جبــــل ثبير
خلال فترة دراستي قبل سنين عديدة في وسط ولاية كلفورنيا بغرب الولايات المتحدة الأمريكية كنت أحرص على الذهاب في رحلات خلال بعض عطلات نهاية الأسبوع إلى جبال منطقة BIG SUR وكنت أعشق طلوع بعض تلك الجبال وتسلقها والمبيت في أعلاها ومشاهدة بعض أنواع من الحيوانات التي تعيش على سفوحها سواء المتوحش منها مثل الدبب، أو شبه الأليف وهي الأكثر. إلا أن متعتي الحقيقية كانت في تسلق تلك الجبال والمبيت بأعلاها مفترشاً الأرض وملتحفاً السماء وناظراً إلى النجوم ولكنني لم أطلع على أي أدبيات تحكي تاريخ تلك الجبال وتربطها بتاريخ منطقتها.
وعندما زرت جبالاً أخرى في أوروبا تكررت تجربتي واستمتعت بصعود تلك الجبال الشاهقة وقضيت أوقاتاً على سفوحها وقرب قممها ولكنني لم أتعرف على تاريخ تلك المناطق من قصص جبالها.
وعندما تشرفت بالعمل بمركز أبحاث الحج (معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج ) وشاركت في بعض دراسات المركز التي كانت تتطلب معرفة الكثير عن جبال مكة المكرمة والمدينة المنورة ، كدراسات حدود الحرم وغيرها ، كنت اصعد بعض هذه الجبال كلما سنحت لي الفرصة ، وكان ذلك بدئا بجبل حراء (النور) وجبل (ثور) ثم غيرها من جبال مكة المكرمة والمدينة المنورة واكتشفت أن جبال هاتين المدينتين تختلف عن غيرها من الجبال كون الكثير منها هي خازنة لذاكرة تاريخ البلدين المقدستين . ولا شك أن ذلك ينطبق على كثير من الجبال في مناطق أخرى من وطننا الغالي المملكة العربية السعودية .
فهذا جبل قعيقعان يحكي قصة جرهم وقطورا وحربهم للسيطرة على مكة0 وذلك جبل المطابخ في مكة يروي قصة تبع الحميري عندما قدم إلى مكة قبل الإسلام ليهدم البيت الحرام فأصابه مرض فنذر إن شافاه الله أن يُطعم أهل مكة فلما شافاه الله وفّى بنذره وجعل مطابخه على احد جبال مكة فسمي جبل المطابخ ولا زال اسمه كذلك.
وهذا جبل خندمة يسجل ، قصة خالد بن الوليد وصفوان بن أمية إبان ملحمة فتح مكة إذ يقول صفوان لامرأته:
إنك لو شاهدت يوم الخندمة .
إذ فر صفوان وفر عكرمة .
ولحقتنا بالسيوف المسلمة .
يفلقن كل ساعد وجمجمة .
ضرباً فلا تسمع إلا غمغمة .
لهم نهيت حوله، وحمحمة .
لم تنطقي باللوم أدنى كلمة .
وكان قد قال قبل ذلك:
إن يقبلوا اليوم فما بي علة .
هذا سلاح كامل وآلة .
وذو غرارين سريع السَّلة .
ومن الجبال التاريخية المعروفة قرب مكة المكرمة جبل (ثبير) ، الذي ورد ذكره في المصادر المختلفة0 وهو من جبال مكة المشهورة .
مؤرخ مكة أبو الوليد الأزرقي من اهل القرن الثالث الهجري في احد اهم المصادر التاريخية المكية «اخبار مكة وما جاء فيها من الاثار» والذي حققه رشدي الصالح ملحس ، تحدث باسهاب عن ثبير0 يقول الأزرقي عن الأثبره:
(1) ثبير غيناء : هو المشرف على بئر ميمون وقلته المشرفة على شعب علي رضي الله عنه ، وعلى شعب الحضارمة بمنى وكان يسمى في الجاهلية (سميرا) ويقال : لقلته ذات القتادة ، وكان فوقه قتادة وعنها يقول الحارث بن خالد :
الى طرف الجمار فما يليها
الى ذات القتادة من ثبير
(2) ثبير : الذي يقال له : جبل الزنج ، وكانوا يحتطبون منه ويلعبون فيه0
(3) ثبير النخيل : ثبير النخيل ، ويقال له الأقحوانة ، الجبل الذي به الثنية الخضراء يمر سيل منى بينه وادي ثبير0
(4) ثبير النصع : وثبير النصع ، الذي فيه سداد الحجاج وهو جبل المزدلفة الذي على يسار الذاهب الى منى وهو الذي كانوا يقولون في الجاهلية اذا ارادوا ان يدفعوا من المزدلفة : اشرق ثبير ، كيما نغير ، ولا يدفعون حتى يرون الشمس عليه0
(5) ثبير الاعرج : وثبير الاعرج ، المشرف على حق الطارقيين بين المغمس والنخيل ، والنخيل هي بساتين ابن عامر التي كانت في جهة عرفة0
وذكر الفاكهي وهو من علماء القرن الثالث الهجري أيضاً (ثبير) في كتابه المعروف « أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه» والذي قام معالي الشيخ الدكور عبدالملك بن دهيش بتحقيقه وأورد ما قاله بعض الشعراء عن هذا الجبل فذكر قول قيس بن ذريح وهو من شعراء العصر الأموي مات سنة (68)هـ اذ قال :
حلفت بمن أرسى ثبيراً مكانه
عليه ضباب فوقه يتعصب
كما قال أيضاً:
لا أنسى من الاشياء لا أنسى مجلسا
لنا ولها بالسفح سفح ثبير
كما أورد الفاكهي قول السَلَمي ، وهو صحابي شاعر من سادات قومه ، ادرك الجاهلية والاسلام واسلم قبيل الفتح وكان يوعد حيا من العرب كانوا يطلبون السلم فقال :
الا لا تطمعوا منا بسلم
طوال الدهر ما أرسى ثبير
كما جاء في كتاب « معجم ما ستعجم من أسماء البلاد والمواضع» من تأليف عبدالله بن عبدالعزيز البكري الاندلسي المتوفى سنة 487هـ والذي قام بتحقيقه الدكتور مصطفى السقا الأستاذ بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول ، أن ثبير : بفتح أوله ، وكسر ثانية ، بعده ياء وراء مهملة ، جبل بمكة ، وهي أربعة أثبرة وللذي بمكة كانوا يقولون في الجاهلية:
أشرق ثبير ، كيما نغير
ويستطرد الاندلسي قائلاً : « هو الجبل الذي صعد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، فرجف به فقال اسكن ثبير ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيد
وقد روى هذا في حراء ، وهذا هو ثبير الأثبرة»
والثاني : ثبير غينا ، بالغين العجمة
والثالث : ثبير الاعرج
والرابع : ثبير الاحدب
وفي كتاب « الامكنة والمياه والجبال ونحوها المذكورة في الاخبار والاشعار» لصاحبه ابن الفتح نصر بن عبدالرحمن الاسكندري المتوفى سنة 561هـ تقريباً والذي قام العلامة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله بإعداده للنشر ورد أن :
ثبير : جبل ضخم بين عرفة ومكة ، وهذا الاسم له ولثلاثة جبال ، ولكل واحد سمة تميزه ، ثبير غينا : وهي قُلة على رأسه وثبير الاحدب ، وثبير الاعرج0
يقول الاسكندري : اذا ثني ثبير اريد بهما ثبير وحراء.
ويبين الشيخ حمد الجاسر رحمه الله أن ياقوت اطال الكلام على ثبير فذكر الاختلاف في عدد الأثبرة ، وحدد مواقع بعضها ، فيحسن الرجوع اليه ، والى اخبار مكة للأزرقي وليس منها ما يعرف باسمه القديم ، بل تغيرت اسماؤها ، وثبير غيناء يعرف اليوم بجبل الرخم مقابل لجبل حراء يمر الطريق بينهما .
أما ابن منظور المتوفى سنة 711هـ - 1311م فيعرف في لسان العرب ثبير ، فيقول:
ثبير : جبل بمكة ويقال : أشرق ثبير كيما نغير وثبير ، وهي أربعة اثبرة : ثبير غيناء ، وثبير الاعرج ، وثبير الأحدب ، وثبير حراء .
وعن ثبير : يقول الشيخ عاتق بن غيث البلادي في معجمه : ثبير : بالفتح ثم الكسر ، وياء ساكنه ، وراء.
يقول البلادي إن الجمعي يقول الأثبرة اربعة : ثبير غيني ، الغين معجمة مقصورة ، وثبير الأعرج ، وثبير آخر ذهب عني اسمه ، وثبير منى ، وقال الأصمعي : ثبير الاعرج هو المشرف بمكة على حق الطارقيين ، قال وثبير غيني ، وثبير الاعرج وهما حراء وثبير ، وحكى ابو القاسم محمود بن عمر : الثبيران ، بالتثنية جبلان مفترقان يصب بينهما أفاعيه ، وهو وادي يصب من منى ، يقال لأحدهما ثبير غيني وللآخر ثبير الاعرج ، وقال نصر : ثبير من اعظم جبال مكة بينها وبين عرفة ، سمي برجل من هُذيل مات في ذلك الجبل فعرف به ، واسم الرجل ثبير ويقول الشيخ البلادي انه يعتقد ان ثبيراً الذي تشرق الشمس على رأسه هو ثبير الاثبرة ، وقال انه حاول رصد ذلك أثناء حجه فرأى الشمس تشرق على متونه الشرقية قبل شروقها على ثبير النصع ، وأن أنظار الحجاج تكون من الطبيعي الى الامام وليست الى الخلف.
هذه قبسات من ملامح تاريخ (ثبير) احد جبال مكة المكرمة كما جاءت في بعض المصادر التاريخية وهو الجبل الذي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد إليه وأمره أن يثبت عندما اهتز وكانت العرب في الجاهلية توقت دفعها من مزدلفة بشروق الشمس عليه ، جغرافيته جزء من تاريخ البلد الحرام وقصته إحدى فصول قصص تاريخ مكة المكرمة ، يبين كيف يمكن للجغرافيا أن تكون ذاكرة للتاريخ .
كتبه
الدكتور عدنان بن عبدالبديع اليافي
الأربعاء, 10 يونيو 2009
الدكتور عدنان بن عبدالبديع اليافي
الأربعاء, 10 يونيو 2009