بَحْثٌ عَقَدِيٌّ فِي لَفْظِ (السَّيِّدِ)
د. يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّعِيدِ
الأُسْتَاذِ الْمَشَارِكِ فِي جَامِعَةِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سُعُودٍ
د. يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّعِيدِ
الأُسْتَاذِ الْمَشَارِكِ فِي جَامِعَةِ الإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ سُعُودٍ
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد: فهذا بحث جمعت فيه ماوقفت عليه مما يتعلق بلفظ \" السيد \" من الأحكام الاعتقادية، والذي حملني على الكتابة في هذا الموضوع: أهميته، وهذه الأهمية يمكن إيجاز بيانها في الآتي:
أولا: تعلقه بمبحث أسماء الله ـ تعالى ـ يعني هل هذا اللفظ من أسماء الله ـ تعالى ـ أو ليس من أسمائه، ولا ريب أن البحث في هذا من أشرف البحوث، إذ شرف العلم بشرف المعلوم .
ثانيا: وجود مسائل كثيرة متعلقة به تحتاج إلى بحث، فهناك ـ على سبيل المثال ـ بعض النصوص جاء فيها ما فهم منه بعض العلماء المنع من إطلاق لفظ السيد على المخلوق، بينما جاءت نصوص صريحة تدل على جواز ذلك، وهذه تحتاج إلى نظر .
ثالثا: لما لهذا الموضوع من ارتباط وثيق بألفاظ الناس، فهذا اللفظ يسمع كثيرا في وسائل الإعلام المختلفة، ويوجد في المكاتبات، وفي المخاطبات وغير ذلك، والناس يحتاجون إلى بيان حكم إطلاق هذا اللفظ .
رابعا: استخدام هذا اللفظ في غير محله من كثير من الناس، كإطلاقه على المنافق والكافر والفاسق والمبتدع ونحو ذلك، وإطلاقه على المخلوق ويقصد به ما يقصد به لفظ الرب والإله، وهذا عند كثير من الغلاة .
خامسا: وجود بعض البدع المتعلقة بهذا الموضوع .
ولكوني لم أقف على بحث يلم شتات هذا الموضوع، فقد استعنت بسيدي ومولاي، وهو خير مستعان به على الكتابة في هذا الموضوع، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
خطة البحث:
جاء البحث بعد هذه المقدمة في ثلاثة فصول وخاتمة:
الفصل الأول: التعريف اللغوي .
الفصل الثاني: حكم إطلاقه على الله ـ تعالى ـ ومعناه في حقه، وآثار هذا الاسم، وحكم الدعاء به، ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: حكم إطلاقه على الله ـ تعالى ـ .
المبحث الثاني: معناه في حق الله ـ جل وعلا ـ .
المبحث الثالث: آثار هذا الاسم .
المبحث الرابع: حكم الدعاء به .
الفصل الثالث: تعلقه بالمخلوقين، ويشتمل على خمسة مباحث:
المبحث الأول: حكم إطلاقه على المخلوقين .
المبحث الثاني: سيادة النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: سيادته في الدنيا والآخرة .
المطلب الثاني:في بيان أنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لم يخبر بسيادته على وجه الفخر .
المطلب الثالث:في بيان شمولية سيادته لآدم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وبنيه .
المطلب الرابع: في بيان تحريم إطلاق لفظ (سيد ولد آدم) أو (سيد الناس) أو (سيد الكل) ونحوها على أحد غير النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
المبحث الثالث: حكم إطلاقه على المرأة .
المبحث الرابع: حكم إطلاقه على المنافق والكافر .
المبحث الخامس: حكم إطلاقه على المبتدع .
الخاتمة .
الفصل الأول: التعريف اللغوي
السيد: من ساد يسود سيادة وسوددا وسيدودة .
وهذه الكلمة على وزن فيعل من فعل واوي: ساد يسود، وهذا قول أهل البصرة ( 1) ، وإنما جمعوه على (سادة) على وزن (فَعَلَة) التي لا يجمع عليها إلا (فاعل) لأنهم قدروا أنهم جمعوا (سائد) كقائد وقادة، وذائد وذادة، والجمع القياسي لـ (فيعل): (فياعل) ولذلك جمعوا (سيد) على (سيائد) وهو قياس؛ لكنه قليل الاستعمال .
وقيل: وزنه على (فعيل) ولذلك جمع على (سادة) قياسا، كما في (سري) و (سراة) ولا نظير لهما، يدل على ذلك أنه يجمع على سيائدة ـ بالهمز ـ مثل: أفيال وأفائلة، وتبيع وتبائعة ( 2) .
والذين قالوا: إن أصله سَيْود ـ على وزن فَيْعِِل ـ قالوا: إن الواو فيه قلبت إلى ياء؛ لأجل الياء الساكنة قبلها، ثم أدغمت ( 3) .
وسيد صفة مشبهة، وفيه معنى أقوى من اسم الفاعل المجرد \" سائد \"، فقد نقل صاحب القاموس أن السائد دون السيد ( 4) .
كما أنه يمتاز عن صيغة اسم الفاعل بالتحقق والثبوت .
قال الفراء (ت 207): (( هذا سيد قومه اليوم، فإذا أخبرت أنه عن قليل يكون سيدهم قلت: هو سائد قومه وسيد )) ( 5) .
وقد ذكر اللغويون معاني عدة لهذا اللفظ، فقد جاء عن عكرمة أنه قال: (( السيد: الذي لا يغلبه غضبه )) ( 6) .
وقال قتادة (ت 117 أو 118): (( هو العابد، الورع، الحليم )) ( 7) .
وقال أبو خيرة نهشل بن زيد ـ رحمه الله تعالى ـ : (( سمي سيدا؛ لأنه يسود سواد الناس، أي: معظمهم )) ( 8) .
وقال الأصمعي (ت 212) ـ رحمه الله تعالى ـ : العرب تقول: السيد: (( كل مقهور مغمور بحلمه )) ( 9) .
وقال النضر بن شميل (ت203) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( السيد: الذي فاق غيره، ذو العقل والمال والدفع والنفع، المعطي ماله في حقوقه، المعين بنفسه، فذلك السيد )) ( 10) .
وقال الـراغب (ت502) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( والسيد: المتولي للسواد، أي: الجماعة الكثيرة، وينسب إلى ذلك، فيقال: سيـد القوم، ولا يقال: سيد الثوب وسيد الفرس، ويقال: سـاد القوم يسودهم، ولما كان من شرط المتولي للجماعة أن يكون مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلا في نفسه: سيد، وعلى ذلك قوله: â وَسَيِّداً وَحَصُوراً ( 11) ، وقوله: â وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَاب ( 12) فسمى الزوج سيدا لسياسة زوجته، وقوله: â رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا ( 13) أي: ولاتنا وسائسينا )) ( 14) .
وقال الفراء (ت 207) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( السيد: الملك، والسيد: الرئيس، والسيد: الحليم، والسيد: السخي، وسيد العبد: مولاه، والأنثى من كل ذلك بالهاء، وسيد المرأة: زوجها، وسيد كل شيء أشرفه وأرفعه )) ( 15) .
وقال ابن الأثير (ت 606) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( والسيد يطلق على الرب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، ومتحمل أذى قومه، والزوج، والرئيس، والمقدم )) ( ( 16) .
والسودد والسؤدد: الشرف .
والمسوَّد ـ بضم الميم، وفتح السين، وفتح الواو المشددة ـ : السيد .
والمسود ـ بفتح الميم، وضم السين ـ : من ساده غيره .
واستاد القوم بني فلان: قتلوا سيدهم، أو أسروه، أو خطبوا إليه ( 17) .
وتسود الرجل: إذا ساد، وسود: إذا جعله غيره سيدا .
قال عمر ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : (( تفقهوا قبل أن تسودوا )) ( 18) .
قال شمر: معناه: تعلموا العلم قبل أن تزوجوا، فتصيروا أرباب بيوت، فتشغلوا بالزواج عن العلم، من قولهم: استاد الرجل ( 19) .
وقال أبو عبيد: (( يقول: تعلموا العلم ما دمتم صغارا قبل أن تصيروا سادة رؤساء منظورا إليهم )) ( 20) .
وبناء على ما تقدم ظهر أن ثمة معاني لهذا اللفظ، وهذه المعاني لها أثر كبير في توجيه النصوص الواردة، فإنزال النصوص على شيء من هذه المعاني يرفع الإشكال، والله أعلم .
الفصل الثاني:
المبحث الأول: إطلاق السيد على الله ـ تعالى
إن اسم (السيد) من أسماء الله ـ جل وعلا ـ الثابتة، ولم يأت لفظه في القرآن الكريم ( 21) ، وهذا الاسم الكريم من الأسماء الدالة على صفات عديدة .
والدليل على أنه من أسماء الله ـ تعالى ـ حديث عبد الله بن الشخير ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حيث قال: (( انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فقلنا: أنت سيدنا، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( السيد الله )) قلنا: فأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان )) ( 22) .
وقد أثبت هذا الاسم جماعة من العلماء منهم: الحافظ ابن مندة ( 23) (310 - 395)، والحليمي ( 24) (338- 403)، وأبو بكر البيهقي ( 25) (384- 458 )، وقوام السنة أبو القاسم إسماعيل التيمي الأصبهاني ( 26) (457- 535) .
وذهب جماعة من العلماء إلى أنه ليس من أسماء الله ـ تعالى ـ ، وذلك لأنهم يرون ضعف الحديث الوارد في هذا الاسم ( 27) ، ولكونه لم يأت في الكتاب ولا في حديث متواتر ( 28) .
قيل للإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ : (( يقولون: السيد هو الله، قال: أين هو في كتاب الله ـ تعالى؟ )) ( 29) .
ولكن المحققين من أهل الحديث قالوا بثبوته، وممن قال به: الحافظ ابن مفلح (ت 763)، والحافظ ابن حجر (ت 852)، والعظيم آبادي وغيرهم ممن تقدم ذكرهم من المثبتين لهذا الاسم الكريم .
ومن ضعفه فإنه لم يذكر سبب تضعيفه، إلا أن يكون قد وقف على طريق ضعيفة، فإن كان كذلك فإن الروايات الثابتة التي ذكرت في تخريج هذا الحديث كافية عن تلك الطريق؛ لأن أسانيدها صحيحة .
أما كونه لم يأت في الكتاب، فإن عدم مجيئه في الكتاب لا يعني أنه ليس اسما، لأن هناك أسماء ثبتت بالسنة وليست في الكتاب .
والمنهج الحق هو عدم التفرقة بين ما ورد به الكتاب وبين ما جاءت به السنة .
أما كونه ليس في حديث متواتر، فإن أحاديث الآحاد متى ما صحت كانت حجة، والتفريق بينها وبين المتواترة في باب الاعتقاد من جراب أهل الكلام المذموم .
فهذا الاسم الكريم ثابت لله ـ تعالى .
المبحث الثاني: معنى هذا الاسم الكريم
إذا أطلق السيد على الله ـ تعالى ـ فهو بمعنى المالك والمولى والرب ( 30) .
قال الحليمي ـ رحمه الله تعالى ـ : (( ومعناه: المحتاج إليه على الإطلاق، فإن سيد الناس إنما هو رأسهم الذي إليه يرجعون، وبأمره يعملون، وعن رأيه يصدرون، ومن قوته يستمدون .
فإذا كانت الملائكة، والإنس والجن خلقا للباريء ـ جل ثناؤه ـ لم يكن بهم غيبة في بدء أمرهم وهو الموجود، إذ لو لم يوجدهم لم يوجدوا، ولا في الإبقاء بعد الإيجاد، ولا في العوارض أثناء البقاء كان حقا لـه ـ جل ثناؤه ـ أن يكون سيدا، وكان حقا عليهم أن يدعوه بهذا الاسم )) ( 31) .
فالسؤدد كله حقيقة لله، والخلق كلهم عبيده، إذ إن الله ـ تعالى ـ هو المالك لعبيده، فنواصيهم بيديه، المتولي أمرهم، القائم على كل نفس بما كسبت، فما من معنى من معاني السيادة إلا ولله ـ تعالى ـ أكمله .
قال ابن الأنباري ـ رحمه الله تعالى ـ : (( والسيد هو الله، إذ كان مالك الخلق أجمعين، ولا مالك لهم سواه )) ( 32) .
وقال الأزهري (ت 370) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( وأما صفة الله ـ جل ذكره بـ (السيد)، فمعناه أنه مالك الخلق، والخلق كلهم عبيده )) ( 33) .
وقال أبو سليمان الخطابي (ت 388) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( قوله: السيد الله، يريد أن السؤدد حقيقة لله ـ عز وجل ـ وأن الخلق كلهم عبيد له )) ( 34) .
وقال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ : (( السيد إذا أطلق عليه ـ تعالى ـ فهو بمعنى المالك والمولى والرب، لا بالمعنى الذي يطلق على المخلوق )) ( 35) .
فهذه بعض معاني السيد في حق الله ـ تعالى ـ إذ إن الإتيان على معاني هذا الاسم كلها مما يكاد يكون من المتعذر .
المبحث الثالث: آثار هذا الاسم
إن لهذا الاسم آثارا عظيمة، وذلك لعظمة هذا الاسم وكثرة معانيه، فمن هذه الآثار:
1- إثبات السيادة لله ـ تعالى ـ من جميع الوجوه .
2- وجوب إفراده ـ جل وعلا ـ بالربوبية، إذ هو رب كل شيء ومليكه، وخالقه ومدبره، وكل شيء راجع إليه، فمن اعتقد أن مع الله ـ تعالى ـ متصرفا في هذا الكون: ملكا مقربا، أو نبيا مرسلا، أو وليا صالحا .
وقد خالف في هذا الأمر كثير من الغلاة، فقد ذكر كثير من المتصوفة عن بعض من يعتقدون فيهم الولاية أن لهم تصرفا في هذا الكون، حيث ذكروا من يسمونه بالقطب، وزعموا أن له تصرفا في الوجود .
يقول محيي الدين بن عربي الصوفي الأندلسي: (( واعلم أن لكل بلد أو إقليم قطبا غير الغوث، به يحفظ الله ـ تعالى ـ تلك الجهة، سواء كان أهلها مؤمنين أو كفارا، وكذلك القول في الزهاد والعباد والمتوكلين وغيرهم، لا بد لكل صنف منهم من قطب يكون مدارهم عليه )) ( 36) .
ويقول التجاني: (( إن حقيقة القطبانية هي الخلافة العظمى عن الحق مطلقا في جميع الوجود جملة وتفصيلا، حيثما كان الرب إلها، كان هو خليفة في تصريف الحكم وتنفيذه في كل من لـه عليه ألوهية لله ـ تعالى ـ فلا يصل إلى الخلق شيء كائنا ما كان من الحق إلا بحكم القطب، ثم قيامه في الوجود بروحانيته في كل ذرة من ذرات الوجود، فترى الكون كله أشباحا لا حركة، وإنما هو الروح القائم فيها جملة وتفصيلا، ثم تصرفه في مراتب الأولياء، فلا تكون مرتبة في الوجود للعارفين والأولياء خارجة عن ذوقه، فهو المتصرف فيها جميعا، والممد لأربابها، به يرحم الوجود، وبه يبقى الوجود في بقاء الوجود رحمة لكل العباد وجوده في الوجود )) ( 37) .
ومن نظر في كثير مما يزعمه المتصوفة كرامات للأولياء يجدها من هذا الجنس ( 38) .
فاعتقاد ذلك مخالف لاعتقاد السيادة لله ـ تبارك تعالى .
3- وجوب إفراده ـ جل وعلا ـ بالعبادة، فإنه إذا كان سيد كل شيء وربه ومليكه وخالقه ورازقه، وكل شيء تحت تصرفه وتقديره، فإنه يمتنع حينئذ أن يعبد غيره، أو يسأل غيره، أو يرجى غيره، أو يتوكل على غيره â لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ( 39) .
فمن صرف شيئا من أنواع العبادة من توكل ودعاء واستغاثة واستعانة وذبح ونذر وحلف وغير ذلك، فقد خالف مقتضى هذه السيادة، وجعل السيادة لغير الله ـ تعالى ـ .
وكثير من الناس في هذا العصر قد صرفوا كثيرا من أنواع العبادة لغير الله ـ تعالى ـ وهم ـ بزعمهم ـ يعتقدون أنهم فعلوا ذلك لهذا الأمر، وحال هؤلاء حال من قال الله - تعالى - فيهم { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 40) ومن أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم بقوله: â أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ( 41) .
فالمشركون الأوائل ما عبدوا غير الله إلا لأجل أنهم يعتقدون أنهم ليسوا أهلا لعبادة الله ـ تعالى ـ من غير واسطة .
4- وجوب إفراده ـ جل وعلا ـ بالأسماء الحسنى والصفات العلى، كما قال ـ تعالى ـ : â لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ( 42) ، وكما قال ـ تعالى ـ : â وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 43) ، وقال ـ تعالى ـ : â اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ( 44) ، وقال ـ تعالى ـ : â وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ( 45) ، وقال ـ تعالى ـ : â رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( 46) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا الأمر .
وعليه، فالمعطلة الذين يعطلون الله ـ تعالى ـ عما ثبت لـه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، ماقالوا بسيادة الله ـ تعالى ـ لأن تعطيله عنها إثبات للنقص، والنقص ينافي السيادة أو كمالها .
والممثلة الذين مثلوا الله ـ تعالى ـ بخلقه، ما أثبتوا السيادة لله ـ تعالى ـ لأن التمثيل بالخلق نقص، إذ الخلق سمته النقص .
5- وجوب جعل شرعه هو الحاكم والسيد على كل أمر، فالحكم لله ـ تعالى ـ وحده، فالأمر أمره، والنهي نهيه، وأما التحاكم إلى غيره، فهو قدح في هذه السيادة .
فمن جعل غير شرع الله حاكما يتحاكم إليه، فقد اتخذ سيدا غير الله، فالذين يجعلون العقول حاكمة على شرع الله ـ تعالى ـ ماقدروا هذه السيادة حق قدرها، والذين يتحاكمون إلى القوانين الوضعية الشيطانية، أعطوا هذه القوانين السيادة، والذين يقدمون آراء الرجال، ويقلدون الآباء والشيوخ والأحبار والرهبان، ما جعلوا الله ـ تعالى ـ سيدا، وإنما جعلوا السيادة للمتبوعين .
قال ـ تعالى ـ مخبرا عن أهل النار: â وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ( 47)
قال ـ تعالى ـ : â اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ .
وقال ـ تعالى ـ : â أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ الله ( 48) .
وقال ـ تعالى ـ : â أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .
إلى غير ذلك من الآثار الجليلة التي دل عليها هذا الاسم .
المبحث الرابع: حكم دعاء الله ـ تعالى ـ بـ\" ياسيدي \"
كره الإمام مالك (ت 179) ـ رحمه الله تعالى ـ الدعاء بهذا اللفظ ( 49) ، وقال: (( إنما في القرآن { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ ، ما في القرآن أحبُّ إلي؛ ودعاءُ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ )) ( 50) .
وكراهة الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ للدعاء بهذا الاسم؛ لكون هذا الاسم مما لم يثبت عنده؛ حيث لم يعده اسما من أسماء الله ـ تعالى ـ .
فالأصل الذي بنى عليه الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ كراهته للدعاء بهذا الاسم، أصل صحيح، وهو أنه لا يدعى الله ـ تعالى ـ إلا بأسمائه الحسنى، وأسماؤه ـ جل وعلا ـ توقيفية، غير أن هذا الاسم ـ على الصحيح من أقوال العلماء ـ ثابت، وعليه فيجوز دعاء الله ـ تعالى ـ به، والله ـ تعالى ـ أعلم .
الفصل الثالث: تعلقه بالمخلوقين
المبحث الأول: حكم إطلاقه على المخلوقين
جاءت نصوص دالة على جواز إطلاق السيد على المخلوقين، وجاءت أحاديث فهم منها بعض العلماء النهي عن ذلك .
وقد تعددت أقوال العلماء في كيفية الجمع بينها، وسأذكر هنا ـ أولا ـ أدلة الجواز، فأدلة المنع، ثم أقوال العلماء في الجمع بينها، والراجح في نظري:
أولا: أدلة الجواز:
1- قوله ـ تعالى ـ : â وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَاب ( 51) .
2- قوله ـ تعالى ـ : â وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ( 52) .
فقد احتج الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ على الجواز بهاتين الآيتين ( 53) .
وقال الجصاص ـ رحمه الله تعالى ـ : (( وقوله تعالى: â وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ } يدل على أن غير الله ـ تعالى ـ يجوز أن يسمى بهذا الاسم؛ لأن الله ـ تعالى ـ سمى يحيى سيدا )) ( 54) .
3- قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( أنا سيد ولد آدم )) ( 55) .
4- قول النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في حق سعد بن معاذ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : (( قوموا لسيدكم )) ( 56) .
5- قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في حق سعد بن عبادة: (( اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور، وأنا أغير منه، والله أغير منى )) ( 57)
6- قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ : (( إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين من المسلمين )) ( 58) .
7- وقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة )) ( 59) .
8- قولـه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين، إلا النبيين والمرسلين )) ( 60) .
9- قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( إذا نصح العبد سيده، وأحسن عبادة ربه،كان لـه أجره مرتين )) ( 61) .
10- قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( المملوك الذي يحسن عبادة ربه، ويؤدي إلى سيده الذي له عليه من الحق والنصيحة والطاعة، له أجران )) ( 62) .
11- قولـه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( نعم ما لأحدهم يحسن عبادة ربه، وينصح لسيده )) ( 63) .
12- قولـه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي )) ( 64) .
13- قولـه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( كلكم راع فمسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته )) ( 65) .
ومن الأدلة ـ أيضا ـ ما جاء عن صحابة رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ومن ذلك :
1- قول عمر لأبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ يوم السقيفة بمشهد من أبي بكر وغيره من المهاجرين والأنصار: (( بل نبايعك أنت، فأنت سيدنا، وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ )) ( 66) ولم ينكر أحد على عمر . ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ .
2- قول عمر ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : (( أبوبكر سيدنا، وأعتق سيدنا )) يعني بلالا ( 67) رَضِيَ اللهُ عَنْهُ .
ثانيا: أدلة المنع:
أولا: حديث عبد الله بن الشخير ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ حيث قال: (( انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فقلنا: أنت سيدنا، فقال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( السيد الله )) قلنا: فأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان )) (68)
ثانيا: حديث أنس ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وهو أن رجلا قال للنبي: ياخيرنا وابن خيرنا، وياسيدنا وابن سيدنا، فقال رسول الله: (( يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستفزنكم الشيطان، أنا عبد الله ورسوله )) (69)
ثالثا: قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن يك سيدا، فقد أسخطتم ربكم )) (70) .
أقوال العلماء في هذه الأدلة:
1- ذهبت طائفة من العلماء إلى القول بمنع إطلاق ذلك على المخلوقين، أخذا بالأدلة الدالة على ذلك، ورأوا أن حديث عبد الله بن الشخير ناسخ لما سواه من الأحاديث؛ لأن هذا الحديث كان عام الوفود في السنة التاسعة من الهجرة .
مناقشة هذا القول:
هذا القول متعقب بأمور:
الأول: أن أحاديث المنع مقابلة بمثلها، وهي الأحاديث الدالة على الجواز .
الثاني: أن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل، ولا دليل يدل على ذلك، وأما كون حديث عبد الله بن الشخير يعد هو الناسخ؛ لكونه عام الوفود، فلربما تكون بعض الأحاديث بعد ذلك .
الثالث: أن حديث النهي عن قول ذلك للمنافق، لا يدل على منع قولها لمن ليس كذلك .
2- النهي عنه في المخاطبات، كقول القائل: ياسيدي، وأما ذكره مع عدم الخطاب فهذا لا ينهى عنه ( 71) .
قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ : (( وقد كان بعض أكابر العلماء يأخذ بهذا، ويكره أن يخاطب أحدا بلفظه أو كتابه بالسيد )) (72) .
وهذا القول ذكره الحافظ ابن حجر عن الإمام مالك بن أنس (73) ـ رحمه الله تعالى .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن (ت 1285): (( وأما استدلالهم بقول النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( قوموا إلى سيدكم )) فالظاهر أن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لم يواجه سعدا به )) (74) .
قالوا: لأن المخاطب ربما يكون في نفسه عجب وغلو، ولما يلحق القائل من الذل والخضوع (75) .
وهذا القول متعقب بالأحاديث التي فيها الأمر بالمخاطبة بهذا اللفظ، كقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( وليقل: سيدي ومولاي )) .
3- حمل النهي على إطلاقه على غير المالك، والإذن بإطلاقه على المالك، وقد اختار هذا القول ابن حجر (76) ـ رحمه الله تعالى .
وحجة هؤلاء هي النصوص الواردة في توجيه المماليك إلى ذلك .
وهذا القول متعقب بالأحاديث التي فيها توجيه هذا القول من غير المماليك، كحديث سعد بن معاذ، وحديث الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وغيرها من الأحاديث .
4- حمل النهي على إطلاقه على المالك، وجواز إطلاقه على غيره، فهو عكس القول السابق .
وحجة هؤلاء أنه إذا أطلق على المالك، فلربما انصرف الـذهن إلـى الله ـ تعالى ( 77) .
وهذا القول متعقب بالأحاديث التي فيها الإذن بذلك للماليك، كقوله: (( وليقل: سيدي ومولاي )) .
قيل للإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ : (( هل كره أحد بالمدينة قوله لسيده: يا سيدي ؟ قال: لا )) ( 78) .
5- حمل النهي عن ذلك على الكراهة التنزيهية على سبيل الأدب، والأدلة الأخرى دالة على الجواز ( 79) .
وهذا القول متعقب بأمرين:
الأول: كثرة الأحاديث الدالة على كثرة الاستعمال، فلو كان الأدب بخلافها، لما كثرت هذه الكثرة، ولما وجه النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ المماليك إلى قول ذلك، بل إنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عدل بالمماليك إلى قول هذا اللفظ عن قول الألفاظ الأخرى المستبشعة في حق المخلوق نحو: (ربي) .
الثاني: قال الشيخ سليمان بن حمدان ـ رحمه الله تعالى ـ : (( قال في إبطال التنديد: وهذان الحديثان دليل على الأدب مع الله ـ عز وجل ـ ، وقوله: (( أنا سيد ولد آدم )) وشبهه دليل على الجواز، فأقول: إذا كان الحديثان دليلا على الأدب مع الله ـ عز وجل ـ فما الذي أجاز سوء الأدب ومخالفة الأحاديث الصحيحة ؟ .
أما الاستدلال على جواز سوء الأدب بقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( أنا سيد ولد آدم ولا فخر )) ، فلا يدل على الجواز؛ لأن هذا إخبار منه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عما فضله الله به على البشر، تحدثا بنعمة الله ـ تعالى ـ عليه، عملا بقولـه: â وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ( 80) . . . )) ( 81)
6- حمل النهي عن اتخاذ ذلك عادة شائعة؛ لأنها ربما أورثت كبرا، وحمل الجواز على استعمال ذلك في النادر ( 82) .
وهذا القول متعقب بتوجيه النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ المماليك إلى قول ذلك، ومعلوم أن كون المماليك يقولون ذلك، يعني أنه سيكون عادة شائعة .
المناقشة والترجيح:
بعد النظر في الأقوال السابقة وأدلة كل فريق ظهر لي جواز إطلاق ذلك على المخلوق بشروط:
أحدها: عدم إرادة أي معنى من معاني الربوبية أو الألوهية، فإذا أريد شيء من ذلك فلا .
ومن ذلك: أن يلمح في هذا اللفظ معنى السيادة العامة على جميع الخلق.
وبه يوجه قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لما خوطب بالسيادة: (( السيد الله )) ، فإنه لما كان التعريف بأل يفيد ذلك، منع من ذلك، ووجههم لما هو أحسن .
وأما إذا لم يلمح ذلك فلا مانع من إطلاقه؛ لإطلاق القرآن ذلك في حق يحيى ـ عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ـ ولإطلاقه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هذا اللفظ على بعض الناس، كما في الأحاديث السابقة .
قال الشيخ حسين (ت1224) وعبد الله (ت 1243) ابنا الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمهم الله تعالى ـ : (( قول: سيدي ونحوه، إن قصد به أن ذلك الرجل معبوده الذي يدعوه عند الشدة لتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فإن ذلك شرك أكبر، وأما إن كان مراده غير ذلك، كما يقول التلميذ لشيخه: سيدي، أو يقال للأمير والشريف، أو لمن كان من أهل بيت رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : هذا سيد، فلا بأس به، ولكن لا يجعل عادة وسنة بحيث لا يتكلم إلا به )) ( 83) .
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (ت 1292) ـ رحمه الله تعالى ـ لما سئل عن حكم إطلاقه على المخلوق: (( هذه الألفاظ تستعملها العرب على معان كسيادة الرئاسة والشرف...فإطلاق هذه الألفاظ على هذا الوجه معروف لا ينكر، وفي السنة من ذلك كثير، وأما إطلاق ذلك في المعاني المحدثة كمن يدعي أن السيد هو الذي يدعى ويعظم... فهذا لا يجوز، بل هو من أقسام الشرك )) ( 84) .
وقال الشيخ محمد بشير السهسواني (ت 1326) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( فالنهي عن إطلاق السيد والمولى على غير الله محمول على السيد والمولى بمعنى الرب، والرخصة محمولة عليهما بمعنى آخر من سائر المعاني )) ( 85) .
ويقول صديق حسن خان (ت1307) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( ولفظ السيد له معنيان:
أحدهما: أن السيد هو الذي يكون مالكا مختارا بنفسه وحده، ولا يكون محكوما عليه من أحد، بل يكون حاكما مستقلا بذاته كشأن الملوك في الدنيا، فهذا الأمر إنما هو شأن الله ـ تعالى ـ ليس غيره سيدا بهذا المعنى .
وثانيهما: أن السيد رعوي لآخر، ولكن له فضل على عامة الرعايا، ممتاز منهم بالمزايا، ينزل إليه حكم الحاكم أولا، ثم يبلغ إليهم من لسانه وبواسطته ... فالنبي بهذا المعنى سيد لأمته، والإمام سيد أهل عصره ...فإن هؤلاء الكبار يتمسكون بحكم الله ـ تعالى ـ أولا بأنفسهم، ثم يبلغونه إلى أصاغرهم ويعلمونهم .
وهكذا نبينا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سيد أهل العالم أجمعهم وأكتعهم وأبصعهم، ومرتبته عند الله ـ عز وجل ـ أعلى من الجميع، وأكبر من الكل، وهو ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أقوم الخلق، وأكبرهم في القيام بأحكام الله ـ تعالى ـ وكل الناس محتاجون إليه في تعلم سبل الله وشرائعه .
وعلى هذا يصح أن يقال لـه: سيد العالم، بل يجب أن يعتقد فيه هذه السيادة العامة الشاملة للجميع
وأما بناء على الأول، فليس هو ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سيد نملة واحدة، فضلا عن غيرها؛ لأنه ـ عليه السلام ـ لا يقدر على التصرف في نملة من تلقاء نفسه )) ( 86) .
ثانيها: كون الموصوف بذلك أهلا للسيادة، أما إذا لم يكن أهلا لها فلا .
ودليل هذا: حديث النهي عن القول للمنافق ياسيد .
قال العلامة النووي (ت 676) ـ رحمه الله تعالى ـ بعد أن ذكر بعض الأحاديث الدالة على الجواز وبعض الأحاديث الدالة على المنع: (( والجمع بين هذه الأحاديث أنه لا بأس بإطلاق: فلان سيد، وياسيدي، وشبه ذلك، إذا كان المسود فاضلا خيرا، إما بعلم، وإما بصلاح، وإما بغير ذلك، وإن كان فاسقا، أو متهما في دينه، أو نحو ذلك، كره أن يقال: سيد )) ( 87) .
وذكر العلامة الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ أن إطلاق ذلك على المخلوق يجوز بشرط (( أن يكون الموجه إليه السيادة أهلا لذلك، أما إذا لم يكن أهلا، كما لو كان فاسقا أو زنديقا فلا يقال له ذلك، حتى ولو فرض أنه أعلا منه مرتبة أو جاها ... فإذا كان أهلا لذلك، وليس هناك محذور، فلا بأس به، وأما إن خشي المحذور، أو كان غير أهل فلا يجوز )) ( 88) .
3- انتفاء المفسدة، فإن كانت المفسدة في الخطاب منع من ذلك، وإن كانت المفسدة في قولها وإن لم يكن موجها له الخطاب كأن يكون بضمير الغيبة منع منه، وإن كان يخشى من المفسدة؛ للغلو أو التدرج فيه، منع من ذلك، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما .
ودليل هذا هو إنكار النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذلك في حديث عبد الله بن الشخير، حيث كان مخاطبا به؛ فإن ذلك العام كان عام وفود، والناس كانوا حديثي عهد بكفر وجاهلية، والغلو فيهم فاش، فلخشيته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من الغلو فيه أو التدرج في ذلك نهاهم عن ذلك .
المبحث الثاني: سيادة النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
المطلب الأول: سيادته في الدنيا والآخرة
لقد جاء في الحديث عن النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أحاديث تدل على سيادته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ومن هذه الأحاديث:
عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: (( أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم، فرفع إليه الذراع ـ وكانت تعجبه ـ فنهس منها نهسة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك ؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب مالا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك لله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا،فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول: إن ربي ـ عز وجل ـ قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي نفسي،اذهبوا إلى غيري،اذهبوا إلى إبراهيم،يأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد صبيا، اشفع لنا، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله قط ولن يغضب بعده مثله ـ ولم يذكر ذنبا ـ نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فيأتون محمدا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجدا لربي ـ عز وجل ـ ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى )) ( 89) .
قال القاضي عياض (ت 544) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( هو سيدهم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في الدنيا والآخرة، لكن خصص القيامة لارتفاع دعوى السؤدد فيها، وتسليم الكل له ذلك، وكون آدم ومن ولد تحت لوائه، كما قال ـ تعالى ـ : â لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار ( 90) أي: انقطعت دعاوى الدعاة في الملك ذلك اليوم، وبقي الملك لله وحده، الذي قهر جميع الجبابرة والمدعين الملك وأفناهم، ثم أعادهم وحشرهم عراة فقراء إليه )) ( 91) .
وقال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ بعد أن ذكر معاني السيادة: (( وقد تحقق كمال تلك المعاني كلها لنبينا محمد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في ذلك المقام الذي يحمده ويغبطه فيه الأولون والآخرون، ويشهد لـه بذلك النبيون والمرسلون، وهذه حكمة عرض الشفاعة على خيار الأنبياء، فكلهم تبرأ منها ودل على غيره، إلى أن بلغت محلها، واستقرت في نصابها )) (92) .
وقال النووي ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وأما قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( يوم القيامة )) مع أنه سيدهم في الدنيا والآخرة، فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد، ولا يبقى منازع ولا معاند ونحوه، بخلاف الدنيا، فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار وزعماء المشركين، وهذا التقييد قريب من معنى قوله ـ تعالى ـ : â لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ مع أن الملك له ـ سبحانه ـ قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعى الملك أو من يضاف اليه مجازا، فانقطع كل ذلك في الآخرة) (93) .
وقال العز بن عبد السلام (ت 660) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( السيد: من اتصف بالصفات العلية والأخلاق السنية، وهذا مشعر بأنه أفضل منهم في الدارين .
أما في الدنيا فلما اتصف به من الأخلاق العظيمة .
وأما في الآخرة، فلأن الجزاء مرتب على الأخلاق والأوصاف، فإذا فضلهم في الدنيا في المناقب والصفات، فضلهم في الآخرة في المراتب والدرجات )) ( 94) .
وقال المناوي (ت 1031) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( قوله: (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة )) خصه لأنه يوم مجموع لـه الناس، فيظهر سؤدده لكل أحد عيانا، ووصف نفسه بالسؤدد المطلق المفيد للعموم في المقام الخطابي على ما تقرر في علم المعاني، فيفيد تفوقه على جميع ولد آدم حتى أولوا العزم من الرسل واحتياجهم إليه ... وتخصيصه ولد آدم ليس للاحتراز، فهو أفضل حتى من خواص الملائكة كما نقل الإمام عليه الإجماع ومراده إجماع من يعتد به من أهل السنة )) ( 95) .
فقد بين النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وجه كونه سيد الناس يوم القيامة، حيث إنه بين أن أفضل الرسل تأخروا عن هذه الرتبة الشريفة والمقام المحمود، الذي هو الشفاعة لأهل الموقف كلهم، حتى بلغت النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
المطلب الثاني:
في بيان أنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لم يخبر بسيادته على وجه الفخر
كونه سيد الناس، وسيد ولد آدم ـ لم يرد بذلك فخرا، حيث نفاه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بقوله: (( ولا فخر )) .
قال الحافظ النووي ـ رحمه الله تعالى ـ : (( قال العلماء: وقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : أنا سيد ولد آدم، لم يقله فخرا، بل صرح بنفي الفخر في الحديث المشهور: (( أنا سيد ولد أدم ولا فخر )) وانما قاله لوجهين:
أحدهما: امتثال قوله تعالى: â وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ( 96) .
والثاني: أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته؛ ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه ويوقروه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بما تقتضي مرتبته كما أمرهم الله ـ تعالى )) ( 97) .
وقال العز بن عبد السلام ـ رحمه الله تعالى ـ : (( وإنما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنا سيد ولد آدم، لتعرف أمته منزلته من ربه ـ عز وجل )) ( 98) .
وقال المناوي ـ رحمه الله تعالى ـ : (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، أي أقول ذلك شكرا لا فخرا، فهو من قبيل قول سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ : â عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْر ( 99) أي لا أقوله تكبرا وتفاخرا وتعاظما على الناس .
وقيل: لا أتكبر به في الدنيا، وإلا ففيه فخر الدارين .
وقيل: لا أفتخر بذلك، بل فخري بمن أعطاني هذه الرتبة .
والفخر: ادعاء العظمة والمباهاة، وهذا قاله للتحدث بالنعمة وإعلاما للأمة ليعتقدوا فضله على جميع الأنبياء )) ( 100) .
المطلب الثالث:
في بيان شمولية سيادته لآدم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وبنيه
إن سيادة النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لبني آدم شاملة لآدم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وبنيه، وما جاء في حديث (( أنا سيد ولد آدم )) لا ينفي كونه سيدا لآدم، يدل على هذا اللفظ الآخر للحديث (( أنا سيد الناس يوم القيامة )) والناس يدخل فيهم آدم عليه السلام .
وقد بين النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بم صار سيدهم، وهو إتيان الناس لآدم فمن بعده من الأنبياء ليشفعوا لهم، فيتأخروا عنها، حتى تكون النوبة لمحمد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فيتولى أمرها، ويقوم بها، ويَشفَع ويُشفَّع .
قال العلامة السندي (ت 1138) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( قالوا في حديث: أنا سيد ولد آدم: إن الاسم يشمل آدم أيضا والله تعالى أعلم )) ( 101) .
وهذا هو الظاهر، ويدل عليه الحديث الآخر، وهو قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( أنا سيد الناس يوم القيامة )) ثم ذكر ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بم صار سيدهم، وهو إتيان الناس آدم فمن بعده من الرسل ممن ذكرهم، وتأخرهم عن الشفاعة، حتى شفع فيهم محمد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ويدل عليه ـ أيضا ـ قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في حديث أبي سعيد الخدري ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ : (( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي )) ( 102) .
المطلب الرابع:
في بيان تحريم إطلاق لفظ (سيد ولد آدم) أو (سيد الناس)
أو (سيد الكل) ونحوها على أحد غير النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
إن مما اختص الله ـ تعالى ـ به نبيه محمدا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وفضله به على سائر الناس: كونه سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ( 103) ، فهذه الميزة لا يشركه فيها أحد، وعليه، فلا يجوز منازعته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في الخصيصة، وذلك بوصف أحد بها.
قال ابن القيم (ت 751) ـ رحمه الله تعالى ـ : (( وكذلك تحريم التسمية بسيد الناس، وسيد الكل، كما يحرم سيد ولد آدم، فإن هذا ليس لأحد إلا لرسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وحده، فهو سيد ولد آدم، فلا يحل لأحد أن يطلق على غيره ذلك )) ( 104) .
وقد ذكر الحافظ السيوطي (ت 911) ـ رحمه الله تعالى ـ أن (السيد) من أسماء النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وبين معناه، فقال: (( وهو الرئيس الذي يتبع وينتهى إلى قوله، وقيل: السيد في الدين، وقيل: الحسن الخلق، وقيل: الذي يطيع ربه، وقيل: الفقيه العالم، وقيل: الذي ساد في العلم والعبادة والورع، وقيل: الحليم، وقيل: التقي، وقيل: الذي لا يغضب، وقيل: الكريم على الله، وقيل: الكبير، وقيل: الذي لا يحسد، وقيل: المطاع، وقيل: الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير، وقيل: القانع بما قسم له، وقيل: الراضي بقضاء الله، وقيل: المتوكل على الله، وقيل: الذي عظمت همته أن يحدث نفسه بدار الدنيا )) ثم قال: (( ونبينا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بالصفات المذكورة كلها )) ( 105) .
وعليه فإنه ـ صلى الله علي وسلم ـ قد حاز معاني السيادة كلها، فليست تجتمع لأحد غيره، فلا يسوغ حينئذ أن يطلق على أحد غيره مثل هذه الألفاظ .
المبحث الثالث: إطلاق لفظ السيدة على المرأة
لقد جاءت نصوص كثيرة صحيحة تدل على جواز إطلاق هذا اللفظ على المرأة، ومن هذه النصوص:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: (( أقبلت فاطمة تمشي، كأن مشيتها مشي النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثا؛ فبكت، فقلت لها: لم تبكين ؟ ثم أسر إليها حديثا؛ فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فسألتها، فقالت: أسر إلي إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أرى إلا حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحاقا بي، فبكيت فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين ؟ فضحكت لذلك )) ( 106) .
وعن أنس ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا خيبر، فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وركب أبو طلحة وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زقاق خيبر وإن ركبتي لتمس فخذ نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فلما دخل القرية قال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالها ثلاثا، قال: وخرج القوم إلى أعمالهم، فقالوا: محمد والخميس يعني الجيش، قال: فأصبناها عنوة، فجمع السبي، فجاء دحية، فقال: يا نبي الله أعطني جارية من السبي، قال: اذهب فخذ جارية، فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير لا تصلح إلا لك، قال: ادعوه بها، فجاء بها، فلما نظر إليها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قال: خذ جارية من السبي غيرها، قال: فأعتقها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتزوجها )) ( 107) .
وعن أبي هريرة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قال قال رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : (( لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقولن المملوك: ربي وربتي، وليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك: سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون، والرب: الله عز وجل )) ( 108) .
فهذه النصوص دالة على جواز إطلاق هذا اللفظ على المرأة، وإطلاق هذا اللفظ على المرأة مقيد بما قيد به إطلاقه على الرجل، فلا يجوز إطلاقه على المنافقة والكافرة والمبتدعة ونحوهنّ، لعموم النهي عن ذلك .
كما أنه لا ينبغي إطلاق مثل (ست الناس) و (ست العرب) و(ست العلماء) و (ست الكل) وما في حكمها، فقد سئل النووي ـ رحمه الله تعالى ـ عمن لـه بنت، فسماها، بأحد هذه الأسماء، فأجاب بأن هذه الألفاظ ألفاظ ليست عربية، بل هي باطلة من حيث اللغة، وأما من حيث الشرع، فمكروهة كراهة شديدة، وينبغي لمن جهل وسمى به أن يغيره ( 109) .
المبحث الرابع: إطلاقه على المنافق والكافر
إن المنافق والكافر ومن في حكمهم قد نهي الله ـ تعالى ـ عن إعزازهم وإكرامهم بعد إذ أذلهم، وأمر ـ جل وعلا ـ بإصغارهم واحتقارهم وإذلالهم .
قال الله ـ تعالى ـ : â وَمَنْ يُهِنِ اللَّ