( أحوال المحققين )
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه آجمعين، أما بعد:
فإن الساحة العلمية اليوم تعج بكثرة محققي كُتب التراث الإسلامي، وظاهر الأمر يُبشر بالخير؛ إذ فيه عودة إلى الاقتداء بهدي علماء الإسلام المتقدمين، وخاصة أهل الحديث في دقتهم بضبط النصوص وتحقيقها والعمل بقانونهم في الحِفَاظِ عليها، لكن هؤلاء المحققين على مراتب:
الأول: محقق لا يعرف في التحقيق إلا اسمه، وليس عنده من المكنة والملكة ما يؤهله للتحقيق لا تأصيلًا ولا ممارسة، فتكون مخرجاته عبئًا على تراث الأمة، وأعرف من هذا النمط دكتورًا تحقيقاته حافلة بمئات التصحيفات وتحريف النصوص والمصائب.
الثاني: سارق يشتري جهد المحققين المُحتاجين، أو يُكلف فريق عمل لديه بتحقيق كتاب ما، وليس له أي دور فيه، ثم يضع اسمه على الغلاف أنه بتحقيقه كذبًا، فهذا وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمزوِّر: (المُتَشَبِّعُ بما لم يُعْطَ كلابسِ ثَوْبَيْ زُورٍ)*.
الثالث: محقق يسرق تحقيقات الآخرين وينسخها كما هي، ويغير في الشكل لأجل الأكل.
الرابع: محقق قُوْته من التحقيق، بيد أنه أمين ومتقن، وهذا لا حرج عليه، ورزقه حلال زلال.
الخامس: محقق يكتفي بضبط نص المؤلف بناءً على النُسخة التي اعتمدها، دون الإشارة إلى فروقات نُسخ الكتاب الأخرى، وله في ذلك سلف؛ أن بعض علماء الإسلام والنُساخ المتقدمين نسخوا كتب الأوائل فلم يشيروا إلى فروقات نُسخ الكتاب الأخرى.
السادس: محقق يكتفي بضبط نص المؤلف وبيان فروق النُسخ الخطية بلا تعليق على ما أشكل من أسماء وألفاظ، ولا تخريج للنصوص، ولا تعريف بما يستحق التعريف، وله في ذلك سلف؛ أن بعض علماء الإسلام والنُساخ المتقدمين فعلوا ذلك واكتفوا به حينما نسخوا كتب الأوائل.
السابع: محقق مُتقن، وهو الذي يضبط النص ويبين فروق النُسخ الخطية للكتاب، والتعليق على ما أشكل من أسماء وألفاظ وإسناد، بلا تخريج النصوص ولا تعريف بما يستحق التعريف، وسلفه في ذلك أن علماء الإسلام المتقدمين حينما نسخوا كتب الأوائل ضبطو النص وأثبتوا فروق نُسخ الكتاب، ووضعوا فوق ما أشكل من أسماء وألفاظ وإسناد ضبة (صــ) لتتنبه، وبينوا ما يلزم إلحاقه للمتن من الحاشية، والتقديم والتأخير في الأسماء والألفاظ بوضع علامة فوقها، ... الخ.
الثامن: مُحقق مُحير، يقوم بما قام به صاحب الفقرة السابعة، ولكنه يبالغ في التعليق والتخريج؛ حتى يصبح كلام المؤلف سطرًا أو سطرين، وبقية العشرين سطرًا كلامه وشرحه، وهذا يُحير، فهل فعل هذا؛ ليزداد أجره المالي بزيادة صفحات الكتاب، أو أن قصده إمتاع القارئ!!*
التاسع: محقق مُتقن بارع مُبدع يُشار إليه بالبنان ويُقبَّل رأسه، وهو الذي يقوم بما قام به صاحب الفقرة السابعة، ويتفاني في خدمة النص، ومن الأمثلة على ذلك: إذا وقع سقط أو بياض في نُسخ الكتاب المخطوط، يجبره بتتبع من ينقل عن هذا المؤلف، فإذا وقف على هذه الألفاظ التي توافق سياق وسباق مكان السقط أو البياض يدرجه في المتن ما بين معقوفتين [ ] مع الإشارة إلى المصدر، ولا يفعل هذا العمل الشاق إلا المُحب للتراث والذي يريد كماله.
ويزيد على ذلك بتخريج النصوص والتعليق عليها، وصناعة فهارس للكتاب تشرح الصدر، وهذا -لعمري- عزيز ، عزيز.
العاشر: وهو ما يُعرف بمكاتب التحقيق المكونة من فريق عمل يباشر التحقيق نسخًا ومقابلة مع مشرف عام تُدفَع إليه الأعمال، فيراجع ويعدل ويضيف ويحشي، ثم تطبع الأعمال باسمه، وهذا لا حرج عليه؛ إذا قام بما يلزمه من الأمور المشار إليها تبرئة لذمته*.
هذا ما استحضرته من أحوالهم في السفر، ولعل الحُذاق من القراء يستدركون علينا آخرين.
أما القراء الذين لا يعرفون المحققين المتقنين؛ فعليهم بسؤال أهل العلم العارفين بطبعات الكتب ومحاسنها؛ لئلا يقعوا في تحقيقات تُهدَر فيها أموالهم، ويكرهون مطالعتها لسوء تصرف محققي الكتب.
كتبها:
إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
الخميس ١٤ ربيع أول ١٤٤٠هـ
*نبهنا على الثاني الأخ الفاضل أحمد جمال، والثامن: الشيخ جمال الهجرسي، والعاشر: الدكتور عديل آل عاصم أحسن الله إليهم.