العلم والحضارة عند المؤرخ ابن خلدون
يعد العلم الظاهرة الأبرز والأكثر أهمية في تاريخ الحضارة الإنسانية . فقد كان عنصر تغيير في حاية البشر عبر العصور ، وتطورت من خلاله وسائل المعيشة وأنماطها.
وعلى الرغم من أن استخدام المكتشفات العلمية قد ترتب عنها في عصرنا الحاضر اضرار كبيرة على بعض مظاهر الحياة ، كما هو مشاهد من آثار سلبية فادحة على البيئة نتيجة للتصنيع واستخدامات التقنية او تطور التسليح بما يهدد الوجود البشري ، فإن العلم يظل ذلك العنصر الفاعل الذي مكن الانسان من التغلب على الكثير من مصاعب الحياة ، سواء في العصور الماضية او الحاضرة ، وتسنى من خلاله تحقيق إنجازات عظيمة تشاهد بوضوح في مجالات مختلفة ، يصعب حصرها .
ومما يتميز به العلم ، أنه انجاز اجتماعي شارك فيه آلاف البشر من مختلف القارات ، وعبر العصور والثقافات ، والحضارات المختلفة ، بحيث يمكن ان نعتبره مؤسسة حضارية عالمية ، مما يقتضي أن تنصب الجهود لدراسة هذه الظاهرة ، ومحاولة التعرف على خصائصها ومكوناتها الداخلية .
ويُعد المسلمون أول من قام بمحاولات جادة في هذا المجال ، لأن خضارتهم حضارة علم وكان منبتها في أكنافه ، واحتوى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة على الكثير من الأدلة التي تحث على التفكير والتعلم ، وترفع من مكانة العلماء ، وبالتالي فإن الاهتمام بالعلم يمثل استجابة عملية لتلك الأدلة .
ولقد تعددت مظاهر الاهتمام بدراسة ظاهرة العلم عند المسلمين ، وكانت بدايتها منذ العصر العباسي ، حيث ظهرت في تلك الفترة مؤلفات تتحدث عن هذه الظاهرة ، متناولة خصائصها ، ككتاب العلم للمحاسبي أو تتحدث عن المشتغلين فيه ككتاب المعلمين للجاحظ .
ويلاحظ إجمالاً في مثل هذه المؤلفات التركيز على توضيح أهمية طلب العلم وأثر ذلك على الدين والدنيا . وقد تتطرق إلى مسائل أخرى مثل الأداب المرتبطة بطلب العلم ، وأفضل وسائل تعليم الطلبة ، وغير ذلك .
بيد أن دارسة التكوين الداخلي للعلم لم يكن مجالاً للبحث من قبل هولاء ومن سار عن نهجهم حتى جاء العلامة أبن خلدون ، الذي يُعد أول من قام بدارسة هذه الظاهرة ، بل وقدم فيها تصورات وآراء تتسم بالجدية والعمق .
ومن الواضح أن اهتمام أبن خلدون بالاجتماع الإنساني وبخاصة المجتمع المدني دفعة إلى الالتفاف نحو العلم كظاهرة اجتماعية . فأفرد له قسماً مستقلاً من مقدمته ، التي تُعد أول كتاب في علم الاجتماع ، وضمنه فصولاً تعالج عناصر عدة من هذه الظاهرة .
ومن الجدير بالملاحظة أن أول هذه الفصول عنوانه (( في أن العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري )) يهدف من ورائة أن يبين أن العلم جز من تكوين المجتمع وأنه نابع من خاصية التفكير التي نفرد بها الإنسان عن غيره من الكائنات التي تشاطره العيش على هذه البسيطة وعن هذا الفكر (( تنشأ العلوم )) ... المقدمة ص 429
كما أن هذا العلم مرتبط ببيئة اجتماعية معينة ، وهي المجتمع المدني ، حيث تتوافر فيه وسائل نقل المعرفة وأدواتها ، وهو ما لايتسنى توفره في المجتمعات التي تعيش حياة البداوة ، معتمدة على الرعي وما يتبعه من تنقل و ترحال .
ولا شك بأن دراسة العلم كظاهرة اجتماعية حضارية ، يقتضي التعرف على مكوناته ، ومن خلال ذلك أنطلق ابن خلدون ، في بداية دراسته ، نحو البحث عن أصول المعرفة العلمية في المجتمع الإسلامي ، فاعتبرها تنبع من رافدين أساسيين ، أولهما ما جاء به الرسل والأنبياء عليهم السلام من معارف وعلوم يصعب على الفكر الإنساني أن يصل إليها بقدراته الذاتية ، وهو بذلك يعكس الإيمان العميق الذي كان مترسخاً في هذا المجتمع بالمبادئ والقيم المعرفية التي تضمنها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وما يرتبط بذلك من إيمان بجميع الرسالات والكتب المنزلة التي نُص عليها فيهما . ويبين من جانب آخر الارتباط الوثيق بينهما وبين الفكر والثقافة في الحضارة الاسلامية .
اما الرافد الآخر ، فينبعث من الخبرة العلمية المتوارثة ، لدى المجتمع الإسلامي ، وقد وسع ابن خلدون من دائرة الخبرة هذه فلم تعد قاصرة على العلوم التقليدية المتوارثة فحسب ، بل تجاوز ذلك إلى احتساب التقاليد الصناعية مصدر الخبرة العلمية ، قيقول عنها (( ... والصنائع أبداً يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد ... )) المقدمة ص 428 ، على الرغم من أنه ذكرها في المقدمة ضمن فصل المعاش وطلب الرزق ، ولم يذكرها ضمن فصول العلم ، كما تطرق أبن خلدون في دراستة لمكونات المعرفة العلمية في المجتمع من خلال تقديم وصف دقيق لما كان يُعد علماً في ذلك العصر وقد التزم في ذلك بالمنهج التقليدي الذي كان معروفاً منذ العصر العباسي ، حيث قسمت العلوم إلى علوم نقلية ، تشمل علوم الشريعة واللغة العربية وما مائلها ، وعلوم عقلية ، وتشمل الطب والفلك والرياضيات وما يقع ضمن هذا الإطار من العلوم التي كانت معروفة في ذلك العصر .
كذلك بحث أبن خلدون في عوامل التطور العلمي ويمكن اعتبار هذا المجال دليلاً واضحاً على مدى العمق الفكري الذي وصل إليه في تحليله لظاهرة العلم ، حيث أدرك أن حركة التطور العلمي في المجتمع لا تتكون بصورة تلقائية ، وإنما نتيجة عوامل مختلفة تحدث هذا التغيير .
ولقد اتبع في دراسته المنهج الوصفي والتحليل والمقارنة ، فتبين له أن هناك علاقة بين العمران والتطور العلمي ، فكلما كانت الزيادة والتطور في المجال الأول ظهر أثر ذلك إيجابياً في الاخر وللتدليل على ذلك لجأ ابن خلدون إلى ما يقدمه التاريخ من أوصاف لتاريخ المدن والحضارات ومن الأمثلة التي يذكرها ، ما يراه ماثلاً في عهده من ضعف التعليم في بلاد المغرب ، والذي يوازيه حينئذ ضعف عمراني اضحت تعاني منه هذه البلاد ، في حين أنه عندما كانت عواصم هذه البلاد في أوج ازدهارها العمراني مثل القيروان وقرطبة فقد كان (( ... فيهما للعلوم والصنائع اسواق نافقة وبحور زاخرة ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما وماكان فيهما من الحضارة ، فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلاً ... )) المقدمة ص 431.
وكذلك كان الحال بالنسبة للبصرة والكوفة وبغداد حيث كانت تُعد من الامصار العظيمة لازدهار عمرانها ، فغدت معادن العلم ، فلما خربت وطالتها يد الفتن والنكبات ، خبا العلم فيها أيضا .
ويقارن أبن خلدون بين تلك المدن وحال القاهرة في عصره ، حيث أمتد عمرانها واتصل عبر العصور المختلفة ، فأضحت موطنا للعلم ومركزاً من مراكزه الراسخة ، وبخاصة في عصر المماليك .
ولتعليل اسباب العلاقة بين العمران والعلم يقدم ابن خلدون تصورا ً تحليلياً يتكون من ثلاثة عوامل أساسية ، لا توجد إلا في المجتمع المتحضر ذي النشاط العمراني الواسع ، أولها العامل الاقتصادي إذا اعتبر أن الانفاق على العلم ومؤسساته سيسهم في تقدمه وتطويره ، كما هو مشاهد في القاهرة إبان عصري الايوبيين والمماليك ، حيث كثرت لأوقاف على مؤسسات التعليم فترتب عن أن ((...عظمت الغلات والفوائد وكثر طلاب العلم ومعلميه بكثرة جرايتهم منها وارتحل إليها الناس في طلب العلم من العراق والمغرب ونفقت بها اسواق العلوم وزخرت بحارها ... )) المقدمة ص 435.
وثاني هذه العوامل هو العامل الاجتماعي فتكوين المجتمع وثقافته عنصر رئيس في بناء الإنسان القادر على الإبداع العلمي . ويرى أبن خلدون أن ذلك نابع بصورة أساسية مما يتحلى به المجتمع من آداب ومبادئ وقيم ، التي بدورها تزيد من خبرة الانسان الذهنية فتجعلة أكثر ((... ذكاءًَ في عقلة وإضاءة فكره ... )) المقدمة ص 433.
أما ثالث العوامل فنابع من الأساليب التربوية المتبعة في مؤسسات التعليم ، فقد لاحظ ابن خلدون أن هناك فرقاً في أساليب التعليم بين شرق العالم الإسلامي ومغربة في عصره ، إذ انها في المشرق تقوم على أساس تنمية ملكة التفكير لدى الطلبة . بالاضافة إلى تلقينهم المعرفة العلمية .
وكان تحقيق ذلك يتم عن طريق المناقشة والحوار العلمي ، حيث يقول عن ذلك (( ... وأيسر طرق هذه الملكة فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها ...)) المقدمة ص 431 . ومن خلالها ينطلق الإنسان نحو الإبداع الفكري ومن ثم التطور العلمي في المجتمع .
اما في بلاد المغرب فإن الامر ينحصر في تلقين المعرفة وحفظها من قبل الطلاب ، دون تنمية ملكة التفكير ، مما جعلهم غير قادين على الابداع وتطوير العلوم عندهم ، فاعتبر أبن خلدون أن ذلك من الاسباب التي جعلت المشارقة يتفوقون على المغاربة ، وليس كما يعتقد بعض رحٌالتهم أنه بسبب تفوق المشارقة العقلي .
وعلى الرغم من أهمية الأمن في تطور العلم وازدهاره فإن ابن خلدون لم يضعه ضمن العوامل المؤدية إلى تطوره ، إذا اكتفى بالاشارة إليه في ثنايا حديثه عن عوامل التطور العمراني .
أن الازدهار العمراني بعوامله يعتبر المؤثر الخارجي الذي يسهم في تطور العلم كما يرى ابن خلدون ، وهو بذلك يضع الاسس الفلسفية التي انطلقت منها بعض الدراسات الحديثة في تاريخ العلم ، كما هو مشاهد عن جوزيف نيدهام في دراستة عن (( العلم والحضارة في الصين )) وروبرت مارتن في بحثه القيم عن (( العلم والتقنية والمجتمع في القرن السابع عشر في إنجلترا)) وتوبي أ . هاف في كتابة \" فجر العلم الحديث الاسلام الصين الغرب \" بيد أن ابن خلدون لم يقتصر في دراسته على المؤثر الخارجي وإنما تجاوز ذلك إلى محاولة اكتشاف أثر الدورات الداخلية للعلم على تطوره ازدهاره ، وأبان أن كثرة التأليف في مجال من مجالات العلوم ، قد يوسع نطاق المعرفة فيه بحيث يصعب على المختصين فيها استيعابها ، ويعتبر أن ماحدث في الفقه المالكي مثالاً بارزاً على ذلك ، حيث كثرت فيه التصانيف بحيث يفني الطالب عمره كله ولم يتسن له تحصيلها بأكملها . فيقترح لمواجهة ذلك ان يتم إعادة تجميع المعرفة ووضعها ضمن قوالب جديدة تختصرها وتبين النافع منها ، على أن لا يترتب عن ذلك إلاخلال بالحقائق العلمية التي تتضمنها هذه المصنفات .
ومما يجدر ذكره هنا أن دراسة التكوين الداخلي للعلم ، اسلوب اتبعه توماس كون في كتابة ((بنية الثورات العلمية)).
بقلم
الدكتور عدنان بن محمد الحارثي
عميد كلية المكتبات بجامعة أم القرى
الدكتور عدنان بن محمد الحارثي
عميد كلية المكتبات بجامعة أم القرى
المصادر والمراجع :
ابن خلدون ، عبدالرحمن بن محمد الحضرمي ، المقدمة ، بيروت ، دار الكتاب العربي .
بانبيلة ، حسين عبدالله ، ابن خلدون وتراثه التربوي ، بيروت ، الطبعة الاولى ، دار الكتاب العربي 1404هـ /1984م .
توبي أ . هاف ، فجر العلم الحديث السلام الصين الغرب ، ترجمة د . احمد محمود صبحي ، الكويت ، عالم المعرفة ، 1417هـ /1997 م
توماس كون ، بنية الثورات العلمية ، ترجمة شوقي جلال ، الكويت ، عالم المعرفة 1412هـ /1992 م .