درس تربوي للآباء مؤثر من حادثة وقعت بين أبي بكر الصديق وابنه.
إذا تعلق ابنك بزوجته، وشغفته بحبها، فلا تسعَ للتفريق بينهما خوفًا من أن يكون أسيراً لحبها شغوفاً بدلها وحنانها وبجمالها الأخاذ، فإن هذا مما جُبلت عليه قلوب البشر، أو لغرض آخر كأن لم يعجبك خُلق فيها مالم يكن لذلك مساس بالدين والقيم، فإن إبعاد المحبوب عن محبوبه فيه من المرارة، ولهيب الفرقة ما لا يستطيع قلب الصب أن يتحمله.
وإليك هذا الشاهد، مما وقفت عليه في كتب التواريخ والأخبار، وفيه من اللطائف العجب العجاب.
تزوج عبد الله بن الخليفة أبي بكر الصديق القرشي -رضي الله عنهما- عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل القرشية، وكانت حسناء جميلةً شاعرةً، ذاتَ خلقٍ بارع، فتعلق قلبه بحبها حبًا شديدًا حتى غلب عليه، وشغلته عن مغازيه، فحين ذلك أمره والده الخليفة الصديق بطلاقها وقال: إنها قد شغلتك عن مغازيك، فأنشأ يقول:
يَقُولُونَ طَلِّقْهَا وَخَيِّمْ مَكَانَهَا ** مُقِيمًا عَلَيْهَا الْهَمَّ أَحْلامَ نَائِمِ
وَإِنَّ فِرَاقِي أَهْلَ بَيْتٍ جَمَعْتُهُمْ ** عَلَى كَبْرَةٍ مِنِّي لإِحْدَى الْعَظَائِمِ
ثم طلقها، ومرت الأيام وفي ذات يوم مرَّ به أبوه فسمعه وهو يبث لوعته، ويعدد محاسنها، وحسنها، وحلاوة منطقها، وأصالة رأيها، ونسبها الأصيل، فكان يقول:
فلَمْ أَرَ مِثْلِي طَلَّقَ الْعَامَ مِثْلَهَا ** وَلا مِثْلَهَا فِي غَيْرِ جُرْمٍ يُطَلَّقُ
لَهَا خُلُقٌ جَزْلٌ وَرَأْيٌ وَمَنْصِبٌ ** وَخَلْقٌ سَوِيٌّ فِي الْحَيَاةِ مُصَدَّقُ
فرَقَّ له وأمره بمراجعتها، ثم كان منه أن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاة فكان أن أصابه سهم كان به حتفه، فكان لذلك الوقع المؤلم على قلب زوجته ومحبوبته عاتكة وتألمت لذلك كثيرًا، وأخذت تبكيه بدموعها الحرى وتقول:
رُزِيتُ بِخَيْرِ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ ** وَبَعْدَ أَبِي بَكْرٍ وَمَا كَانَ قَصَّرَا
وَآلَيْتُ لا تَنْفَكُّ عَيْنِي حَزِينَةً ** عَلَيْكَ وَلا يَنْفَكُّ جِلْدِي أَغْبَرَا
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأى مِثْلَهَ فَتًى ** أَكَرَّ وَأحْمَى في الْهِيَاجِ وَأصْبَرَا
إِذَا شَرَعَتْ فِيهِ الأَسِنَّةُ خَاضَهَا ** إِلَى الْمَوْتِ حَتَّى يَتْرُكَ الرُّمْحَ أَحْمَرَا
ثم تزوج هذه الحسناء بعد ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأولم، وكان فيمن دعا عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: يا أمير المؤمنين دعني أكلم عاتكة، فقال: كلمها يا أبا الحسن، فأخذ علي رضي الله عنه بجانب الخدر- ليذكرها بمرثيتها في زوجه السابق عبدالله بن أبي بكر الصديق-، ثم قال: يا عدية نفسها، تقولين:
وَآلَيْتُ لا تَنْفَكُّ عَيْنِي حَزِينَةً ** عَلَيْكَ وَلا يَنْفَكُّ جِلْدِي أَغْبَرَا
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رَأى مِثْلَهَ فَتًى ** أَكَرَّ وَأحْمَى في الْهِيَاجِ وَأصْبَرَا
فبكت، فقال عمر: ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن؟ كل النساء تفعلن هذا.
ثم قُتل عنها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالت تبكيه:
فَجَّعَنِي فَيْرُوزُ لَا دَرَّ دَرُّهُ ** بِأَبْيَضَ تَالٍ لِلْكِتَابِ نَجِيبِ
رَءُوفٍ عَلَى الْأَدْنَى غَلِيظٍ عَلَى الْعِدَا ** أَخِي ثِقَةٍ فِي النَّائِبَاتِ مُنِيبِ
مَتَى مَا يَقُلْ لَا يُكْذِبِ الْقَوْلَ فِعْلُهُ ** سَرِيعٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ غَيْرِ قَطُوبِ*
قلت: وقد عايشت حادثة مشابهة لها، وهي لشاب تعلق قلبه بزوجته وبحبها، ولخلافات عائلية، طلب والداه أن يطلقها، فطلقها برًا بهما، ثم تألم الابن على فراقها، واصطلى قلبه بلهيب الفراق الموجع حتى كاد أن يتلف، فحن والداه عليه، وأرجعوا إليه زوجه فطاب وصلاً، وقرت عينه بإلفه ومحبوبه.
كتبها:
إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
21 محرم 1442هـ
المصادر:
* «جمهرة نسب قريش وأخبارها» (2/ 593)، «الاستيعاب في معرفة الأصحاب» (4/ 1876)، «المنتظم في تاريخ الملوك» (5/ 191).