قبل أربع وعشرين سنة؛
زرت الأستاذ محمد الفتاوي، صاحب الخزانة التراثية النفيسة بمدينة دمنات بالمغرب.
في شهر صفر سنة 1417هـ الموافق لشهر تموز سنة 1996م زرت المغرب؛ للاطلاع على خزائنها المخطوطة في المكتبات العامة والمراكز العلمية، والزوايا. ومن هذه الزيارات: زيارتي لمدينة دمنات؛ حيث يقيم فيها أخي وصديقي البشير بن أبي شعفة محمد النفيشي، والذي تربطني به علاقة حميمة تمتد لأكثر من ست وعشرين سنة، فاستقبلني استقبالًا حارًا، وأكرمني ضيافةً ونزلًا. وفي اليوم التالي أخذ بيدي لزيارة زاوية في منطقة أزود لمطالعة مخطوطاتها.
ولما بلغ الأستاذ محمد الفتاوي (ت1432/2011م) -أحد أعيان مدينة دمنات- اهتمامي بالمخطوطات؛ أرسل إليَّ دعوة لزيارته. ولم أعلم حينها أنه يمتلك خزانة تراثية فيها نوادر النوادر. ولمَّا لبَّيت دعوته وزرته؛ أكرمني بكرم أهل المغرب المعروف والمشهود بتقديم أطيب الطعام وألذه، ثم أدخلني إلى مكتب له وأخبرني بأنه يمتلك مكتبة تراثية خاصة تحوي 300 مخطوط في القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والفقه وعلومه، والسيرة، والتاريخ، والمناقب، والجغرافيا، والفلك، والطب، والرحلات للحرمين، وغيرها. ولديه بعض المخطوطات التي لم يستطع معرفة مؤلفيها، وسألني هل بالإمكان مساعدته في الكشف عن مؤلفيها، فقلت له: بكل سرور.
فقام ودخل غرفة أخرى وأحضر قرابة عشرين مخطوطًا ووضعها بين يديّ، وكان بعضها قد نُزعت الورقات الأولى منها؛ وهذا سبب عدم تعرف الأستاذ الفتاوي على مؤلفيها؛ فعرفتُ بعض مؤلفيها، وسُرَّ بذلك غاية السرور.
ومن تلك المخطوطات التي عرَفت مؤلفيها من خلال أسانيد الكتاب: مخطوطة كتاب: «الشمائل المحمدية» لأبي عيسى الترمذي(ت279هـ)، ومخطوطة كتاب: «العزلة» لحمد بن محمد الخطابي البستي(ت388هـ)، وهما نُسختان قديمتان، ونسيتُ البقية.
ولما كشفتُ له عن هوية أصحاب هذه المؤلفات؛ انبسط -رحمه الله- في الحديث معي، وحدثني عن مكتبته وكيف آلت إليه، ونوادرها، وأن فيها نُسخة فريدة في العالم؛ ألا وهي مخطوطة كتاب: «تفسير غريب الموطأ» للإمام عبدالملك بن حبيب السلمي الأندلسي (ت238هـ)؛ التي نالت جائزة الملك الحسن الثاني عن أنفس المخطوطات بالمغرب، وأنه أوقفها على مكتبة الحرم المكي بمكة(١)، ليستفيد منها العلماء؛ ولأن مكتبة الحرم المكي يرتادها الآلاف من العلماء والباحثين، فيناله أجر كل من قرأها واستفاد منها.
وأخبرني بقصة طريفة وقعت له حينما أوقف الكتاب على مكتبة الحرم: أنه بعدما قابل الشيخ محمد السبيل إمام الحرم ورئيس شؤون الحرمين الشريفين -رحمه الله- أهداه الكتاب وطلب منه أن يجعله وقفًا على المكتبة؛ فرحَّب الشيخ وفرح، وأرسل معه موظف ليسلِّم الكتاب إلى مكتبة الحرم المكي، ولما سلم الكتاب طلب منهم نُسخة مصورة منه، فرفضوا، وتعجب من رفضهم، فرجع إلى الشيخ السبيل وأخبره بما وقع معه، فاستشاط الشيخ السبيل غضبًا من هذا الفعل، ورأسًا اتصل بمدير المكتبة وأمره بتصوير نُسخة من المخطوط وتسليمه للأستاذ الفتاوي في نفس اليوم.
ومن نوادر مكتبة الأستاذ محمد الفتاوي رحمه الله غير «تفسير غريب الموطأ» لابن حبيب:
1- نُسخة عتيقة من كتاب: «خصائص العشرة الكرام البررة» لمحمود بن عمر الزمخشري (ت538هـ)، وقد نشر الكتاب على نُسخة سقيمة.
2- جزء من كتاب: «مشارق الأنوار على صحاح الآثار» للحافظ القاضي عياض اليحصبي السبتي المالكي(ت544هـ) بخط اندلسي عتيق.
3- نُسخة تامة فريدة من كتاب: «شرح شواهد الجمل»، لابن جهور عيسى بن إبراهيم القيسي الأندلسي(ت527هـ)، وهي التي اعتمدها الدكتور حسن عماري في تحقيقه للكتاب لنيل رسالة الدكتوراه في جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس، أما نُسخة مكتبة جامعة القيروان بتونس ففيها اسوداد كبير كما نصَّ شيخنا العلامة إبراهيم أزوغ الفاسي.
4- مخطوط نادر في الجغرافيا لم يكتشف مؤلفه؛ لفقدان الورقة الأولى منه.
5- كتاب في النحو بخط رائع وبالالوان، وحواشيه مرتبة ترتيبًا جميلاً، وفيه دقة، وكما أخبرني شيخنا إبراهيم أزوغ أنه أعطي فيها مبلغ كبير لبيعه، فرفض.
6- كتاب: «القول الجامع في تاريخ دمنات وما وقع فيها من الوقائع»(٢) للحاج أحمد نجيب الدمناتي (1903-1981م)، وقد نبه العلامة المنوني(ت1420هـ) على أنه فريد في بابه.
وللفائدة: مكتبة الأستاذ محمد الفتاوي الدمناتي(ت1432/2011م) قام بفهرستها شيخنا العلامة المحقق إبراهيم أزوغ الفاسي؛ بطلب من الأستاذ الفتاوي حينما قابله في المسجد الحرام، وللأسف لم يحتفظ شيخنا بنُسخة منه.
كتبها:
إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
(1) مازالت مخطوطة كتاب: «تفسير غريب الموطأ» محفوظة في مكتبة الحرم المكي تحت رقم (4612)، وعدد أوراقها (94) ورقة، ثم حقق الكتاب العلامة الدكتور عبدالرحمن العثيمين -رحمه الله-، وطبعه في مكتبة العبيكان بالرياض سنة 1421هـ.
(2) مطبوع، بتحقيق: الدكتور أحمد عمالك، الناشر: المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2012م.