سجون بغداد !!!
(الحلقة الأولى)
(الحلقة الأولى)
تمهيد
ما نحسب أن أحداً من المتقدمين أو المحدثين، بحث في السجون على التفصيل. فهذا مبحث بكر طريف؛ سنحاول فيه أن نقدم إليك صورة واضحة تبين لك سبب السجن، وتريك أنواع السجون وضروب السجنى، ثم تطوف عليهم، فنرى ما يأكلون وما يلبسون؛ وكيف يفرون ومتى يخرجون. فإذا فرغنا عقدنا فصلاً خاصاً بأدب السجون، فأسمعناك طرفاً من الشعر المشرق الذي قيل في السجن المظلم. ثم استدركنا ما فاتنا من الحوادث والأخبار المتعلق بهذا الموضوع.
أسباب السجن
يتساءل الإنسان عند البحث في هذا الموضوع، عن الأسباب التي كان الناس يساقون بها إلى السجن. أفكانوا ينهجون نهجاً أو يتبعون شريعة إذا خرج عنها واحد، عوقب بالسجن؟ الحق أنه لم يكن شيء من هذا فقد كان يكفي أن يقول الخليفة أو الأمير أو صاحب الشرطة (الحبس) حتى يودعوا من لفظت بسببه المطبق. فقد كان الحبس سلاحا في يد الخلفاء والوزراء، وقوة يكيدون بها للمتمردين والعاصين والأعداء، ويهددون مخالفيهم فيما يشتهون ويحبون.
على أننا إذا استقرينا النصوص والأخبار، نجد أسباب السجن تتلخص فيما يلي:
(ا) الوزارة سبيل السجن:
ومن العجب أن نرى أن الوزارة كانت سبيلاً يوصل إلى السجن في غالب الأحيان. وندر من نجا من الوزراء، ولم يسجن. وربما قتل ولم يحبس، وربما أصابه الأمران معاً. فقد سجن يعقوب بن داوود وزير المهدي، وجعفر بن يحي وزير الرشيد، ويحي بن خالد وابنه الفضل، وسجن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم والواثق بعد أن صودرت أمواله، ونُهِبت دوره، وضُمَّت إلى القواد ضياعه. وسُجن ابن الخصيب وزير المستعين ونكب. كما حُبس أبو الصقر وزير المعتمد، وقُتل. ولم ينج محمد بن عبيد الله من السجن، فقد عزله المقتدر من الوزارة وحبسه مع ابنه.
وسبب ذلك أن الخليفة كان يستمع إلى أقوال المنافسين، ويصغي إلى مقالة الحاسدين، فيأمر بعزل وزيره وسجنه. فإذا لم يسجن، جاء خَلَفَه فسجنه انتقاماً منه، وخشية أن يشغب فيبعده عن السلطان.
(ب) مناوئو الخلافة:
أما مناوئو الخلافة، والشاغبون عليها، فكان مثواهم السجن. فقد سجن عبد الملك بن صالح وقد سعي به عند الرشيد بطلب الخلافة؛ وسجن العباس بن المأمون عندما دعا إلى نفسه، فمات في الحبس. وحُبس الإفشين لما شقَّ عصا الطاعة على الخلافة، ولم يجدوا بدًّا من اتهامه بالزندقة ليقتلوه.
(ج) الديون والمصادرات:
وكانت الديون والمصادرات تودي بصاحبها إلى السجن. وكثار من (قال أبو معاوية البيروتي: هكذا الأصل) صودرت أموالهم وأودعوا السجون، ثم أتى بهم فنوقشوا الحساب، وطلب منهم رد الأموال. حدث سليمان ابن وهب قال: (كنت أنا والعباس بن الخصيب، مع خلق من العمال والكتّاب معتقلين في يدي محمد (بن) عبد الملك في آخر وزارته للواثق، نطالب ببقايا مصادرات، فقُبض عليّ وأُودعت الحبس. فسمعت ليلة صوت الأقفال تُفتَح فلم أشك في أنه القتل وفتحت الأبواب. . . وحملني الفراشون لثقل حديدي وحملت إلى اسحق بن إبراهيم، وكان صاحب الشرطة، فإذا فيه صاحب ديوان الخوارج، وصاحب ديوان الضياع، وصاحب الزمام، وبعض الكتّاب. فطُرِحت في آخر المجلس. فشتمني اسحق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: (يا فاعل ويا صانع تعرضني الاستبطاء أمير المؤمنين؟ أين الأموال التي جمعتها وحبست بسببها؟ فاحتججت بنكبة ابن الزيات. فقال لي صاحب ديوان الضياع: أخذت من الناس أضعاف ما أديت، وعادت يدك إلى كتبه إيتاخ فأخذت ضياع السلطان واقطعتها لنفسك وحزتها سرقة إليك، وأنت تستغلها ألفي ألف درهم، وتتزيّا بزي الوزراء).
وقد ذكر التنوخي كثيراً من أحاديث هؤلاء المسجونين الديون ومصادرات فليرجع إليه.
(د) الزندقة، الشعوبية، القرامطة، الملاحدة، الرافضة:
وكان الزنادقة يقتلون طوراً ويسجنون طوراً. وربما اتخذوا الزندقة سبيلاً للقتل أو السجن. وكان الزنادقة يودعون سجناً خاصاً في المطبق. ذكر أبو نواس قال: كنت أتوهم جماد عجرد إنما يُرمَى بالزندقة لمجونه في شعره، حتى حُبِست في حبس الزنادقة فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين يقرئون به في صلاتهم.
وقد سُجِن أبو نواس متَّهماً بالزندقة؛ وكان قد عَرَّض بالأمين (صاحب التاج) واعتقد أن تعريضه هو سبب سجنه، وأنهم جعلوا الزندقة سبباً. فقد قال:
وقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
فلو لم أنل فخراً لكانت صيانتي ... فمي عن جميع الناس حسبي من فخر
فلا يطمعن في ذاك مني طامع ... ولا صاحب التاج المحجب بالقصر
فقال له الأمين وقد أتى به: (أبَلَغ بك الأمر إلى أن تعرض فيّ في شعرك يا ابن الخنساء. . .؟) ثم اتَّخذوا عليه حجَّة أنه زنديق؛ فقد شرب ماء المطر مع الخمر، وقال: ها أنذا أشرب الملائكة، فان مع كل قطرة ملكاً. . .).
ومن الطريف أن نتابع القصة: فقد ذكروا أن خال الفضل ابن الربيع كان يتعهد المحبوسين ويسأل عنهم. وكانت فيه غفلة. فدخل على أبي نواس فقال: ما جرمك حتى حبست في حبس الزنادقة؟ أزنديق أنت؟ فقال: معاذ الله! قال أتعبد الكبش؟ قال: ولكني آكله بصوفه! قال: أفتعبد الشمس؟ قال: والله ما أجلس فيها فكيف أعبدها؟ قال: أفتعبد الديك؟ قال: لا والله، بل آكله. . . ولقد ذبحت ألف ديك لأن ديكا نقرني مرة، فحلفت ألا أجد ديكاً إلا ذبحته. قال: فلأي شيء حُبست؟ قال: لأني أشرب شراب أهل الجنة، وأنام خلف الناس. فقال: وأنا أيضاً أفعل ذلك. فخرج خال الفضل إلى الفضل وقال له: ما تحسنون جوار الله! تحبسون من لا ذنب له؟ سألت رجلاً في الحبس عن خبره، فقال كذا وكذا، وعرَّفه بما جرى بينهما، فضحك ودخل على الأمين فأخبره الخبر، فأمر بتخليته.
وكان الشعوبيون يُسجَنون لتهجّمهم على العرب، وقد سجن الرشيد أبا نواس لقصيدةٍ هَجا العرب بها.
وحُبِس فيما بعد، محمد بن هارون الوراق الملحد، ومات في السجن، وطلب ابن الراوندي الملحد لسجنه ففر.
وسجن المقتدر رجالاً كثار من الدعاة إلى القرامطة والذاهبين مذهبهم، وسجن جماعة من الرافضة، كانوا يجتمعون في مسجد لسبِّ الصحابة والخروج عن الطاعة.
(هـ) مخالفة رأي الخليفة، ادعاء النبوة:
وكان مُخالِف رأي الخليفة أو الوزير معرَّضاً للسجن. وقد سُجِن ألوف وقُتِل ألوف في محنة خلق القرآن. وكان أحمد بن حنبل، الذي لم يقل بخلق القرآن، أحد من سُجنوا.
وكان المتنبِّئون يُسجنون إنْ لم يُقتلوا. وقد كثر التنبؤ في عصر بني العباس وكان لأصحابه مع الخلفاء نوادر وأحاديث.
(و) المجون، الفسق، الشراب:
وكان المستهترون والفسّاق يُسجنون حتى ينالهم العفو. وذكر ابن المعتز أن إسحق بن إبراهيم لما بلغه ما فيه أبو العبر من الخلاعة والمجانة أمر بحبسه. فكتب إليه أبو العبر رقعة يذكر أنه تائب، ويسأله أن يخرجه من الحبس حتى يعلمه رقية العقرب، فأحضره وقال: هات علِّمنا. فقال: إذا رأيت العقرب فتناول النعل واضربها ضربة شديدة فإنها لا تعود تتحرك. . .
فضحك وقال: والله إنه لا يفلح أبداً.
وأمر المهدي إبراهيم الموصلي ألّا يشرب ولا يتبذّل ولا يغني، فغنَّى إبراهيم عند إخوانه وتبذّل وشرب، فضربه ثلاث مئة سوط، وقيَّده وحبسه.
ووجد العسس أبا دلامة زيد بن جون سكران في بعض الليالي فقبضوا عليه، وأخذوه فحرقوا ثيابه وساجه وحبسوه. فلما أفاق قال أبياتاً وأرسلها إلى المنصور منها:
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أمن صهباء صافية المزاج ... كأن شعاعها ضوء السراج
وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النُّطف النضاج
أُقاد إلى السجون بغير جرم ... كأني بعض عمّال الخراج
(يتبع)
سجون بغداد زمن العباسيين
(الحلقة الأولى)
صلاح الدين المنجد
==================
(الحلقة الثانية)
(ز) العيارون، اللصوص، المجرمون:
وكان العيّارون واللصوص وقطاع الطريق يودعون السجن، وقد سجن المأمون نفراً منهم كبيراً. وقتل آخرين، وذكر ابن المعتز أن إسحق بن خلف، وكان أحد الشطّار الذين يحملون السكاكين قتل غلاماً فحبس بذلك؛ فما فارق الحبس حتى مات.
وذكر ابن الجوزي أن المعتمد حبس ثلاثة من الجند لأنهم سرقوا. وأنه وجدت في خلافة المطيع امرأة قد سرقت صبيًّا، فشوته في تنور وهو حي، وأكلت بعضه، وأقرَّت بذلك، وذكرت أن شدة الجوع حملتها على ذلك. فحبست مدة، ثم ضربت عنقها.
وكان الأطباء الذين يغلطون فيودون بحياة الناس. فقد حُبس الطبيب النصراني خصيب لأنه سقى محمد بن أبي العباس السفاح شربة دواء فمرض منها ومات، وبقي في حبسه حتى مات.
(ط) الشعر، الضحك، الغناء:
وقد يُسجن الإنسان لأسباب حقيرة لا شأن لها، فتُحدِّثنا كتب الأدب أن أبا العتاهية سُجن مرة لأنه قال:
ألا إن ظبياً للخليفة صادني ... ومالي عن ظبي الخليفة من عذر
وسُجن مرة ثانية لأن الرشيد أمره أن يتغزّل وهو معه في الرقة، فأبى وكان معه إبراهيم الموصلي؛ وكان قد أمره أن يغني، وقد مات الهادي فأبى أيضاً، فحبسه وقال: لا يخرجان حتى يغنِّي هذا ويشعر ذاك.
ويذكر الشابشتي صاحب كتاب ((الديارات)) خبراً يدعو إلى العجب والإعجاب في آن معاً، قال: خرج إسحاق بن إبراهيم من عند المأمون، حتى إذا صار إلى الدهليز الثاني وقف، ووقف القوّاد والناس لوقوفه. ثم قال: أين خليفة علي بن صالح؟ وكان على ذلك الوقت صاحب أمر الدار والمرسوم بالحجبة. فأتى خليفته فضربه مئة مقرعة. ثم قال: الحبس، ثم قال: هاتوا خليفته صاحب البريد، فأتى به، فضرب مئة مقرعة. ثم قال الحبس، ثم دعا بعلي بن صالح، وبصاحب البريد، وقال لهما: تقلّدان خلافتكما في دار الخلافة من يضيِّع الأمور ويهملها. . . كنتما بهذا الأدب أحق من هذين! فقالا: وما كان من أمرهما الذي أنكرته أيها الأمير؟ قال: صاحب بريد، يقعد في دار الخلافة فيضحك ويقهقه، وصاحب الدار جالس لا ينكر. . .!)
وفي جميع هذه الأسباب ذكرت كتب الأدب أخباراً أخرى أخذنا منها ما يقوم به الدليل على ما ذهبنا اليه، ولم نعمد إلى التطويل.
أنواع السجون
نستدل مما اطّلعنا عليه من النصوص أنه كان في بغداد أنواع منوّعة من السجون. فهناك المطبق وهو حبس مظلم كبير، كان المنصور قد بناه بين طريق البصرة وطريق باب الكوفة. وباسمه سمَّى الشارع الذي يقع هذا السجن فيه. وكان متين البناء قوي الأساس. وبقي أهمّ سجون بغداد حتى عهد المتوكل). وكان فيها سجن آخر عند باب الشام، إذا ذكروه قالوا: السجن عند باب الشام، وكان يهاجَم دائماً. وكان عليه عثمان بن نهيك، وقُتل في فتنة الراوندية، فلما كان زمن المعتصم أمر أن يُبنى حبس في بستان موسى، كان القيِّم به مسروراً مولى الرشيد. يقول التنوخي: (وكان هذا البناء يُرَى من دجلة إذا ركبها المرء، وكان كالبئر العظيمة، قد حُفِرت إلى الماء أو قريب منه، وفيها بناء على هيئة المنارة مجوَّف من باطنه، وله من داخله مدرج قد جعل في مواضع من التدريج مستراحات، وفي كل مستراح شبيه بالبيت، يجلس فيه رجل واحد، كأنه على مقداره، يكون فيه مكبوباً على وجهه، وليس يمكنه أن يجلس ولا يمد رجله).
ثم بنوا سجناً آخر سموه السجن الجديد. وكان موضعه إقطاعاً لعبد الله بن مالك، وبقي حتى جاء معز الدولة فهدم سوره سنة 350، ونقل آجره إلى داره وبنى به، وفي سنة 355 كتب إلى طاهر بن موسى أن يبني موضع الحبس المعروف بالجديد مارستاناً.
ولا نستطيع وصف ما فيها على التفصيل؛ وإنما نعلم أنها كانت ذات أقسام، فحبس للزنادقة، وحبس للعوام، وحبس للنساء، و. . .
وكان في المطبق الغرف الواسعات والضيقة. وكان فيه الآبار يسجن فيها. حدث يعقوب بن داود وزير المهدي قال: حبسني المهدي، وذلك في المطبق. فدليت بحبل في بئر مظلمة لا أرى فيها الضوء، قد بُنِيَت عليها قبّة، فكنتُ فيها خمس عشرة سنة.
وربما سُجِنوا في أماكن ومحال أخرى. فقد سجن سليمان ابن وهب في كنيف قال: فأخذني اسحق (بن إبراهيم، صاحب الشرطة) وحبسني في كنيف، وأغلق عليَّ خمسة أبواب. فكنت لا أعرف الليل من النهار. وسُجِن المحسن بن أبي الحسن بن الفرات في كنيف داخل الحجرة، ودلّوا في بئره رأسه بعد أن قُيِّد وأُلبِس جبة صوف غمست بالنفط.
وربما سَجَنوا في الحجر الضيقة المظلمة، حدث أبو الحسن بن أبي الطاهر قال: قبض محمد بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب في وزارته للقاهر بالله، على أبي وعليّ معاً فحبسنا في حجرة ضيقة، وأجلسنا على التراب.
وكان الحبس الذي سجن فيه المهدي إبراهيم الموصلي مكاناً شبيهاً بالقبر مملوءاً بالأفاعي والبق. ولما سير المنصور جماعة من أبناء علي إلى الكوفة وحُبِسوا في سرداب تحت الأرض، لا يفرقون فيه بين ضياء النهار أو سواد الليل.
وربما سُجِنوا في دار منفردة، كما فعلوا بأبي العتاهية لما طلب إليه الرشيد أن يتغزل فأبى، ومنعوا دخول من يريد إليه.
ويذكر ابن الجوزي أن القاهر بنى المطامير ليحبس الجند فيها،
وأناس آخرون كانوا لا يسجنون في هذه المحال. فقد كانوا يحبسون من يخافون عليه عند الوزراء. كما سجن عبد الملك بن صالح عند الفضل بن الربيع لما غضب الرشيد عليه، وكما سجن إبراهيم بن المهدي بعد القبض عليه وقبل العفو عنه، عند أحمد ابن أبي خالد. وربما أودعوا عند من يثق الخليفة به، كما فعل الرشيد عندما سجن موسى بن جعفر بدار السندي بن شاهك.
وكانوا يتخذون قصور الخلفاء سجوناً في بعض الأحايين. فقد حبس المستعين بن المعتصم، المعتز والمؤيد ابني المتوكل في حجرة من حجرات الجوسق الكبير. ويقول لسترانج إن الخلفاء (اتخذوا دار الشجرة التي شيدها المقتدر، حبساً رسمياً، وضعوا فيه أقرب أقربائهم احتياطاً من أعمالهم. وجعلوا في خدمتهم عدداً من الغلمان والخدم، وجهَّزوه تجهيزاً تاماً بوسائل الرفاهية والنعيم، ومنعوهم من تخطي أسواره.
ويذكر ابن الجوزي أن القاهر حبس في دار السلطان مدة إحدى عشرة سنة، من (321 - 333) (قال أبو معاوية البيروتي: هكذا الأصل، وفي المنتظم أن القاهر سُجن من سنة 322 هـ)، ثم أُخرج إلى دار ابن طاهر، فكان يُحبس تارة ويُخلى تارة.
ومنذ القرن الرابع أخذوا يسجنون عند القهرمانات. فقد سجن ابن الفرات عند زيدان القهرمانة، وسلَّم إليها أيضاً الأمير الحسين بن حمدان، والوزير علي بن عيسى.
في السجن
لا نعلم الكثير من أحوال السجناء في بدء العصر العباسي؛ على أننا نورد لك ما كتبه أبو يوسف للرشيد عن المساجين لنصوِّر لك ما كانوا عليه. فقد طلب أبو يوسف أن يؤمر بالتقدير لهم ما يقوتهم في طعامهم وأدمهم؛ وأن يُصير ذلك دراهم تجرى عليهم، وتدفع في كل شهر إليهم: (فإنك إن أجريت عليهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام والجلاوزة. وولِّ ذلك رجلاً من أهل الخير والصلاح يثبت أسماء من في السجن ممن تجري عليهم الصدقة، وتكون الأسماء عنده، ويدفع ذلك إليهم شهراً بشهر. يقعد ويدعو باسم رجل رجل، ويكون الإجراء عشرة دراهم في الشهر لكل واحد، وليس كل مَن في السجن يحتاج أن يُجرَى عليه). ثم طلب أن تكون كسوتهم في الشتاء قميصاً وكساء، وفي الصيف قميصاً وإزاراً، وأن يجري على النساء مثل ذلك، وهذا يدلّنا على سجن النساء، وكسوتهن في الشتاء قميص ومقنعة وكساء، وفي الصيف قميص وإزار ومقنعة.
(يتبع)
====================
(الحلقة الثالثة)
ويمعن أبو يوسف في تصوير هؤلاء العامة من السجناء فيقول: وأغنهم عن الخروج في السلاسل يتصدّق عليهم الناس؛ فإن هذا عظيم أن يكون قوم من المسلمين قد أذنبوا وأخطئوا، وقضى الله عليهم ما هم فيه فحُبسوا، يخرجون في السلاسل يتصدقون. وما أظن أهل الشرك يفعلون هذا بأسارى المسلمين الذين في أيديهم، فكيف ينبغي أن يفعل هذا بأهل الإسلام؟ وإنما صاروا إلى الخروج في السلاسل يتصدّقون لما هم فيه من جهد الجوع.
ولقد بلغني، وأخبرني به الثقات، أنه ربما مات منهم الميت الغريب فيمكث في السجن اليوم واليومين، حتى يستأمر الوالي في دفنه، وحتى يجمع أهل السجن من عندهم ما يتصدقون، ويكترون من يحمله إلى المقابر فيُدفَن بلا غسل ولا كفن ولا صلاة).
وقد نجد في كتب الأدب والتاريخ، نبذاً عما كان يفعل بخواص المسجونين إذا دخلوا السجن. كانوا ينزعون عنهم ثيابهم فيلبسون غيرها، ثم يقيَّدون، ويقدَّم لهم طعام خاص:
حدَّث ابن وهب قال: أخذني إسحق (بن إبراهيم) فقيَّدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف. فأقمت كذلك نحو عشرين يوماً، لا يفتح عليه الباب إلا مرة واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع لي فيها خبز شعير وماء حار).
وحدث سليمان بن وهب قال: (كنت في يدي محمد بن عبد الملك يطالبني وأنا منكوب، وكان يحضرني كل يوم وأنا في قيودي، وعليَّ جبة صوف).
وذكر يعقوب بن داود قال: (حبسني المهدي. . . في بئر. . . وكان يدلي إليَّ في كل يوم رغيف وكوز ماء. . .) ولما سُجن ابن عبد الملك أمر بتقييده فقيِّد، ولم يأكل في طول حبسه إلا رغيفاً واحداً. وكان يأكل العنبة والعنبتين).
وقيِّد جعفر بن يحيى في حبسه بقيد حمار قبل أن يُقتل ثم ضُربت عنقه.
وسأل الرشيد جعفر بن يحيى يوماً ما فعل بيحي بن عبد الله؟ قال بحاله يا أمير المؤمنين: في الحبس الضيق والأكبال.
وقيِّد إيتاخ في سجنه وصِّير في عنقه ثمانون رطلاً وقيد ثقيل وكانت وظيفته رغيفاً وكوزاً من ماء.
ولما حَبَس إسحقُ بن إبراهيم عمرَ بن فرج ألبسه جبة صوف وقيَّده بالأكبال.
وحُبِس بختيشوع المتطبِّب في المطبق فضُرِب مئة وخمسين مقرعة وأثقل بالحديد.
وقد كانت جبة الصوف تدهن أحايين كثيرة بالنقط (قال البيروتي: هكذا الأصل، والصواب: بالنفط) أو بماء الأكارع، كما فعل بجبة ابن الفرات وغيره. أما القيد فربما بقيت آثاره بعد فكِّه. وهذا ما حدث لأبي العباس أحمد. . . ابن الفرات، فقد عُلِّق بحبال في يديه بقيت آثارها فيها مدة حياته، وربما أصاب المسجونين الإهمال، فلم يُكسَوا أو يُطعَموا. وقد ذكر ابن المعتز أن الرشيد أرسل مسروراً الكبير إلى البرامك - وهم في الحبس - يتعرَّف حالهم. فصار إليهم فوجد الفضل ساجداً فهتف به فلم يجبه، فدنا منه فوجده نائماً يغط. وكان في ثوب سمل، وذلك في الشتاء والبرد شديد.
فأنت ترى أن لباس السجناء جبة من صوف، وأن طعامهم رغيف في اليوم، وشرابهم كوز من ماء، وقيودهم السلاسل والأكبال.
وربما كان للسفهاء في السجون العامة سيطرة وسلطان. نستدل على ذلك من أبيات قالها عبد الملك بن عبد العزيز وكان قد حبسه الرشيد، وهي:
ومحلة شمل المكاره أهلها ... وتقلدوا مشنوءة الأسماء
دار يهاب بها اللئام وتتقي ... وتقل فيها هيبة الكرماء
ولم يكن يسمح للمحبوسين أن يقابلوا أحداً. وقد يكون ذلك بالرشي. حدث محمد بن صالح العلوي قال: (وجاءني السجان يوماً وقال إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك، وقد حظر عليَّ أن يدخل عليك أحد. إلا أنهما أعطتاني دملج ذهب، وجعلتاه لي إن أوصلتهما إليك، وقد أذنت لهما، وهما في الدهليز، فاخرج إليهما. . .).
ويقول ابن المعتز إن البرامكة كان يزورهم في محنتهم من كان يألفهم أيام نعمتهم حتى أن الرشيد كان يقول لسعيد بن وهب (آنس القوم بحديثك، وأكثر من زيارتهم).
وهنا قد يتساءل الإنسان: أكان السجناء يتعلَّمون في السجن صناعة ما أو علماً؟ ويذهب آدم متز إلى أن المسجونين كانوا يشتغلون بنسج التكك، مستنداً على بيت من الشعر قاله ابن المعتز، لم نجده في ديوانه، وهو:
تعلمت في السجن نسج التكك ... وكنت امرءاً قبل حبسي ملك
على أننا لا نستطيع أن نجزم بذلك. فابن المعتز سُجِن في مكان خاص منفرد؛ ولم تكن مدة سجنه طويلة حتى يتعلَّم، على أنه إذا نفينا ذلك عن ابن المعتز، فقد يكون لسجناء، في السجون العامة الأخرى.
ويحدِّثنا إبراهيم الموصلي أنه حبس أيام المهدي وضرب قال: فحذقت الكتابة والقراءة في الحبس. وليس في هذا أيضاً ما يوجب التعميم.
وما كادت المئة الثانية من الهجرة تمضي، حتى بدأت السجون تنال عناية من الخلفاء؛ ولا سيما المعتضد. فقد أوقف لها الأموال الكبار لنفقات المحبوسين وثمن أقواتهم ومائهم وسائر مؤنهم. وقد جعل في ميزانيته ألف وخمس مئة دينار في الشهر لذلك. ويحدِّثنا القفطي أنه عُيِّن لمَن في السجون أطباء أُفرِدوا لذلك. فكانوا يدخلون إليهم ويحملون معهم الأدوية والأشربة، ويطوفون على سائر الحبوس ويعالجون فيها المرضى، كما جعل للمحبسين ديوان خاص تُكتَب فيه قصصهم في دفاتر خاصة يرجعون إليها دائماً.
التعذيب
وكانوا يلجئون في بعض الأحايين إلى تعذيب السجين تعذيباً مؤلماً. وقد يخص بالعذاب الوزراء والعمال. وسنعرض عليك ألواناً مختلفات من التضييق والتعذيب؛ فقد كان سليمان بن وهب في أول حبسه بالبئر (يأنس بالخنافس وبنات وردان ويتمنى الموت لشدة ما هو فيه).
وحبس محمد بن القاسم. . . بن علي بن أبي طالب في الحبس الذي شُيِّد في بستان موسى (فلما أدخل إليه أكب على وجهه في أسفل بيت منه. فلما استقر به أصابه من الجهد لضيقه وظلمته، ومن البرد لندى الموضع ورطوبته، ما كاد يتلفه).
أما الضرب والتعذيب فكثير: فقد ضُرب بختيشوع المتطبب مئة وخمسون مقرعة. وضُرب يحيى بن خالد، والفضل ابن يحيى وسوهر محمد بن عبد الملك، ومُنع من النوم، وكان يُنخس بمسلّة (تؤلمه وتدمي جسده).
ولما سُجِن المعتز بعد خلعه دُفِع إلى مَن يعذِّبه ومنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه منها، ثم جصصوا سرداباً بالجص السخين وأدخلوه فيه وأطبقوا عليه فأصبح ميتاً).
وقد كان يحدث القتل وضرب الأعناق. وأورد التنوخي قصة قتل نوردها بكاملها، قال: (حدثني عبيد الله بن أحمد بن الحسن. . . وكان خليفة أبي علي على الفتيا بسوق الأهواز بإسناده عن القاضي أبي عمر قال: لما جرى من أمر عبد الله بن المعتز ما جرى حُبِست وما في لحيتي شعرة بيضاء، وحُبِس معي أبو المثنى القاضي، ومحمد بن داود بن الجراح في دار واحدة، في ثلاثة أبيات متلاصقة. وكان بيتي في الوسط؛ وكنا آيسين من الحياة! وكنت إذا جَنَّ الليل حدثت أبا المثنى تارة، ومحمد بن داود تارة. وحدَّثاني من وراء الأبواب. ويوصي كل واحد منا إلى صاحبه، ونتوقع القتل ساعة بساعة. فلما كان ذات ليلة، وقد أُغلِقت الأبواب، ونام الموكلون؛ ونحن نتحدث من بيوتنا إذ أحسسنا بصوت الأقفال تُفتَح. فارتعنا، ورجع كل منا إلى صدر بيته. فما شعرت إلا وقد فتح البواب على محمد بن داود، وأخرج، وأضجع على المذبح فقال: يا قوم ذبحاً كما تُذبَح الشاة؟ أين المصادرات؟ أين أنتم من أموالي أفتدي بها نفسي. فما التفتوا إلى كلامه، وذبحوه وأنا أراه من شق الباب! وقد أضاء السجن من كثرة الشموع، وصار كأنه نهار. واحتزوا رأسه فأخرجوه معهم، وجردوا جثته، وطُرِحَت في بئر الدار وغلقت الأبواب. (قال) فأيقنتُ بالقتل، وأقبلت على الصلاة والدعاء والبكاء، فما مضت إلا ساعة واحدة حتى أحسست بالأقفال تُفتَح؛ فعاودني الجزع، وإذا هم جاءوا إلى بيت أبي المثنى ففتحوه وأخرجوه وقالوا له: يقول لك أمير المؤمنين، يا عدو الله، يا فاسق بِمَ استحللت نكث بيعتي وخلع طاعتي؟ فقال: لأني علمت أنه لا يصلح للإمامة! فقالوا: إن أمير المؤمنين قد أمرنا باستتابتك من هذا الكفر، فإن تُبْتَ رددناك إلى محبسك، وإلا قتلناك. فقال: أعوذُ بالله من الكفر! ما أتيت ما يوجب الكفر. فلما أيسوا منه مضى بعضهم وعاد فأضجعوه وذبحوه وأنا أراه، وحملوا رأسه وطرحوا جثته في البئر. فذهب عليَّ أمري، وأقبلتُ على الدعاء والبكاء والتضرع إلى الله. فلما كان وجه السحر سمعت صوت الأقفال، فقلت: لم يبق غيري وأنا مقتول. فاستسلمت وفتحوا الباب فأقاموني إلى الصحن، وقالوا: يقول لك أمير المؤمنين: يا فاعل ويا صانع، ما حملك على خلع بيعتي؟ قلت: الخطأ وشقوة الجد. وأنا تائب إلى الله عز وجل من هذا الذنب. . . فجاءوا إليَّ بخفّي وطيلساني وعمامتي، فلبست ذلك وأُخرجت، فجيء بي إلى الدار التي كانت برسم ابن الفرات في دار الخليفة. فلما رآني، أقبل يخاطبني بعظم جنايتي وخطأي، وأنا أقر بذلك وأستقيل وأتنصّل فقال: (وهب لي أمير المؤمنين دمك، وابتعت منه جرمك بمئة ألف دينار، ألزمتك إياها).
وقد يُعَذَّبون بغير ما ذكرنا؛ فقد رُؤيَ في أيام المقتدر، رجل في المطبق مغلولاً على ظهره لبنة حديد فيها ستون رطلاً. ولما حبس إيتاخ أُطعِم كثيراً فاستسقى فمنع الماء فمات عطشاً.
على أن هناك صلة بين التعذيب عند العباسيين، والتعذيب على أهل أوربة في القرون الوسطى. وإن كان التعذيب في أوربة يفوق تعذيب العباسيين شدة وفظاظة. فلقد بلغوا فيه مبلغاً من القسوة لا يجاريهم فيه أحد. وقد ذهبوا في الظلم والإرهاق مذاهب شتى، وتنافسوا في ابتكار أشد وسائل الإرهاب في السجن فظاعة. من ذلك أن بعض السجون المظلمة التي كان يُزَج فيها السجناء كانت أشبه بمغاور تحت الأرض، يوصل إليها بسلاليم، لا ينفذ إليها النور. وكانت السلاليم مؤلفة من عدة درجات، يختلف بعضها عن بعض في حجمها وارتفاعها، والغرض من جعلها كذلك تضليل النازل حتى تزل قدمه فيهوي إلى قاع السجن الرهيب.
(يتبع)