الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي (إمام النسب) ورأيه في قاعدة (عمود النسب شرط كمال لا شرط صحة في ثبوت النسب).
الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإنّ كلّ من ترجم للإمام مؤرخ الإسلام الحافظ الناقد البارع شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي التركماني الأصل الدمشقي (٦٧٣-٧٤٨هـ) لم يصفه أو يشر إلى إمامته في علم النسب أو وصفه بالنسابة -للأسف -. ولعل السبب يكمن في كون هذا الجانب لم يكن محط اهتمامه. أو لأن النسب ليس غالبًا على الذهبي، وإنما الغالب عليه الإمامة في الحديث وعلومه والتاريخ.
والذي دفعني لجمع أقوال هذا الإمام وتطبيقاته في علم النسب أمران:
أولهما: أن جُل - إن لم يكن كل - الدراسات لم تلق الضوء على هذا الجانب الرائع في شخصيته؛ لذلك شرعت في تأليف رسالة في بيان إمامته في النسب، وتميّزه فيه بين أهل الحديث.
ثانيًا: أنني استطعت من أقواله وتطبيقاته - والحمدلله - تحرير بعض القواعد والأصول في النسب؛ لأنه لم تُفرد أصول وقواعد علم النسب عبر التاريخ في مؤلف كأصول وقواعد علم الحديث والفقه والتفسير.
وكما لا يخفى على أهل العلم أن قواعد أهل الحديث من أدق واتقن القواعد لضبط العلوم على الاطلاق، لذلك اقتديت بهم، لا سيما أن بين علم الحديث وبين علم النسب قواسم مشتركة.
ومن الأمثلة على إمامة الإمام الذهبي في النسب - والأمثلة على ذلك كثيرة ذكرت جملة منها في كتبي - أنني أشعت قبل عشر سنين أو أكثر قاعدة في حق صحيح النسب؛ بأن (عمود النسب شرط كمال لا شرط صحة في ثبوت النسب)، وسقت الأدلة والشواهد على ذلك، ونبهت على أن علماء الأمة الأسلامية كافة لم يشترطوا عمود النسب لإثبات النسب إنما اشترطوا لإثباته: الشهرة والاستفاضة الصحيحة، وقد أفردنا في ذلك رسالة باسم: (الإفاضة بأدلة ثبوت النسب ونفيه بالشهرة والاستفاضة) بسطنا الحديث عن هذه القاعدة شروطها وقيودها، والجرح الذي يبطلها.
ثمّ وقفت بعد إشاعتنا قاعدة (عمود النسب شرط كمال لا شرط صحة في ثبوت النسب) بسنوات على شواهد كثيرة من كلام الإمام الذهبي تؤكد هذه القاعدة وتقَبِّلها، منها: أن الحافظ الدمياطي ساق عمود نسب شيخه القاضي يحيى بن محمد القرشي الدمشقي (ت٦٦٨هـ) إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان القرشي -رضي الله عنه-، فأنكر الإمام الذهبي عمود النسب وأبطله، ولم يبطل نسب القاضي يحيى القرشي، بل أقره وذكر أدلة على قرشيته، وهذا نصه: (يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن الوليد بن القاسم بن الوليد، قاضي القضاة، القرشي، روى عنه الدمياطي في «معجمه» وساق نسبه إلى عثمان رضي الله عنه، ولا أعلم لذلك صحة، فإني رأيت الحافظ ابن عساكر قد ذكر جده لأمه القاضي أبا المفضل يحيى بن علي المذكور وذكر ابنه المنتجب وغيرهما ولم يتجاوز في نسبه القاسم بن الوليد؛ وقال في جده: القرشي قاضي دمشق. ولم يقل لا الأموي ولا العثماني.
فإن المعروف من ذلك أن المتقدمين يحفظون أنسابهم ويرفعونها، فإذا طالت السنون والأحقاب على الأعقاب نُسيت وأهملت واجتزئ بالنسبة إلى القبيلة، فقيل: القرشي والقيسي والهمداني. وأما بالعكس فلا). (تاريخ الإسلام) ١٥:١٦٠.
قلت: وفي كتب الإمام الذهبي شواهد كثيرة على قاعدة أن (عمود النسب شرط كمال لا شرط صحة في ثبوت النسب)، ذكرت جملة منها في رسالتنا الآنفة الذكر.
ويحسن التنبيه على أن هذه القاعدة ليست مطردة، فقد يكون عمود النسب دليلاً على بطلان ادعاء دعي النسب، ومن الأمثلة على ذلك أن الإمام الذهبي أبطل دعوى انتساب العلامة ابن دحية عمر بن حسن الأندلسي (ت٦٣٣هـ) إلى الصحابي دحية بن خليفة الكلبي - رضي الله عنه - من عدة أوجه؛ منها عمود نسبه، وهذا نصه: (عمر بن حسن، نسبه باطل لوجوه: أن دحية لم يعقب، أن على أسماء [عمود نسبه] لوائح البربرية، بتقدير [عمود نسبه] فقد سقط منه آباء فلا يمكن أن يكون بينه وبينه عشرة أنفس). (ميزان الاعتدال) ٣:١٨٦.
وفي الختام أقول: لا بد لطالب علم النسب أن يهتدي بهدي أهل الحديث البارزين في علم النسب؛ ليأمن الزلل والخطأ -بإذن الله -، لأن قواعد علم النسب وأصوله - كما أسلفنا - لم تحرر.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.
كتبها:
إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
٩ شوال ١٤٣٨هـ