البلادي ...مهاجرا من خليص إلى مكة المكرمة عام ١٣٦٤هـ، وينقل لنا بعض الصور الاجتماعية في وادي فاطمة ، ووادي سرف(النوارية ) ،ومكة المكرمة في تلك الفترة
يقول البلادي في مذكراته:
((كان والدي كبير القوم , وكان له مجلس كل ليلة يجتمع فيه قومه , كان يشبه ندوة أدبية .
وكان قد حارب في الثورة العربية ضد الترك , وكان يتنقل وقومه فيما بين محافظة خليص
وحدود الحرم المكي الشمالية , وإلى وادي الفرع شمالاً.
نشأت في البادية في طفولة تختلف – آنذاك- كثيراً عن طفولة الحاضرة .
رعيت
البهم والغنم والإبل , وركبت البعير والحمار ! ورقيت النخلة, مشيت على
قدمي ( وأنا في الخامسة ) نحو أربعمائة كيل , قارعت الذئاب ,ومشيت بمفردي
نحو (120) كيلاً ليلاً ونهاراً.
وفي الثانية عشر من عمري توفي والدي , فنزلت مكة المكرمة مع أخي الأكبر مني , وكان ذلك سنة 1364هـ .
كانت في رحلتنا إلى سيدة المدائن مواقف طريفة ! وإن كانت لا ترقى إلى المستوى الأدبي إلا أنها في ذلك الزمن لغلامين يتيمين تلفت النظر !
.
ففي اليوم الثالث وصلنا إلى محطة الجموم من وادي فاطمة (صارت اليوم
مدينة ) فرأينا تجمعات كثيفة , ولكن ما كان في شئ يعيقنا عن هدفنا .قبل
دخولنا في تلك المعمعة اعترضنا رجل من عينة تعرفها الناس اليوم , قال :
(تبون تكتبون ؟) قال أخي : ويش نكتب ؟! , قال : الحكومة أخرجت صدقة للناس ,
خبز.
الحقيقة كانت الناس في مجاعة قاسية .
قال أخي : ( طيب ) . فكتب لنا اسمينا في ورقة وذهب بنا , وقال : خلوكم بعيد هذا الشاووش يضرب ! فتقدم
إلى ذلك الشاووش بالورقة في يده , ورفع يديه فوق رأسه ثم وضعهما على صدره في تذلل ظاهر , فظهرت
من الشاووش المسالمة فمد يده وأخذ الورقة , وناولها شخصاً آخر جاء لنا بأربعة أرغفة .
فخرجنا , قال الرجل : ( تبون منزل ؟ ) قال أخي : ( لا حنا رايحين لمكة ) قال : أجل أشتري منكم هذه الورقة ؟
قال أخي : ( بكم ) قال : ( بأربعة ريال ! ) قال أخي : ( طيب )
فأخرج الرجل من حسكله كيساً فيه ريالات فضية ( لم يكن النقد الورقي معروفاً ) فعد لأخي أربعة ريالات .
ثم أخرج مرسمة خشبية وبلها بريقه , وغطها في قالب من النيلة , و
وضع صفراً قدام رقم (2) ! فصار (20) ! قلت لأخي : ( أنظر كيف سوى الثنين
عشرين)!
قال : ( مالنا شغل ) , قال المحتال: ( هذا فعل الشطار)! (( للفساد جذوره التاريخية !!))
غابت الشمس مع وصولنا إلى أم المؤمنين رضي الله عنها , وما أدراك ما أم المؤمنين ؟!
إنه ضريح السيدة ميمونة بنت الحارث , إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كان هناك تجمع ولكن ليس كالذي قبله , فهنا تجمع تجاري , فهذا مقهى , وهذه بسطة , وآخر
يدف عربية فيها بضاعة .....
لا أذكر ما عملنا ؟! إلاّ أنّا - من شدة تعبنا - انحزنا إلى سند الجبل , وبحثنا لنا مكاناً لننام فيه , واستغرقنا فيه ....
استغرقنا في نومنا , وما راعني إلاّ صوت أخي عطية الله , فنهضت واقفاً ’ فإذا بشخص مقف ,
فأوطأت إلى حجر فقذفته به , فسمعته يقول : ( آه) ! فسألت أخي , فقال : الحرامي
يبي ياخذ الحسكل !.
كان الناس آنذاك كل يحتزم بحزام في وسطه , وكل إنسان يحمل سكيناً في ذلك الحزام ,
فكان بإمكان هذا الحرامي أن يستل أية سكين ويقطع بها عصم الحسكل , فلا يشعر به أحد .
ولكن يبدو أنه أراد الحسكل سالماً.
وفي الصباح رأينا نقط دم على أثر ذلك الحرامي , يظهر من ذلك أن الحجر أصاب رأسه!!
حثثنا خطانا نحو مكة المكرمة , وضحاء كنا على مشارفها , وقد قابلتنا غابة من العشش
والصنادق , في تكون عشوائي أحدثه المتوطنون بسبب تلك المجاعة التي عمّت العالم آنذاك .
وكما رأينا ذلك الرجل في الجموم رأينا رجلاً استقبلنا باشاً فقال : من أين يا عيال ؟! قلنا من ديرتنا !
نظن أن ديرتنا معروفة للجميع .
كان هذ ا المكان بسفح ريع الكحل من الغرب , وبالضبط قام مكانه الآن جسر الزاهر.
قال الرجل : ( تبون منزل ) ؟ قال أخي : نعم , قال : هذي العشة ! قال أخي : بكم؟ قال الرجل : بريالين الشهر ,
قال أخي : طيب .
دخلنا تلك العشة التي كانت الشمس تطل علينا من خللها , ونمنا ما لم ننم من قبل .
لم يكن لتلك العشة باب , ولا حوش , فاستيقظنا على صوت صاحبنا
يقول : صليتوا ياعيال ؟ فقفز أخي - وكان رحمه الله متديناً- وهو يقول :على
النبي ... على النبي .
فسألنا الرجل , قال : الناس صلوا العصر . فرأيت الندم ظاهراً على وجه أخي ،فصلينا , وخرجنا فوجدنا الرجل واقفاً أما العشة .
قال : تبنون عشاش ؟ قال أخي : ( إيوه ) ! قال : تبنون مثل هذا بريالين .
قال أخي : طيب .
أخذ أخي يقيس الأرض بخطواته , ووضع حدوداً لموضع البناء للبدء في العمل .
قال ذلك الرجل : أنتم ممن ؟!
نحن بلادية ! , قال : من بلادية الشام أو اليمن ؟ من بلادية اليمن !( العرب من قديمها تسمي الشمال شاماً والجنوب يمناً ) .
قال
الرجل : لكم رفيق هنا , اسمه زيد بن زيدان البلادي ، فإذا هو ابن خالتنا ,))
وإلى هنا نتوقف مع البلادي ، ونستكمل في المنشور التالي قصة البلادي مع أم زياد، ومرحلة دراستة في مكة المكرمة .
كتبها ونقلها/ مهدي نفاع بن مسلم القرشي- قرية مهايع:١٤٣٨/٥/٢٢هـ