أهمية تدوين الرحلات عن الحرمين الشريفين عبر العصور
2016/02/06
بقلم | صاحب عالم الأعظمي الندوي
لماذا لا يدون الرحالة الجدد (في هذه الفترة التاريخية التي نجايلها ونعاصرها ) رحلاتهم إلى الحج والعمرة ؟
الجواب: من المعلوم تاريخيًّا أن الرحلة جزء أصيل للمعرفة عن أحوال الشعوب في جميع المجالات. وبما أن عملية الرحلة قديمة قدم التاريخ الإنساني، فهي وسيلة من أهم وسائل الاتصال بين الشعوب والتعرف على العالم الخارجي. ورغم أنها بدأت في أول الأمر بصورة بسيطة إلا أنها مع مرور الوقت اتسع مجالها وتطورت أشكالها وموضوعاتها، وأصبحت سمة من سمات الإنسان المتحضر. وكما أن العرب لم يغفلوا قيمتها في حياتهم لا سيما بعد أن أخذ الإسلام في الانتشار في المناطق الشرقية والغربية، وأصبح لهم قصب السبق في هذا المجال وتسجيل انطباعاتهم عن أحوال الشعوب في المناطق التي زاروها لا سيما في العصور الإسلامية، كذلك لم يفتها الشعوب الأخرى حيال المناطق العربية خاصة الجزيرة العربية والحرمين الشريفين، ومنذ القرن التاسع الهجري وصاعدًا وتحديدًا في عصر الاستعمار الأوربي للمناطق الشرقية وبعده، تبلورت قيمة الرحلة عند الأوروبيين وعظم الاهتمام بها لديهم، ومن هنا كثر تدوين الرحلات باللغات الأوروبية عن الجزيرة العربية والتي تحمل في طياتها المعلومات التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية إلخ. وليس من الحق أن نجزم بأن كتب الرحلات لا يتم تدوينها في العصر الحالي لا سيما فيما يتعلق بالحج وأحوال الحرمين الشريفين السياسية والعمرانية، إنما تغير نمط الكتابة عنهما، فإن كان الرحالة الشرقيون اهتموا في القرون الماضية بتسجيل انطباعاتهم عن الأحوال الدينية والثقافية في الحرمين الشريفين- وذلك لأن السعي لأداء الحج والعمرة وفي طلب العلم والاستفادة من العلماء والفقهاء في الحرمين الشريفين كانت من أهم البواعث والعوامل التي كانت تدفع المثقفين من زوار الحرمين الشريفين، إلى تسجيل أحوالهما بصورة خاصة وعن أحوال الجزيرة العربية بصورة عامة- فإن الكثير منهم في العصر الحالي سجلوا رحلاتهم كسيرة ذاتية وكدفتر يوميات بلغاتهم الشرقية وتناولوا فيها جوانب عديدة عن الحرمين الشريفين. وكذلك نجد الحال عن الرحالة والكتاب الأوروبيين، وإن كان التركيز عندهم على تسجيل الأوضاع الجغرافية والسياسية والاجتماعية عن الجزيرة العربية أكثر بالنسبة للأوضاع الدينية والثقافية. وعند النظر في كتب الرحلات الأردية والهندية نرى أن التغير ظهر منذ بداية القرن الرابع عشر الهجري، إذ اهتم الرحالة بإعداد الأعمال المتعلقة بمناسك الحج والعمرة، وكان الغرض منها إرشاد الحجاج الذاهبين إلى الحرمين الشريفين، فتناولوا أحكام الحج والعمرة والمسائل الشرعية الضرورية المتعلقة بهما، إلى جانب وضع الخرائط، والصور للطرق، والأماكن المقدسة والمعالم الأثرية الدينية، والتعريف بها. وعند النظر في كتب الرحلات باللغات الهندية للعصر الحالي، نرى أن نمط الكتابة تغير كثيرًا بالمقارنة بالرحلات الماضية. وفي أثناء جمع كتب الرحلات باللغة الأوردية وحصرها كملحق ببلوغرافيا للبحث المقدم للندوة، وجد الباحث أن كتب الرحلات باللغة الأوردية للزوار الهنود للحرمين الشريفين في العصر الحالي تَرْبو على أكثر من مائة وخمسين كتابًا ما بين الرحلات والتاريخ والسيرة الذاتية، والتي كتبها الرحالة الهنود في هيئة مذكرات بعد العودة إلى الهند، وتناولوا فيها انطباعاتهم الدينية بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى ذكر كثير من الأحوال للحرمين الشريفين والمعلومات التاريخية والجغرافية عنهما. ونفس النمط من الكتابة نجده في كتب الرحلات باللغة الإنجليزية واللغات الأوروبية الأخرى في العصر الحالي، وأضرب هنا مثالًا واحدًا لتوضيح هذا الأمر، اطلعت على كتاب (Mecca: The Sacred City) للكاتب البريطاني من أصل باكستاني، ضياء الدين سردار، والذي نشر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1436هـ/2014م. ويعطي هذا الكتاب معلومات مختلفة عن مكة وواقعها وعمارتها وتاريخها، منذ إرساء قواعد البيت العتيق بيد خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، وما تلا ذلك من أحداث وتطورات امتدت إلى القرن الحالي، وهو بذلك، يتناول الجوانب التاريخية، والدينية، والاجتماعية، والثقافية والعمرانية لمكةَ المكرمة بالدرجة الأولى. وبما أن صاحب الكتاب سنحت له الفرصة أن يقيم في المملكة العربية السعودية لسنوات عديدة في النصف الأول من القرن الخامس عشر الهجري، مما أتاح له التعرُّفَ إلى مواقع عديدة ومهمة من المعالم الإسلامية وثَّقها بالصور في كتابه هذا. وبجانب قيامه بتسليط الضوء على الأحداث السياسية التي عرفتها مكة عبر العصور إلى القرن الخامس عشر الهجري، تعرض الكاتب فيه كثيرًا للتحولات العمرانية، والمدنية المطردة التي شهدتها منطقة مكة في العقود والسنوات الأخيرة. وبجانب الكتب الأوردية والإنجليزية ثمة وثائق وتقارير مهمة محفوظة عن الحرمين الشريفين والمملكة العربية السعودية في دور الوثائق الهندية للعقود الأخيرة، والتي يتم إعدادها سنويًا بواسطة السفارة الهندية لوزارة الخارجية الهندية التي تسمح للباحثين والدارسين بالاطلاع عليها والاستفادة منها في بحوثهم، وذلك بعد أن يمضي على إصدار هذه الوثائق وتلك التقارير من أربع إلى خمس سنوات. وقد سنحت للباحث الفرص مرارًا للبحث عن الوثائق الخاصة بالمملكة العربية السعودية والجزيرة العربية لعصر الاستعمار البريطاني وللنصف الثاني من القرن الماضي. وجمع الباحث بيانات بعض هذه الوثائق والتقارير لوزارة الخارجية الهندية عن المملكة العربية السعودية لا سيما التي تتعلق بالحج والعمرة إلخ والتي يصل عددها فقط للعام 1367هـ/1948م إلى أكثر من مائة ملف للوثائق والتقارير، علمًا بأن كل ملف يحمل في طياته أكثر من 50 وثيقة وتقريرًا، تتناول جوانب عديدة عن الأوضاع الدينية والثقافية والسياسية والاقتصادية والتجارية للحرمين الشريفين إلخ. وإن صح التعبير فإن هذه الوثائق أيضًا تُعد من مواد الرحلة تتعلق بالذين زاروا الحرمين الشريفين وأحوالهما الدينية والاجتماعية إلخ. ويمكن للباحثين والدارسين الاعتماد على هذه الوثائق وتوظيف موادها المختلفة في دراسة الأوضاع الدينية والسياسية والاقتصادية في الحرمين الشريفين والعلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين في العصر الحالي. هذا، ولو قارنا مواد هذه الوثائق والتقارير السياسية والدبلوماسية مع كتب الرحالة المسلمين والأوروبيين القدماء، لوجدنا تشابهًا كبيرًا في عملية سرد الوقائع التاريخة عن النواحي التي سجلها أولئك الرحالة والدبلوماسيون عن الأحوال السياسية والاقتصادية والتجارية والدينية والثقافية للحرمين الشريفين والجزيرة العربية في القرون الماضية.
ومن هنا فليس من الصحيح أن نقول إنه ليس هناك اهتمام لدى زوار الحرمين الشريفين بتدوين الرحلات عن الحرمين الشريفين والجزيرة العربية وتسجيل وقائعها التاريخية في الوقت الحالي.
المصدر: صحيفة مكة