• ×

التحذير من القصص المنكرة والموضوعة في السيرة النبوية

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

التحذير من القصص المنكرة والموضوعة في السيرة النبوية


مقدمة : أهمية السيرة ودورها في تعديل السلوك:

تمثل السيرة النبوية الواقع العملي لحياة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كما أنها النموذج الأمثل لتاريخ الأمة الإسلامية ، فهي تمثل القدوة في الأخلاق والمعاملات والعبادات ، لذا يرى العديد من العلماء والتربويين أن دراسة السيرة وتدريسها له أبلغ الأثر في تعديل سلوك الناس بالعموم والناشئة بالخصوص . ففي السيرة النبوية تجتمع جل أساليب التربية الإسلامية كالتربية بضرب الأمثال ، والتربية بالقصة ، والتربية بالأحداث ، والتربية بالقدوة ، والتربية بالترغيب وبالترهيب ، والتربية بالحوار(1). لذا لا غرابة عندما يُجمع المختصون على أن السيرة النبوية أكبر مؤثر في تعديل السلوك، وأنها أقوى عامل في غرس القيم والأخلاق النبيلة . فكم من قصص خرّت لها رقاب الجبابرة ، وكم من حوادث احتار لأمرها العباقرة ، وكم من مواقف غيرت مسار الأفراد والجماعات من التمسك بالدنيا إلى التمسك بالآخرة . وكم أتمنى من زملائي الكرام معلمين ومشرفين أن يركزوا على الجانب الإيماني في السيرة ، والجانب التربوي أو ما يعرف بفقه السيرة ؛ لأنها غذاء للقلوب ومتعة للروح ، على صاحبها أزكى السلام.
وحتى تبقى السيرة النبوية عطرة فياضة ، صلبة ورزينة ، بيضاء ناصعة ، ومعين لا ينضب ؛ لا بد أن نقدم فيها الصحيح ، ونبعد عنها الموضوعات والمنكرات التي إذا انتشرت في السيرة ستمثل عقبة في تربية الأبناء ، مما يضعف أثرها ويفقد الثقة بها.
وقد لوحظ أن العديد من الإخوة المعلمين بحسن نية ودون قصد وبدافع الوجدان والعواطف ؛ يذكرون بعض قصص السيرة دون الرجوع إلى المصادر للتأكد من صحتها ، فهناك العديد من القصص المنكرة والباطلة والموضوعة التي انتشرت على ألسنة العوام . . لذا جاءت هذه الدراسة لتوضح وتبين بعض هذه القصص التي انتشرت ، وتداولتها الألسن.

أولاً : ما يتعلق بمولده صلى الله عليه وسلم:
نظراً لما يمثله مولد النبي صلى الله عليه وسلم من تغيير في حركة التاريخ بالعموم ، وعند المسلمين بالخصوص ؛ فقد تفاعلت معه بعض مصادر السيرة فنقلت روايات منكرة وباطلة أوموضوعة دون بيان لنكارتها ، فانتشرت وكأنها صحيحه وهي غير ذلك . ومن الروايات الموضوعة التي أرادت أن تضفي على مولد النبي صلى الله عليه وسلم جانب أسطوري ؛ ما قيل من أن بغياً دعت عبدالله والده إلى نفسها - قبل زواجه من آمنة بنت وهب رغبة في النور الموجود في عينه ، ولكنها لم تعد ترغب فيه، لأن هذا النور ذهب بعد زواجه من آمنة (2). ومن الروايات المنكرة والباطلة التي وردت في مولده صلى الله عليه وسلم:
ماقيل عن هواتف الجن ليلة مولده صلى الله عليه وسلم، وما قيل عن انتكاس بعض أصنام مكة،
وماقيل عن ارتجاس إيوان كسرى وسقوط شرفاته ، وما قيل عن خمود نيران المجوس وغيض بحيرة سَاوَهْ(3)، وما قيل عن رؤيا الموبذان(4) بأن الخيل العربية تقطع دجلة وأنها تنتشر في بلاد الفرس . فكل ماورد في ذلك من روايات فهي غريبة ومنكرة وباطلة وبعضها لا أصل له(5).
كما وردت في مولده روايات ضعيفة ننبه لها وهي محل خلاف بين العلماء ، مثل أنه ولد مختوناً مسروراً، أو ختنه جده عبدالمطلب على عادة العرب(6) أو ختنه جبريل عليه السلام لما طهّر قلبه(7). إلا أن هناك روايات قوية وجيدة وردت في مولده يمكن أن نستعين بها في ذكر المعجزات الخاصة بالمولد مثل أن أمه آمنة رأت حين وضعته نوراً أضاءت منه قصور بصرى من أرض الشام وغيرها مما هو في المصادر(8).

ثانياً : ما يتعلق بنزول الوحي:
هناك روايات عديدة مفادها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظهر على رؤوس الجبال يريد أن يتردى منها من شدة الحزن لانقطاع الوحي عنه ، فكان جبريل عليه السلام يتبدى له فيرجع عن ذلك ، لكن المحققين ذكروا أنها روايات مرسلة وضعيفة وتتعارض مع عصمة النبوة(9).

ثالثاً : ما يتعلق بهجرته صلى الله عليه وسلم:
ذكرت مصادر السيرة ضمن حادثة خروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ومكوثه في غار بجبل ثور ثلاثة أيام عدة روايات : منها أن الله أمر شجرة فنبتت في وجه الغار وأمر حمامتين وحشيتين عشعشت وباضت على فم الغار لتصرف المشركين عن مكانه ، ومنها أن الغار انفتح فتحة رأى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم البحر وبه سفينة مربوطة تنتظره، ومنها أن الله قد أوجد في الغار نهراً أبيض من الثلج وأحلى من العسل ، ليشرب منه الصديق رضي الله عنه. وهذه الروايات ضعيفة جداً إن لم تكن موضوعة(10).
وأما ما قيل من أخبارعن نسج العنكبوت على الغار لتصرف الكفار عن مكان رسول الله صلى الله فقد ضعفها بعض العلماء ، وحسنها البعض(11). والأقرب إلى الصواب ضعفها.
ونختم هذه الدراسة بذكر بعض القواعد المهمة والمتعلقة بالروايات والقصص الضعيفة والموضوعة والتي ينبغي فهمها واستيعابها، ومن ذلك:
-كان العديد من العلماء يتساهلون في رواية الضعيف في السيرة ، وهو منهج له اعتباره في فترة معينة من الزمن ، أما الآن فقد لقيت السيرة عناية المحدثين والمحققين فنقحوا ونقدوا العديد من الروايات. فالرويات لصحيحة ثم الحسنة فيهما الغنية والكفاية ، ونأخذ بالضعيف فقط بضوابط معينة منها عدم وجود حديث صحيح يعارضه ، أو يتعلق بعقيدة أو بحلال أو حرام أو تبنى عليه أحكام.
-وجود الروايات الموضوعة في العديد من مصادر السيرة لا يعيب مؤلفيها ، لأن منهج بعض العلماء هو ذكر الرواية كما هي ويترك النقد لمن بعده وهو منهج متعارف عليه.
-رواية العلماء للضعيف والموضوع لا يعني التصديق أو التسليم منهم لها.
-هناك مصادر من كتب الحديث اهتمت بأمر السيرة النبوية لكنها مظان الضعيف ، مثل : المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ( ت 405هـ )، ودلائل النبوة للبيهقي( ت 458 هـ).
-مصادر السيرة ليست كلها على درجة عالية من التوثيق ففيها الضعيف والمنكر والباطل.
-هناك مصادر خدمت السيرة نقداً ودراسة، منها ما ورد في حواشي هذه النشرة يمكن الرجوع إليها.
-توجد عبارات قيلت في الحكم على الحديث قد توهم غير المتخصص بأنها تعني صحة الحديث ولكن الأمر ليس على إطلاقه مثل: \" صحيح على شرط الشيخين أو رجاله ثقات أو رجاله رجال الصحيح \".

أعدها وكتبها :
الدكتور إبراهيم بن يوسف بن علي الأقصم


______________________________
(1)للاستزادة عن أساليب التربية الإسلامية انظر : عبد الرحمن النحلاوي ، أساليب التربية الإسلامية .
(2)ذكر الشيخ الدكتور أكرم ضياء العمري أن هذه الروايات أوردها الطبراني والحاكم وابن سعد ، لكنها منكرة سنداً ومتناً، كما أن هذه الروايات مضطربة ، لأن المرأة المذكورة تارة يقال أنها بغي وأخرى يقال أنها خثعمية ،وثالثة يقال أنها أسدية قرشية . انظر : السيرة النبوية الصحيحة ، ط1 ،( الرياض ، مكتبة العبيكان ، 1417هـ ) ، ج 1 ، ص ص 94-95.
(3)بحيرة ساوة : من بلاد فارس بين الري وهمدان . ( في إيران حالياً ) انظر : ياقوت الحموي ، معجم البلدان ،3/ 179.
(4)الموبذان: المُوبذ:كالقاضي. والموبذان عند المجوس ، كقاضي القضاة عند المسلمين . ابن الأثير ، النهاية ،4/314.
(5)هذه الأخبار أوردها الطبري ، وقال الذهبي : هذا حديث منكر غريب ، انظر : السيرة النبوية ، ط2 ، تحقيق : عبدالسلام تدمري ، ( بيروت :دار الكتاب العربي ، 1409هـ - 1989م ) ، 38 ؛ وقال ابن كثير بعد أن ذكر رواياته من حديث سطيح : \"هذا الحديث لا أصل له في شي ء من كتب الإسلام المعهودة ولم أره بإسناد أصلاً \" انظر : البداية والنهاية ،دط ، ( بيروت ،دار الكتب العلمية ، د ت )، ج 2، ص 252؛ للاستزادة عن هذه الروايات انظر : أكرم العمري ،السيرة النبوية الصحيحة،1/100-101؛مهدي رزق الله ، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ،ط1،( الرياض ،مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ،1412هـ - 1992م )ص 113 .
(6)انظر هذه الروايات في:ابن كثير ،البداية والنهاية (قسم السيرة ) ،2/246- 247 ؛ الذهبي ، السيرة النبوية ، 27 -28. كما ناقش الشيخ الدكتور أكرم العمري هذه الروايات وأحال إلى من أوردها وضعف أكثرها . انظر : السيرة النبوية الصحيحة ، 1/99 100.
(7)ما قيل من أن جبريل ختنه حين طهر قلبه قال عنه ابن كثير : وهذا غريب جداً \" انظر : البداية والنهاية (قسم السيرة ) ،2/ 247 ؛ وقال الذهبي :هذا منكر ، انظر : السيرة النبوية ،28.انظر روايات الختان :ابن القيم ،زاد المعاد ،1 / 81-82 ؛ ابن كثير ،البداية والنهاية ، 2/246-247؛ العمري ،السيرة النبوية الصحيحة ،1/99 - 100؛ مهدي رزق الله ،السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية،107 .
(8)قال ابن كثير : إسناده جيد ، البداية 2/299 .للاستزادة: انظر: أكرم العمري ، السيرة النبوية الصحيحة،1/101 .
(9)هذه الرواية ذكرها البخاري بلفظ : بلغنا . وهو لفظ يدل على التضعيف . وهذه الرواية هي من مراسيل الزهري ،وقد أشار العلماء إلى أنها روايات مرسلة وضعيفة. انظر :أكرم العمري ، السيرة النبوية الصحيحة ،1/126-127؛ مهدي رزق الله ، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ،151.كما ذكر الشيخ الألباني أن هذه الرواية باطلة وفصل القول فيها .للاستزادة انظر :سلسلة الأحاديث الضعيفة ،ط ا ( الرياض :مكتبة المعارف ،1422هـ - 2002م ) ،لمجلد العاشر القسم الأول ص 450 458. رقم الحديث 4858.
(10) للاستزادة راجع :العمري ، السيرة الصحيحة ، 1/ 208؛ مهدي رزق الله ، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، 276. وناقش الشيخ الألباني أحاديث العنكبوت والحمامة في عدة روايات ويرى أنها ضعيفة جداً ومنكرة. راجع : السلسلة الضعيفة والموضوعة ، ط1 ،( الرياض : المعارف ، 1408هـ - 1987م)، ج 3 ، 259-263، 337-338.
(11) حسنه ابن كثير في البداية 3/179؛وابن حجر في: فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، ط 1 ، (القاهرة : دار الريان ، 1407هـ -1986م ) ج7 ،ص 279؛ ويرى الدكتور مهدي رزق الله أن قصة العنكبوت حسنة وساق أقوال العلماء . انظر :السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، 274.. وقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة ويرى أنه لا يصح حديثاً في العنكبوت والحمامتين ،3/339. ويرى الدكتور العمري أن ماورد في العنكبوت ضعيف جداً ، انظر :السيرة الصحيحة ،1/ 207 .

بواسطة : hashim
 0  0  10621
التعليقات ( 0 )

-->