدًا نسبه في قريشٍ، وأنساب القبائل والأعيان؛ فقال له: «لو أتيتَ فَتَانا محمدًا، -يعني المهديَّ(4)-، فحدَّثْتَه من طرائف ما عندك، وخبَّرته بشرف أهله في جاهليتهم وإسلامهم، وأيامهم وأنسابهم، ومن يقرب إليه من نسبه في قريشٍ، وصهره من جميع العرب، وما يحتاج إليه من منازل أهله وأقاربه منه، والأقرب فالأقرب منهم؛ لم يَضِعْ ذلك لك عندي»(5).
ومما يدلُّ على أنَّ علم الأنساب يُقوِّي قبضة السلاطين ويُثبِّت عروشهم أنَّ الأمم الغربية قد اشتغلت بعلم دراسة الشعوب، أو علم الأعراق قبل الحملات الاستعمارية التي اكتسحت الدُّنيا في القرن التاسع عشر، إذ تعاورت أقلامُ قادة البعثات الأوروبية على مذكراتهم، يكتبون فيها عن شعوب تلك البلدان، وأعراقها، وقبائلها، وثاراتها، وخَبَرُوا بذلك كيفيةَ استخدامها، مثل ما ذكره بعضهم من أنَّ السيطرة على البلاد ذات القبائل الكثيرة يختلف عن البلاد التي يغلب عليها عنصرٌ واحدٌ، والناظرُ في إنتاجهم -أو ما يُعرَف بالدراسات الاستشراقية- يقف على تفاصيل في علم الأنساب ودقائقه ممَّا لا يتفق لغير المشتغلين بهذا العلم، وقد احْتَنَكَتْ تلك المعارفُ أساليبَ المستعمر، وازداد بها خبرةً في تحريض الشعوب وإثارة نعراتها حتى تضعف، وبقيت آثار ذلك حتى بعد خروج المستعمر(6).
كتبها:
إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
30 جمادى الآخرة 1442هـ
مكة حرسها الله تعالى
الحواشي:
(1) «المعجم الكبير» (4/226).
(2) «تاريخ دمشق» (17/291، 302).
(3) «العيال» (ص83).
(4) المهدي: هو محمد بن أبي جعفر المنصور العباسي، الخليفة بعد أبيه، وقد كان جوادًا ممداحًا معطاءً، محببًا إلى الرعية، قصابًا في الزنادقة؛ ولد سنة 127هـ، وتوفي 169هـ. «سير أعلام النبلاء» (7/400).
(5) «معجم الأدباء» (3/1417).
(6) وقد لفت انتباهي إلى مراد ساسة الغرب الشيطاني من معرفة أنساب القبائل والشعوب تلميذنا المفيد الشريف ثامر بن سعيد الرسي.