الجهر بعيوب الحاكم
باللسان، بريد الخروج عليه بالسنان
باللسان، بريد الخروج عليه بالسنان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فالخروج على الحكام-أيًا كان صورته- آفةٌ عظيمةٌ، وبليةٌ جسيمةٌ، مخالفٌ للشريعة الإسلامية ومقاصدها؛ ويقع بسببه من المفاسد والشرور ما يهلك الحرث والنسل، وينشر الفوضى واختلال الأمن؛ بل وضياع للضرورات الخمس: "حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال"؛ التي جاءت كل الشرائع السماوية بحفظها، ورعايتها. وكل الدول تسعى لبسط الأمن، وإشاعته في بلادها؛ لتستقر وتزدهر، وينعم الناس بالأمن والأمان والاستقرار ورغد العيش، وعمارة الأرض بالخير ونفع الإنسانية. والخروج على الحكام من أعظم أسباب فقدان الاستقرار، والإفساد في الأرض، وشيوع الفوضى الخلاقة التي يسودها الفساد والظلم، وضياع الحقوق، وانتهاك للحرمات، والتاريخ القديم، والحديث شاهدٌ على ما نقول.
لقد تتبعت أخبار الخارجين على الحكام عبر خمسة قرون، وجمعتها في مؤلف(1)، وهالني جدًا ما حدث بسببه من سفك لدماء الملايين من المسلمين، وشيوع الفوضى وانتهاك للحرمات، مما تسبب في إضعاف الأمة الإسلامية وهوانها، وخذ مثالاً واحدًا على ذلك: وهو خروج العباسيين ومن والاهم على الخلفية مروان بن محمد الأموي سنة 132هـ وقتله وإبادة قومه الأمويين والأبرياء منهم وتشريدهم(2).
هذا الخروج الذي ذكروا أن من أسبابه الظلم-وهي دعوى كل الخارجين على الولاة، وهو ما اتُّهم به الخليفة الراشد ذو النورين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وقد تسبب هذا الخروج في سفك دماء ستمائة ألف مسلم، قال المؤرخ المدائني (224هـ): «أبو مسلم - الخُرساني أحد رجال الدولة العباسية- قتل في دولته وفي حروبه ست مائة ألف صبرًا»(3).
وفي رواية مليوني مسلم، قال الحافظ الذهبي(ت748هـ): «وجدت بخط رفيقنا ابن جماعة الكناني أنه وجد بخط ابن الصلاح، قال: اجتمع قوم من الأدباء، فأحصوا أن أبا مسلم -أي الخُرساني أحد رجال الدولة العباسية- قتل ألفي ألف»(4).
ووقع أيضًا بسبب هذا الخروج فقدان للأمن، وسبي للرجال والنساء والأطفال الأحرار، وسلبٌ ونهب للممتلكات، قال الحافظ الذهبي(ت748هـ): «فرحنا بمصير الأمر إليهم، ولكن والله ساءنا ما جرى لما جرى من سيول الدماء والسبي والنهب، فإنا لله، وإنا إليه راجعون، فالدولة الظالمة مع الأمن وحقن الدماء، ولا دولة عادلة تنتهك دونها المحارم، وأنى لها العدل»(5).
قلت: «زَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» كما صح عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم(6)، وهؤلاء خرجوا لأجل الاستيلاء على الملك، ولعمري ماذا صنعوا؟ استباحوا دماء مئات الآلاف من المسلمين، وفي رواية مليوني مسلم، فخربوا الديار، وعاثوا فيها فسادًا، بقتل الأنفس المعصومة، وسلب الأموال، واستعباد الأحرار، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومع هذا؛ أتظن أن الأواخر اتعظوا بما وقع الأوائل؟
الجواب: لا، والدليل: ما نعايشه في عصرنا من نفخ بعض المرتزقة والزائغين عن السنة في كير الإنكار العلني على الولاة، والتحريض والتهييج والتأييد، بل والإعداد للخروج على الحكام باسم إقامة العدل ورفع الظلم، وركوب هذه الثورات العربية المعاصرة التي قُتل فيها مئات الآلاف من المسلمين وشُرد الملايين منهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولهذا جاءت الشريعة الربانية بحفظ الضرورات، ومنها: حقن الدماء، وشيوع الأمن، وحفظ الحقوق، ولا يمكن حفظها إلا بسلطان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(ت728هـ): «لا يكاد يُعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان خروجها من إفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته»(7)، وفي موطن آخر قال: «وقل من خرج على إمام ذي سلطان؛ إلا كان ما تولد على فعله من الشر؛ أعظم مما تولد من الخير»(8).
وقد دلت نصوص القرآن الكريم والسُّنة المحكمة على وجوب لزوم الجماعة وطاعة ولاة الأمور في المعروف وتحريم الخروج عليهم وإن جاروا وظلموا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلَا مَنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ، فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»(9).
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(10).
وكذا أقوال العلماء بتحريم الخروج على الحكام وبيان مفاسده مبسوطة في مصنفات المتقدمين والمتأخرين من علماء الشريعة الراسخين، سواء المطول منها أو المختصر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية(ت728هـ): «مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك والبغاة، والصبر على ظلمهم، إلى أن يستريح بر أو يستراح من فاجر»(11).
امتثال الصحابة والعلماء لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدم الخروج على الحاكم:
من المواقف الجليلة التي تدل على امتثال الصحابة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدم الخروج على الحاكم: موقف الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي أخرجه الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنهما- من المدينة، فلزم الهدي النبوي، ولم يخرج عليه، قال الصحابي معاوية بن أبي سفيان-رضي الله عنه-: «لما خرج أبو ذر إلى الربذة؛ لقيه ركب من أهل العراق، فقالوا: يا أبا ذر، قد بلغنا الذي صُنع بك: فاعقد لواء؛ يأتيك رجال ما شئت. قال: مهلاً مهلاً يا أهل الإسلام؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
«سَيَكُونُ بَعْدِي سُلْطَانٌ فأعزوه مَنِ الْتَمَسَ ذُلَّهُ ثَغَرَ ثُغْرَةً فِي الإِسْلامِ وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ حَتَّى يُعِيدَهَا كَمَا كَانَتْ»(12).
وكذا كان كبراء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهون عن سب الأمراء والخروج عليهم ويأمرون الناس بالصبر على هناتهم وعثراتهم حتى يلقوا الله، قال الصحابي أنس بن مالك: «نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ قَالَ: لاَ تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَلاَ تَغِشُّوهُمْ، وَلاَ تَبْغَضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا؛ فَإِنَّ الأَمْرَ قَرِيبٌ»(13).
وهذا الإمام أحمد بن حنبل الشيباني(ت241هـ) حدثوه بأن قومًا هموا بالخروج على الحاكم، فزجرهم وحذرهم من سفك الدماء، قال أبو الحارث الصائغ: سألت أبا عبد الله –أي أحمد بن حنبل- في أمر كان حدث ببغداد، وهمَّ قوم بالخروج فقلت: يا أبا عبد الله، ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟
فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول: سبحان الله! الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة، يُسفك الدماء ويُستباح فيها الأموال وتُنتهك فيها المحارم.
أما علمت ما كان الناس فيه -يعني أيام الفتنة- قال: والناس اليوم، أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟
قال: وإن كان؛ فإنما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف؛ عمت الفتنة وانقطعت السبل، الصبر على هذا، ويسلم لك دينك خير لك، ورأيته ينكر الخروج على الأئمة، وقال الدماء لا أرى ذلك ولا آمر به»(14). رحمك الله -يا أحمد-! ما أبصرك، وأعلمك، وأحكمك! ينظر العالم بنور العلم المستقى من مشكاة النبوة، ويدرك مآلات الأمور وصيرورتها، وما يترتب عليها من فساد وهلاك للحرث والنسل؛ ولهذا لم يوافق على الخروج، بل أنكره وبيّن مفاسده.
أما من احتج بما وقع من أم المؤمنين عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنهم-؛ فقد أجاب عنه مؤرخ الإسلام الحافظ شمس الدين الذهبي (ت748هـ) قائلاً: «لا ريب أن عائشة ندمت ندامة كلية على مسيرها إلى البصرة وحضورها يوم الجمل، وما ظنت أن الأمر يبلغ ما بلغ، فعن عمارة بن عمير، عمن سمع عائشة: إذا قرأت: ﴿وقرن في بيوتكن﴾ بكت حتى تبل خمارها»(15). وفي رواية: «ثم إنها -رضي الله عنها- ندمت»(16)، وفي رواية: «قال قيس، قالت عائشة وكانت تحدث نفسها أن تُدفن في بيتها، فقالت: إني أحدثت بعد رسول الله ﷺ حدثًا؛ ادفنوني مع أزواجه».
قلت- أي الذهبي-: تعني بالحدث: مسيرها يوم الجمل، فإنها ندمت ندامة كلية، وتابت من ذلك: على أنها ما فعلت ذلك إلا متأولة قاصدة للخير، كما اجتهد طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وجماعة من الكبار -رضي الله عن الجميع-»(17).
وكذا ندم الصحابة على قتالهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم- لما رأوا مقتل عشرين ألفًا من الفئتين المقاتلة(18)، قال الحافظ البيهقي(ت458هـ): «وقد روينا في كتاب «فضائل الصحابة» توبة مَن قاتل عليًا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمل»(19) .
حادثة أم المؤمنين عائشة مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنهما -، علق عليها العلامة المحدث الألباني (ت1420هـ) قائلاً: «الخروج لا يجوز، وهذه أدلة على من يحتج بها وليست في صالحه إطلاقًا.
هناك حكمة تُروى عن عيسى –عليه السلام- ولا يُهمنا صحتها بقدر ما يهمنا صحة معناها: «أنه وعظ الحواريين يومًا، فأخبرهم بأن هناك نبيًا يكون خاتمة الأنبياء، وأنه سيكون بين يديه أنبياء كذبة، وقالوا له: فكيف نميز الصادق من الكاذب؟ فأجاب: "من ثمارهم تعرفونهم". فخروج عائشة-رضي الله عنها- نعرف ثمرته من هذا الخروج، فهل ثمرته كانت مرة أم حلوة؟
لا شك أن التاريخ الإسلامي الذي حدثنا بهذا الخروج ينبئ بأنه كان شرًا، إذ سُفكت فيه دماء المسلمين وذهبت هدرًا بدون فائدة، وخاصة فيما يتعلق بخروج السيدة عائشة –رضي الله عنها-؛ فقد ندمت على خروجها، وكانت تبكي بكاءً مرًّا حتى ابتل خمارها، وتمنت أنها لم تكن قد خرجت ذلك الخروج.
الاحتجاج بمثل هذا الخروج، أولاً هذا حجة عليهم؛ لأنه لم يكن منه فائدة.
ثانيًا: لماذا نتمسك بخروج سعيد بن جبير، ولا نتمسك بعدم خروج كبار الصحابة الذين كانوا في عهده كابن عمر وغيره، ثم تتابع علماء السلف كلهم بعدم الخروج على الحاكم؟
إذًا: هناك خروجان، خروج فكري وهذا هو أخطر، وخروج عملي وهذا ثمرة الأول، فلا يجوز مثل هذا الخروج، والأدلة التي ذكرتها آنفًا فهي عليهم وليست لهم»(20).
قلت: والخروج على الحاكم، له صورٌ مختلفةٌ، منه: خروج باللسان، وخروج بالسيف كما قرره علماء الإسلام:
أما الخروج على الحاكم باللسان:
فله صورٌ منها: الإنكار العلني على الحاكم، وذكر عيوبه وسبه، وإيغار صدور الناس عليه، وتزيين الخروج عليه-سواء في المجالس الخاصة أو العامة-، وهذا مخالف لما كان عليه كبار الصحابة القائلين «لاَ تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَاصْبِرُوا»(21). وقد ظلت الأمة على هذا الهدي إلى عهد الخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، حتى ظهر عبد الله بن سبأ(ت نحو40هـ) اليهودي الذي تظاهر بالإسلام؛ لحقن دمه، ولتدبير المكائد للمسلمين، وبث الفتنة بينهم، والتأليب على ولاتهم، فحرّض الناس على الطعن في أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قائلاً لهم: "إذا أردتم أن تستميلوا الناس؛ فابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(22). ثم بعد ذلك خرجوا على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه عليه وقتلوه(23).
فهذا النوع من الخروج على الحاكم هو مذهب السبأية، إذ يحرضون الناس على الولاة، ويسعون لتهييجهم، ويزينون الخروج عليهم. وهو الفكر الثوري الذي تبناه خوارج عصرنا -للأسف-، خادعين الناس باسم الدين؛ وذلك بشعارات وهمية كإقامة العدل ورفع الظلم وإقامة الشرع.
وابن سبأ هذا: وصفه أمير المؤمنين علي بين أبي طالب بأنه "خبيث"(24). وعده الحافظان الذهبي(ت748هـ) وابن حجر العسقلاني(ت852هـ): "من غلاة الزنادقة، ضال مضل"(25)، ونبه الحافظ ابن عساكر(ت571هـ) على أنه أوغر صدور المسلمين على ولاتهم، وهذا نصه: «عبدالله بن سبأ: أصله من أهل اليمن، كان يهوديًا وأظهر الإسلام وطاف بلاد المسلمين؛ ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخِل بينهم الشر»(26).
ويسمي العلماء الخارجين على الحكام باللسان بـالخوارج «القعدية»، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني(ت852هـ): «القعدية: الذين يزينون الخروج على الأئمة، ولا يباشرون ذلك»(27). وما أكثرهم في زماننا هذا -لا كثرّهم الله-.
وتتضح صورة الخروج على الحاكم باللسان في هذا الأثر، قال التابعي عبد الله بن عكيم الجهني(ت88هـ): «لا أعين على دم خليفة(28) أبدًا بعد عثمان.
فقيل له: يا أبا معبد! أو أعنت على دمه؟
قال: إني أعد ذكر مساويه عونًا على دمه»(29).
وكذا جزع سالم بن أبي حفصة(ت131هـ) لما قيل له: أنت قتلت أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بسبب رضاك عن قتله، قال عمرو بن عبيد لسالم بن أبي حفصة:
أنت قتلت عثمان، فجزع.
وقال: أنا!
قال: نعم، لأنك ترضى بقتله»(30).
ولقد تأسى التابعي الإمام محمد بن سيرين(ت110هـ) بهدي كبار الصحابة ولم يعب السلطان بذكر عيوبه، قال رجاء: «كان ابن سيرين لا يجيء إلى السلطان، ولا يعيبهم»(31). سلك الجادة، وما كان عليه السلف الصالح، فسلامة الصدر تجاه الحكام وولاة الأمور وتوقيرهم واحترامهم وجمع الكلمة عليهم هي الجادة والسنة، وهو مذهب السلف الصالح، مع النصح الصادق لهم بالمعروف في السر، والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، ومعاونتهم في الخير، والصبر عليهم.
والناس -كما ذكر العلامة ابن عثيمين (ت1421هـ)- لا يمكن أن يأخذوا سيوفهم يحاربون الإمام بدون شيء يثيرهم، إذ لا بد أن يكون هناك شيء يثيرهم وهو الكلام، فيكون الخروج على الأئمة بالكلام خروجًا حقيقة؛ دلت عليه السُّنة، ودل عليه الواقع.
أما السُّنة فعرفتموها، وأما الواقع فإننا نعلم علم اليقين أن الخروج بالسيف فرع عن الخروج باللسان والقول؛ لأن الناس لن يخرجوا على الإمام لمجرد قول: "يا الله، امش خذ السيف"، إذ لا بد أن يكون هناك توطئة وتمهيد مثل قدح في الأئمة وستر لمحاسنهم، ثم تمتلئ القلوب غيظًا وحقدًا، وحينئذ يحصل البلاء(32).
أما الخروج على الحاكم بالسنان:
هو ممارسة الفعل بنزع يد الطاعة عنهم، ومصاولتهم بكل الطرق كالإعداد لقتالهم، وإنشاء التنظيمات السرية والمعلنة المسلحة، وإنشاء الأحزاب المناوئة، ودعمها بكل صور الدعم، وكذلك بمباشرة قتالهم بالسلاح، وهو نتيجة للخروج اللساني. وهذا الخروج اللعين لا يحتاج إلى دليل وشواهد وأقوال؛ لأن الخروج باللسان هو بريد الخروج بالسيف وسببه، وهو من ثمار رأي الخارجين على الحكام باللسان.
لذا حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجهر بذكر عيوب الحاكم وأمر بنصحه سرًا؛ لمعرفته -صلى الله عليه وسلم- مفاسد الجهر بذكر عيوبه التي تؤدي إلى الخروج عليه فقال: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ فَلَا يُبْدِهِ عَلَانِيَةً، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ»(33).
ومن الأمثلة التطبيقية على تأسي الصحابة -رضي الله عنهم- بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في نصح الحاكم سرًا: أن الصحابي أسامة بن زيد -رضي الله عنه- كان ينصح الخلفية عثمان بن عفان -رضي الله عنه- سرًا، قال شقيق بن سلمة الأسدي: قيل لأسامة بن زيد: أَلَا تَدْخُلُ عَلَى عُثْمَانَ فَتُكَلِّمَهُ؟ فَقَالَ: أَتَرَوْنَ -أي أتظنون- أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ؟ وَاللهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، مَا دُونَ أَنْ أَفْتَتِحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ(34).
وعلق شيخنا العلامة الألباني (ت 1420هـ) على قول الصحابي الجليل أسامة بن زيد: "لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ" قائلاً: «يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ؛ لأن في الإنكار جهارًا ما يخشى عاقبته، كما اتفق في الإنكار على عثمان جهارًا، إذ نشأ عنه قتله»(35).
ما سبب ظلم الحاكم لرعيته؟
قبل الحديث عن سبب ظلم الحاكم، أقول: إن الحاكم إنسان غير معصوم، ونحن مثله نخطئ ونظلم بقصد وغير قصد في فترات ضعف الإيمان، بل الواحد منا قد يظلم أبناءه في العطاء والمحبة بجهل أو غضب، فما بالك بالحاكم الذي يسوس الملايين من رعيته؟! فهو معرض للوقوع في التقصير والخطأ والظلم؛ لأنه ليس معصومًا عن الخطأ، ولقد أخبرنا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- عن كيفية التعامل مع الحاكم الذي يقع منه خير وشر قائلاً: «إِنَّ الْإِمَامَ يُفْسِدُ قَلِيلًا وَيُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُصْلِحُ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُفْسِدُ فَمَا عَمِلَ فِيكُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فَلَهُ الْأَجْرُ وَعَلَيْكُمُ الشُّكْرُ، وَمَا عَمِلَ فِيكُمْ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَعَلَيْهِ الْوِزْرُ وَعَلَيْكُمُ الصَّبْرُ»(36).
لذا اعتبر بعض العلماء أن ظلم الحاكم، هو عقاب من الله على الناس بسبب ظلمهم لبعضهم البعض، وأنه لا يرفع ظلمه إلا الدعاء والتضرع، وإصلاح الرعية لنفسها، لا الخروج عليه، ومناوئته ومصاولته، وقد أشار إلى ذلك التابعي مالك بن دينار (ت95هـ) قائلاً: «إن الحجاج عقوبة سلطه الله عليكم، فلا تستقبلوا عقوبة الله بالسيف، ولكن استقبلوها بالدعاء والتضرع»(37).
وكذا قال التابعي الزاهد الحسن البصري(ت110هـ): «والله ما سُلط الحجاج إلا عقوبة، فلا تعترضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع»(38).
وحكى التابعي أبو الجلد جيلان الأسدي(ت70هـ) أنه: «يُبْعَثُ عَلَى النَّاسِ مُلُوكٌ بِذُنُوبِهِمْ»(39).
وأجمل ما وقفت عليه من كلام علماء الإسلام في سبب ظلم الحاكم وعدله مع رعيته قول العلامة ابن القيم(ت751) بأنه لا بد من: «تأمَّل حكمتَه تعالى في أن جَعَل ملوكَ العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأنَّ أعمالهم ظهرت في صُوَر وُلاتهم وملوكهم، فإن استقاموا؛ استقامت ملوكُهم، وإن عدلوا؛ عدلوا عليهم، وإن جاروا؛ جارت ملوكُهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكرُ والخديعةُ؛ فوُلاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبَخِلوا بها؛ منعت ملوكُهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحقِّ وبَخِلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممَّن يستضعفونه ما لا يستحقُونه في معاملاتهم؛ أخذت منهم الملوكُ ما لا يستحقُّونه وضربوا عليهم المُكوسَ والوظائف، وكلُّ ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجُه الملوكُ منهم بالقوَّة؛ فعُمَّالهم ظهرت في صُوَر أعمالِهم، وليس في الحكمة الإلهيَّة أن يولَّى على الأشرار الفجَّار إلا من يكونُ من جنسهم. ولما كان الصَّدرُ الأوَّلُ خيارَ القرون وأبرَّها كانت ولاتُهم كذلك، فلمَّا شابوا شِيبَت لهم الولاة، فحكمةُ الله تأبى أن يولَّى علينا في هذه الأزمان مثلُ معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلًا عن مثل أبي بكرٍ وعمر، بل ولاتُنا على قَدْرِنا وولاةُ من قبلنا على قَدْرِهم، وكلٌّ من الأمرين مُوجَبُ الحكمة ومقتضاها، ومن له فطنةٌ إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمةَ الإلهيَّة سائرةً في القضاء والقدر، ظاهرةً وباطنةً فيه، كما في الخلق والأمر سواء. فإياك أن تظنَّ بظنك الفاسد أنَّ شيئًا من أقضيته وأقداره عارٍ عن الحكمة البالغة، بل جميعُ أقضيته تعالى وأقداره واقعةٌ على أتمِّ وجوه الحكمة والصَّواب، ولكنَّ العقول الخفَّاشيَّة محجوبةٌ بضعفها عن إدراكها»(40).
كما يحضرني في هذا الصدد، وصية بقية السلف الذين لقيناهم، وأفدنا من علومهم وبصيرتهم وحكمتهم، كشيخنا العلامة مفتي عام المملكة الأسبق عبد العزيز بن باز، والعلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني، والعلامة الفقيه محمد بن صالح بن عثيمين-رحمهم الله جميعًا- بأن المنهج الصحيح في إصلاح المجتمعات يكون بنشر العلم الشرعي بين الناس، وتعليمهم أمور دينهم وما تصح به عبادتهم وما يحتاجونه، وخصوصًا نشر العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص وأحكام العبادات، وتحذيرهم من الشرك والبدع والخرافات والضلالات المحدثة.
هذا هو المنهج الصحيح في إصلاح المجتمعات الذي دل عليه الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، لا الخروج على الحكام، ومناوئتهم، ومصاولتهم، وتهييج الناس ضدهم.
هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبها:
إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
مكة حرسها الله تعالى وبلادنا
23 جمادى الآخرة 1441هـ
الحواشي:
(1) سميته: «أخبار الخارجين على الولاة عبر خمس قرون (دراسة عن الدماء التي سالت من أثر خروجهم، تندم الخارجين، موقف السلف من الخارجين».
(2) «تاريخ الطبري» (7/421)، «تاريخ الإسلام» (8/333، 335).
(3) «وفيات الأعيان» (3/148)، «تاريخ الإسلام» (3/604) واللفظ له.
(4) «تاريخ الإسلام» (5/496).
(5) «سير أعلام النبلاء» (6/58).
(6) «سنن الترمذي» (3/69)، «سنن ابن ماجه» (3/639) واللفظ له، «السنن الكبرى» للنسائي (3/417)، وصححه شيخنا العلامة الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب» (2/629).
(7) «منهاج السنة» (1/391).
(8) «منهاج السنة» (4/527/531).
(9) «صحيح مسلم» برقم (1855).
(10) «صحيح البخاري» برقم (7053)، «صحيح مسلم» برقم (1851).
(11) «مجموع الفتاوى» (4/444).
(12) «السنة» لابن أبي عاصم (2/727)، وقد صحح إسناده شيخنا العلامة الألباني في «ظلال الجنة» (2/513).
(13) «السنة» لابن أبي عاصم (2/693)، وغيره، قال شيخنا العلامة الألباني: «إسناده جيد، ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر» . «ظلال الجنة» (ص474).
(14) «السنة» (1/131-133).
(15) «سير أعلام النبلاء» (2/177).
(16) «تاريخ الإسلام» (2/276).
(17) «سير أعلام النبلاء» (2/193).
(18) «تاريخ خليفة» (ص 186).
(19) «مناقب الشافعي» للبيهقي (1/448).
(20) «جامع تراث العلامة الألباني في المنهج والأحداث الكبرى» (5/318-319).
(21) «السنة» لابن أبي عاصم (2/693)، وغيره، قال شيخنا العلامة الألباني: «إسناده جيد، ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر» . «ظلال الجنة» (ص474).
(22) «تاريخ الطبري»(4/341).
(23) «تاريخ خليفة» ( ص 168، 170،173،174،176).
(24) «لسان الميزان» (4/483).
(25) «ميزان الاعتدال» (2/426)، «لسان الميزان» (4/483).
(26) «تاريخ مدينة دمشق» (29/3).
(27) «هدي الساري مقدمة فتح الباري» (ص459).
(28) وفي «المعرفة والتاريخ» (1/231): «أحد».
(29) «الطبقات الكبير» (8/234-235)، «المعرفة والتاريخ» (1-231/232)، «سير أعلام النبلاء» (3/512). وقد حسن إسناده أبو الحسن السليماني في «التفجيرات والاغتيالات» (ص 163).
(30) «تاريخ الإسلام» (3/660).
(31) «التاريخ و المعرفة» (2/64).
(32) شرح كتاب الشوكاني: «رفع الأساطين في حكم الاتصال بالسلاطين» شريط (2/أ). وانظر «فتاوى العلماء الأكابر» (ص 95-96).
(33) «السنة» لابن أبن عاصم (ص507) وصححه العلامة الألباني رحمه الله تعالى.
(34) «صحيح البخاري» (4/147)، «صحيح مسلم» (2989) واللفظ له.
(35) «مختصر صحيح مسلم» (ص 330).
(36) «الفتن» للداني (2/395).
(37) «تاريخ الإسلام» (2/1067).
(38) «تاريخ الإسلام» (3/30).
(39) «معجم ابن الأعرابي» (3/934).
(40) «مفتاح دار السعادة» (2/721-723).