من فوائد الروايات الشفاهية في النسب:
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فعلم النَّسب علم قام على الرواية -كما يعلمه الحُذاقٌ وما زال-، وذلك لربط الفروع بالأصول في ظل شهرة واستفاضة الأسرة أو القبيلة الصحيحة بذاك النسب، وليس قبول الرواية فضلاً عن وثيقة النَّسب شيئًا مُحدثًا لا أصل له في علم النَّسب، بل النَّسب قام على الرواية، والأدلة على ذلك كثيرة؛ منها ما قاله الصحابي النَّسَّابة جبير بن مطعم القرشي(ت59هـ): «أخذتُ النسب من أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر أنسب العرب»(1).
وكذا كُتب النَّسب المتقدمة كُلها قامت على الرواية، ومنها كتاب: «حذف(2) من نسب قريش»، لمؤرج بن عمرو بن الحارث السدوسي (ت195هـ)، و«جمهرة النَّسب»، لابن الكلبي هشام بن محمد بن السائب(ت204هـ)، و«نسب قريش»، لمصعب بن عبدالله الزبيري القرشي(ت233هـ)، و«جمهرة نسب قريش وأخبارها»، للزبير بن بكار الزبيري القرشي(ت256هـ)، وغيرها.
وقد نصَّ النَّسَّابة ابن الكلبي هشام(ت204هـ) على أن كتابة النسب قامت على الرواية، فقال: «قال لي أبي: أخذتُ نسب قريش عن أبي صالح، وأخذه أبو صالح عن عقيل بن أبي طالب، وأخذتُ نسب كِندة عن أبي الكناس الكندي، -وكان أعلم الناس- وأخذت نسب معْد بن عدنان عن النخار بن أوس العذري، -وكان أحفظ الناس ممن رأيت وسمعت به-، وأخذتُ نسب إياد عن عدي بن رثاث الإيادي، وكان عالمًا بإياد. قال هشام: وأخذتُ نسب ربيعة عن أبي وعراء خراش بن إسماعيل العجلي»(3).
ثم إن باب قبول رواية عمود النَّسب ووثيقته وإقرارها من العدول مُطَّرد عند علماء الإسلام، وكذا العمل عليه لدى المتقدمين والمتأخرين طالَما لم ينكر عالِم من علماء النَّسب ابنًا في عمود النسب بأنه من ولد فلان، أو نصَّ على أنه منقرض أو ميناث(4) أو عبارات تُفيد أنه لا عقب له، فتُقبل حينئذ رواية عمود النَّسب أو وثيقته في ظل شهرته الصحيحة السالمة من الجرح القادح المفسر تأسيًا بهدي المتقدمين من حُفّاظ الإسلام البارعين في أحوال الرجال وعلم النَّسب(5).
والأمثلة كثيرة على إقرار علماء الإسلام وقبولهم لروايات عمود النسب الشفاهية(6) في ظل شهرة الأسرة أو القبيلة الصحيحة بذاك النسب، ودونك مثالان على ذلك:
الأول: قبول الحافظ المؤرخ الخطيب البغدادي(ت463هـ) رواية نسب المحدِّث علي بن محمد القرشي التي أملاها عليه، وهذا نصه: «علي بن محمد بن أحمد بن سليمان أبو عامر القرشي، أملى عليَّ نسبه، فقال: أنا علي بن محمد بن أحمد بن سليمان بن منصور بن عبد الله بن محمد بن منصور بن موسى بن سعد بن عبد الله بن مالك بن أنس بن عبدة بن جابر بن وهب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب»(7).
المثال الثاني: قبول الحافظ أبي طاهر السِلَفي(ت576هـ) رواية نسب المقرئ أحمد بن الحسن العمري العلوي التي أملاها عليه، وهذا نصه: «أملى علي نسبه، وقال: أنا أحمد بن الحسن بن علي بن إسماعيل بن علي بن الحسن بن أحمد بن عيسى بن جعفر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب»(8).
الشاهد من كتابة هذا المقال: أنني تعبت وأنا أفتش عن جَدِّ الشريفة روضة بنت السَّيِّد عبدالله الأمير التي ورد ذكرها في الصرة الهاميونية المالية المقررة لأعيان مكة وعلمائها وقضاتها وموظفيها في سنة 1327هـ، وذلك بسببين:
الأول: موت جُل كبار الأسرة ونسائها.
الثاني: عدم كتابة أسماء النساء في كتب النسب المتأخرة والمشجرات.
لذلك لم أعرف جدها إلا بعد تعب وسؤال؛ حتى وقفت على رواية حفيدتها(9) التي تُخبر عن أمها: إن الشريفة روضة بنت السَّيِّد عبدالله الأمير هي جدة أمها الشريفة روضة بنت بركات بن عبدالرحمن الهاشمي الأمير، وأن أمَّ أمِّها روضة بنت بركات: هي عنبرة الخُزاعية.
وعنبرة الخُزاعية: أمها الشريفة روضة بنت السَّيِّد عبدالله الأمير، وأن أباها: عبدالله هو أخو جدنا مبارك بن محمد بن عبدالكريم الهاشمي الأمير، فعرفنا بعد جهد أنها من ذوي عبدالله الهواشم الأمراء أقارب أمي -رحمها الله-.
أما الفوائد من هذه الرواية الشفاهية التي صدرنا بها عنوان المقالة؛ فقد تمثلت في التالي:
الفائدة الأولى: أن هذه الراوية عيّنت لنا قرابة والد الشريفة روضة، وهي أن عبدالله الأمير هو أخو جدها مبارك بن محمد بن عبدالكريم الهاشمي الأمير، وبهذا عرفنا اتصال نسبها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
الفائدة الثانية: أن عقب الشريفة روضة بنت السَّيِّد عبدالله الأمير ما زال باقيًا إلى يومنا هذا من جهة النساء.
كتبها:
إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
3 رمضان 1441هـ
مكة حرسها الله
التعليقات:
(1) «تاريخ ابن أبي خيثمة» (2/249)، «سير أعلام النبلاء» (3/97).
(2) حذف: تعني نبذة من نسب قريش، وهو معنى لم تثبته المعاجم، كما قال العلامة الميمني «بحوث وتحقيقات». (1/147).
(3) «الفهرست» (1/2/300).
(4) ميناث ومئناث، يقال: امرأة ميناث، وهي التي تلد الإناث كثيرًا، وهو في حق الرجل: من خلف إناثًا فقط. «النهاية في غريب الحديث» (4/383).
(5) ينظر كتابنا: «أصول وقواعد في كشف مدعي الشرف» (ص47-57).
6) ينظر: «تاريخ مدينة السلام» (12/264) (13/585)، «معجم السفر» (ص384)، «تبيين كذب المفتري» (ص239)، «التكملة لكتاب الصلة» (3/78)، «تكملة الإكمال» (4/118)، «تاريخ إربل» (ص107، 199)، «الدرر الكامنة» (1/352)، وغيرها.
(7) «تاريخ مدينة السلام» (13/585).
(8) «معجم السفر» (ص50).
(9) أفدت هذا رواية عن الشريف عبدالمعين بن غيث بن بركات الهاشمي الأمير، عن الشريفة عزة بنت أحمد بن زيدان بن زيد بن مبارك الهاشمي الأمير.