(رأينا في إثبات الأنساب ونفيها عبر الحمض النووي DNA).
(رأينا في إثبات الأنساب ونفيها عبر الحمض النووي DNA).
(رأينا في إثبات الأنساب ونفيها عبر الحمض النووي DNA).
*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد وردت إلينا رسائل كثيرة من الخاصة والعامة عن رأينا في إثبات ونفي الحمض النووي للأنساب.
فأقول وبالله التوفيق: هذا الحمض النووي الذي يلجأ إليه كثير من الشاكة في أصولها والمضطربة فيها،*
ضلال وأي ضلال، وكأن القائل بصحته يقول نبينا ﷺ القائل: (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ)، وفي رواية: (اعْرِفُوا أَنْسَابَكُمْ)، لم يعلمنا كيف نحفظ ونصون أنسابنا، وهو الذي علمنا بأبي وأمي صغائر الأمور كدخول الحمام والجلوس فيه والخروج منه وآدابه.
لقد جاء القرآن بالمحافظة على النسب بأقوم الطرق وأعدلها؛ ولذلك حرم الزنا وأوجب فيه الحد الرادع، كما أوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت؛ لئلا يختلط ماء رجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾».
ومن القواعد التي قررها علماء الإسلام في كتبهم لاثبات الأنساب ونفيها وأجمعوا عليها: أن الأنساب تثبت بالشهرة والاستفاضة الصحيحة؛ لذلك فهي الأصل والمعول عليه في إثبات الأنساب ونفيها.*
وصاحب النسب الثابت المشهور لا حاجة له بالحمض النووي، لأن نسبه ثابت ومشهور، إلا إذا علم أن نسبه غير ثابت وحط من قدره ووضع نفسه في محل مجهول الأصل!! ولا أظن عاقل يضع نسبه في دائرة ( مجهول الأصل ) ؛ فديننا صان الأنساب ورفع قدرها، والأنساب الصحيحة المشهورة - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت٧٢٨هـ) - أمرها ظاهر متدارك مثل الشمس لا يقدر العدو أن يطفئه. وصاحب النسب والدين لو أراد عدوه أن يبطل نسبه ودينه وله هذه الشهرة لم يمكنه ذلك، فإن هذا مما تتوفر الهمم والدواعي لنقله، ولا يجوز أن تتفق على ذلك أقوال العلماء.
والشهرة والاستفاضة أو السماع هي إحدى الطرق الشرعية لثبوت اتصال النسب، وقد اتفقت كلمة أئمة المذاهب الأربعة عليها، بل لا نعرف مخالفة أحد لهم في ذلك سواء كان من أهل السُّنَّة والجماعة أو من غيرهم. فالإمام أبو حنيفة يعمل بالاستفاضة في خمسة أشياء؛ منها: النسب. والإمام مالك في تسعة عشر؛ منها: النسب. والإمام الشافعي في ثمانية؛ منها: النسب. والإمام أحمد بن حنبل في تسعة؛ منها: النسب. فهو متفق عليه عند جميعهم.
قيل للإمام الفقيه عبدالرحمن بن القاسم المالكي(ت191هـ) (أيشهد أنك ابن القاسم من لا يعرف أباك ولا يعرف أنك ابنه إلا بالسماع؟ قال: نعم يقطع بها ويثبت بها النسب).
وقال أبو عبد الرحمن محمد بن محمد العتقي: (الشهادة على النسب المشهور بالسماع جائزة عند جميع الفقهاء، وما أعلم أحدًا ممن يحفظ عنه من أهل العلم منع من ذلك).
وقال الفقيه برهان الدين ابن مازة الحنفي(ت616هـ): (الشهادة في الأنساب تحل بالشهرة والتسامع في النسب).
وقال الفقيه النَّسَّابة ابن قدامة الحنبلي(ت620هـ): (أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالاستفاضة في النسب).
ثم إن الشهرة والاستفاضة بالنسب تثبت بطريقتين: إحداهما حقيقية، والأخرى حكمية.
فالحقيقية: أن يشتهر ويسمع من قوم كثير لا يتصور تواطؤهم على الكذب. ولا يُشترط في هذا العدالة بل يُشترط التواتر بتشايع الأخبار وتشتهر بأن فلان بن فلان الهاشمي أو الخزاعي أو التميمي أو الهذلي أو الجهني أو الحميري.
والحكمية: أن يشهد عنده عدلان من الرجال أو رجل وامرأتان بلفظ الشهادة، والقضاء المقصود منه، قال العلامة ابن المنذر عن الشهادة بالنسب: (لا أعلم أحدًا من أهل العلم منع منه، ولو منع ذلك لاستحالت معرفته؛ إذ لا سبيل إلى معرفته قطعًا بغيره، ولا تمكن المشاهدة فيه، ولو اعتبرت لما عرف أحد أباه ولا أمه ولا أحدًا من أقاربه، وقد قال الله تعالى ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾).
قلت: ولا يخرم هذه الشهرة والاستفاضة إلا الجرح القادح المفسر ممن يُعتد برأيه وأمانته، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني(ت852هـ): (إن النسب مما يثبت بالاستفاضة إلا أن يثبت ما يخالفه).
وقد أفردنا رسالة في ثبوت النسب ونفيه بالشهرة والاستفاضة، وهي مطبوعة باسم: (الإفاضة بأدلة ثبوت النسب ونفيه بالشهرة والاستفاضة) بسطنا الحديث عن هذه القاعدة وشروطها وقيودها وما يخرمها.
ثم يأتي بعد الشهرة والاستفاضة في ثبوت النسب، المصادر الموثوقة لعلماء النسب والتاريخ الثقات بالقيد الذي ذكرناه آنفًا.
ولذلك عدّ العلماء مسألة إثبات الأنساب من المسائل العظيمة كإقامة الحدود. ويجب على العالم أو القاضي أن يكون معها نبيهًا يقظًا محتاطًا؛ لئلا تختلط الأرحام ويصبح فساد عظيم. قال الفقيه السبكي (ت756هـ): (التمسك في إثبات الحدود كالتمسك في إثبات الشرف)، وقال الفقيه الهيتمي(ت974هـ): (النسب يحتاط له بخلاف المال).
ليست مسألة الشهرة والاستفاضة لمعرفة لاثبات الأنساب ونفيها الوحيدة التي قررها علماء الإسلام في إثبات الأنساب ونفيها، بل هناك مسائل كثيرة حررها علماء الإسلام في كتب الفقه لصيانة الأنساب وحفظها، وأبوابًا أفردت في كتبهم أبوابًا (باب ثبوت النسب) أو ( باب دعوى النسب ) ، وعنواين أخرى مشابهة، ولو جمعت هذه المسائل لوقعت في مجلدات.
لم تترك الشريعة يا كرام شيئًا في حياتنا إلا وعلمتنا إياه؛ أفتترك الأنساب التي منها النسل والأرحام مهملة مختطلة؟!*
لا والله، بل صانت شريعتنا أنسابنا وحفظتها.
وفي الختام أقول لهذا المغتر بالحمض النووي: الاعتماد على هذا الحمض النووي في تحديد أصول الأنساب ومن ينتمي إليها من العبث المعاصر بعلم الأنساب؛ فلا تجافي شريعتك العظيمة التي ضبطت هذا العلم وخدمته عبر مئات القرون أخي وتركن لعلم حادث، يحتمل الصحة في هذا الباب من عدمه، ولدينا الأصول العلمية الشرعية في ضبط الأنساب ومعرفتها إثباتاً ونفياً، سيما وقد يتلاعب بذلكم الحمض النووي بالزور* لخلط الأنساب وتزويرها!
ثم إن كان لهذا الحمض فائدة في الأنساب؛ فإنها لن تكون إلا في جزئية ضيقة، وهي معرفة الابن لأبيه فقط حين الإنكار، ومع هذا؛ فإن القضاة في هذه الجزئية لا يعدونه دليلاً ولا قرينة إنما يستأنس به، لأن هناك نصوصًا شرعية واردة في مثل هذه الحادثة منها قول* النبي ﷺ: (الولد للفراش)، وقد المجمع الفقهي الإسلامي على أن هذا الحمض لا يثبت الأنساب البعيدة أبدًا إنما يستأنس به في نطاق ضيق جدًا حينما ينكر الأب الابن.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه:
أبو هاشم إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
٢ ذو القعدة ١٤٣٧هـ