• ×

قاعدة إلحاق الأصل للفرع في الأنساب (شروطها وموانعها).

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
قاعدة إلحاق
الأصل للفرع في الأنساب
(شروطها وموانعها)

تأليف
أبي هاشم إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإنَّ الطرح النظري لمسائل علم الأنساب لم يحرَّرْ في بعض مسائله تمام التحرير، ولم يستوفِ حقَّه من النقد والتمحيص، ومن جملة تلكم المسائل التي ما زالت متردِّدةً بين الخفاء والتجلي مسألةُ «إلحاق الأصل للفرع» وهي مما صحَّ من حيث الإجمال، لكنَّ التفصيل فيها من حيث الشروط والموانع يحتاج مزيدًا من الإلحاح في البحث وتقليب النظر حتى تنضبط الكلمةُ فيه، ولا يظل نهب الأفهام الكليلة والأهواء الدخيلة؛ وقد تحرَّك شيءٌ من العزم في نفسي على اختزال موجزٍ يتضمَّن نقاوة التحقيق فيها، وعَضَدَ ذلك العزمَ طلبُ تلميذنا النسَّابة الشريف المعتصم بن عبدالله الخيراتي الحسني، فاستعنتُ حينئذ بالله، فجمعت من ذلك ما يليق بمقام الاختصار، وسمَّيتُه: «قاعدة إلحاق الأصل للفرع في الأنساب، شروطها وموانعها».
وأسأله سبحانه وتعالى أن يبارك في الأوقات والأعمار لنزيد المسألة بسطًا وتحريرًا، وقد حان أوان الشروع في المقصود، فأقول وبالله التوفيق:
إنَّ مسألة الإقرار بالنسب والشهادة عليه مقيَّدة بشروط دقيقة، تنافي ما يتوهَّمه البعض من أنَّها مسألةٌ مطلقةٌ غيرُ مقيَّدة، يرُكَنُ فيها إلى عمومِ عنوانِها: «إلحاق الأصل للفرع في الأنساب» فينبعِث بوهمه، يُلحِق ذاك بهذا، ويقطع أسبابَ هذا عن أولئك، وليس الأمر كذلك، بل إنَّ هذه المسألة مقيَّدةٌ بتحقق الشروطِ، ومتوقفةٌ على انتفاء الموانع، وحاصلُ تلكم الشروط والموانع فيما يأتي:
أولًا: أن يكون للأصل الذي سيشهد للفرع أو للفرد شهرةٌ واستفاضةٌ صحيحةٌ في نسبه بأنَّه من الأشراف، أو خُزاعة، أو هذيل، أو تميم، أو جُهينة مثلًا.
ثانيًا: أن يكون في الأصل الذي سيشهد للفرع أو للفرد ثقاتٌ مأمونون وعالِمون بلحوق النسب، وهذا من آكد الشروط وأوجبها، خاصةً في عصرنا هذا الذي كثُر فيه المتساهلون والمنتفعون ماديًّا من تغيير الأنساب، وفَشَا فيه تزوير الوثائق والمشجرات والكتب.
ثالثًا: إذا أجمع الأصل الثابت بالشهرة والاستفاضة الصحيحة-وفيه الثقات المأمونون والعالِمون بلحوق النسب-على إلحاق الفرع أو الفرد؛ ثبت بإجماعهم نسبُ الفرع والفرد.
رابعًا: إذا أجمع الأصل على إلحاق الفرع، وكان الناس والنَّسَّابة مضطربين في صحة نسب الفرع أو الفرد، فيُقدَّم إجماعُ الأصل على قول الناس والنَّسَّابة؛ فأهلُ البيت أدرى بمن فيه، وعلماء النسب في مثل هذه الواقعة يثبتون نسب الفرع أو الفرد في مؤلفاتهم قائلين إنه: "ثبت بشهادة أهله"( ).
وإن كان لهم اعتراضٌ على نسبه فإنهم يثبتون اعتراف قومه في مؤلفاتهم مع بيان اعتراضهم على نسبه، فيقولون: "اعترف به قومه، ولم يثبت"( ).
خامسًا: إذا اعترض الأصل على الفرع، وأُحِيل أمرهم إلى القضاء، وحكم القاضي بعد فحص أدلة الأصل والفرع وشهادة الشهود بإلحاق الفرع بالأصل، فإنَّ هذا الفرع يُلحَق بالأصل؛ لأنَّ حكم القاضي قطعيٌّ، يرفع الخلافَ الواقعَ بين الأصل والفرع، ومن الشواهد على ذلك:
أن النَّسَّابة الحسين بن محمد ابن طباطبا الحسني (ت449هـ) شهد بصحة نسب فرع، اعترض عليه الأصل، وذلك بعد سماعه ما قاله القاضي وشهادة الشهود وما قاله الأصل والفرع.
وقد حكى هذه الحادثة بتفاصيلها النَّسَّابة ابن طباطبا إذ ذكر أنه في سنة 437هـ قدم من جزيرة ابن عمر على الشريف النقيب بالموصل أبي عبدالله الملقب بالتقي عميد الشرف، واسمه: محمد بن الحسين المحمدي، [ومعه]( ) رجل شاب على إحدى خديه خال، مليح الوجه، واضح الجبهة، مكتسي الشعر أسوده، ربع القامة، عامي الألفاظ، فذكر أنه حمزة بن الحسين بن علي بن القاسم بن الحسن بن القاسم بن عبيدالله بن موسى الكاظم، وأظهر كتبًا بصحة دعواه، وشهادة القاضي أبي عبدالرحمن الطالقاني قاضي الجزيرة بإمضاء الشهادات وثبوتها عنده.
فأحضرني النقيب بمجمع من الأشراف، وسألني عن قصة الرجل، فقلت: هذا أمر شرعي حكمي يتعين عليك العمل به، وأكتب أنا ما تفعله، فقال: بل تكتب حتى أمضيه، فكتبت خطًا متأولاً، إذا سئلت عنه أجبت عن صحته من سقمه، فأمضاه الشريف عميد الشرف المحمدي، وعدت إلى النقيب فأطلعته على ما في نفسي، وأنا أبا المنذر النَّسَّابة زعم أن الحسن بن القاسم درج، وأن خطي في تأول، واندرج أمر حمزة بن الحسين على التعليل.
ثم إني قدمت الجزيرة لحاجة، فجاءني الشريف أبو تراب الموسوي الأحول وأخوه في جماعة من العامة نظارة يكبرون دخول حمزة في النسب، وقال دخل في ولد أبي الأدنى، وهذا لا أصبر عليه، فأنفذت إليه، فجاء وسألته عن شهوده، فذكر أنهم يجيئون.
فقمت والجماعة إلى القاضي أبي عبدالرحمن الطالقاني، فاستحضر شخصين عدلهما عندي القاضي، فشهدا بصحة النسب، وأن أباه الحسين بن علي شهد جماعة بصحة نسبه عند قوم علويين نازعوه، فثبت بالشهادة القاطعة، وأن هذا حمزة وأخاه وأخته أولاد الحسين على فراشه ولدوا، وأن رجلاً يقال له شريف بن علي أخو الحسين لأبيه.
فلما رأيت ذلك أمضيت نسبه، وأطلقت خطي بصحته، وكاتبت الشريف النقيب التقي عميد الشرف المحمدي، وصحَّ نسبه غير منازع فيه( ).
وصنيعُ النَّسَّابة ابنِ طباطبا موافقٌ لما حرَّره أئمَّةُ الإسلامِ، واتفقوا عليه مِن أنَّ حُكْمَ الحاكم نافذٌ، يرفع الخلاف، ولا يُنقَض إلَّا إذا خالف الدَّليل القاطع، وإلَّا لاضطربت المصالح، واستبدَّت الأهواءُ بالأحكام، وفُتِحَ للشرِّ بابٌ عظيمٌ، قال العلامة الآمدي (ت631هـ): "اتفقوا على أنَّ حكم الحاكم لا يجوز نقضُه في المسائل الاجتهادية لمصلحة الحكم، فإنَّه لو جاز نقضُ حكمه إما بتغير اجتهاده، أو بحكم حاكم آخر، لأمكن نقضُ الحكم بالنقض، ونقضُ النقضِ إلى غير النهاية، ويلزم من ذلك اضطرابُ الأحكام وعدمُ الوثوقِ بحكم الحاكم، وهو خلافُ المصلحة التي نصب الحاكم لها.
وإنما يمكن نقضُه بأن يكون حكمُه مخالفًا لدليلٍ قاطعٍ من نصٍّ أو إجماع أو قياس جلي، وهو ما كانت العلة فيه منصوصة أو كان قد قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع كما سبق تحقيقه، ولو كان حكمه مخالفًا لدليل ظني من نص أو غيره، فلا ينقض ما حكم به بالظن لتساويهما في الرتبة"( ).
وقال العلامة القرافي(ت684هـ): «اعلم أنَّ حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف ويرجع المخالف عن مذهبه لمذهب الحاكم، وتتغير فتياه بعد الحكم عمَّا كانت عليه على القول الصحيح من مذاهب العلماء»( ).
سادسًا: إذا اعترف بطنٌ من القبيلة بفرعه ولم يجمعوا على إلحاقه، وأنكرت بقية البطون انتساب هذا الفرع إلى ذاك البطن فإنَّ نسب الفرع أو الفرد لا يثبت حينئذ لأمرين:
الأول: عدم إجماع البطن على إلحاقهم.
والثاني: أنَّ أكثر بطون القبيلة لا تُقِرُّ نسبَهم.
بخلاف ما إذا أجمع البطنُ على إلحاق الفرع أو الفرد فإنَّ النسب يثبت حينئذٍ لأنهم أدرى وأعلم بأقاربهم كما تقدَّم في الفقرة الثالثة.
ومن شواهد هذه المسألة ما قاله النسابة علي بن الحسن الحُسيني الشدقمي(ت1033هـ): «عقب علي بن القاسم، دخل فيهم طائفة يقال لهم: النقالا، وأقر البدور بهم زاعمين أنهم أولاد بدر من أمه، وأكثر الأشراف ينكرونهم، وإنما دخلوا طمعًا في الصدقات، فأخرجوا تارة، وأدخلوا أُخرى، وهم يأخذون الصدقات إلى الآن، والله أعلم بحقيقة نسبهم.
قلت: هذا آخر «المستطابة»( )، وما بعده فخاص بـ «الزهرة»( ).
وإقرار البدور بالنقالا على ما بلغني ليس إقرارًا حقيقيًا صادرًا عن التصديق القلبي الجازم، بل ظاهري واقع للاعتزال والتقوي بهم على الأعداء والخصوم، ولذا لم يُعرف أنهم صاهروهم ناكحين ولا منكحين، ولولا ذلك لأمكن قبول إقرارهم لما ذكره العلماء من قبول التصاديق بالنسب.
هذا إذا أجمع البدور كلهم على الإقرار بهم، وإن اختلفوا بطل إقرار المقر بوجود ورثته المشهورين»( ).
سابعًا: هناك حالاتٌ نادرةٌ يفقد فيها الفرع أو الفرد الشهرة بالنسب-لبُعدِها عن الأصل بسبب خلافات أو ثأر وما شابه ذلك-فإذا اعترف لهم الأصل الثابت الذي لا نزاع في شهرته، وفيهم الثقات المأمونون والعالمون بلحوق النسب؛ ثبت نسبُهم.
ثامنًا: إذا اختلف الأصلُ في إلحاق الفرع أو الفرد الذي له شهرةٌ واستفاضةٌ صحيحةٌ بنسبته إلى الأشراف أو تميم مثلًا، ولم يكن يُعلَم من أي بطون الأشراف هم، أو من أي بطون تميم هم؟ فيُنسَب الفرعُ حينئذٍ نسبةً عامة إلى الأشراف أو تميم، ولا يُخصَّصُ نسبُه بأنه من الحُرث الأشراف ولا الوهبة من تميم لعدم وجود الدليل المخصِّص؛ إذ إنَّ ثبوت نسبه إنَّما كان بالدليل العام وهو الشهرة الصحيحة بأنهم من الأشراف أو تميم، وأمَّا الشهرة الخاصة بأنهم من بطونها المذكورة فغير موجودة، فوجب حينئذ الاقتصارُ على النِّسبة العامة؛ لأنَّها القَدْرُ الثَّابت، ويُتوقَّف في النِّسبة الخاصة، وكذا الحالُ في بقيّة القبائل والأسر.
تاسعًا: إذا أنكر الأصلُ الفرعَ أو الفردَ، فلا يثبت نسبهم، وعلماء النسب ينبهون على ذلك في مصنفاتهم بقولهم: «أنكره أهله»( ).
عاشرًا: إذا اختلف الأصل الثابت في إلحاق الفرع أو الفرد، وتكافأت أدلة المختلفين أو كانت ضعيفة فيتساقط الدليلان حينئذ ولا يعتد بشهادة بعض الأصل للفرع.
حادي عشر: إذا كان للفرع شهرةٌ واستفاضةٌ بالنَّسَب الهاشميِّ أو التميميِّ مثلًا، وكَثُرَ ذلك الفرعُ حتَّى صار أصلًا مستقلًّا فلا يصح حينئذ أن يُطالب بإثبات الأصل له؛ لأنه ثابت النسب بالشُّهرة والاستفاضة، وقد أصبح أصلًا مستقلًّا مثل الأشراف آل خيرات بمنطقة جازان، والأشراف الجمامزة في قنا، فلا يقال لمثل هؤلاء الذين أصبحوا شوكةً وعددًا: لا بدَّ من توثيق أنسابكم من الأصلِ أشرافِ مكة والمدينة، إذ إنَّ تكاثرهم يجبر استقلالهم عن الأصل، وقد أشار إلى ذلك الشريفُ المعتصمُ الخيراتي، وأصاب.
وصلَّى الله على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبها:
أبو هاشم إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
13 ربيع آخر 1442هـ
مكة حرسها الله تعالى


بواسطة : إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
 1  0  13432
التعليقات ( 1 )

الترتيب بـ
الأحدث
الأقدم
الملائم
  • #1
    13-04-42 01:43 مساءً إبراهيم القديمي :
    ماشاء الله تبارك الرحمن .. زادك الله علماً شيخنا المبارك ... حقيقة هذه خدمة كبيرة لعلم الأنساب وتأصيل لقواعده.
-->