الشريف الإدريسي وخريطة العالم الجديد
السبت، ٢ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٦
مسفر بن علي القحطاني
أبو عبدالله محمد بن محمد الإدريسي، المولود من أسرة شريفة الأصل في سبتة المغربية سنة 493هـ الموافق 1099م، يعتبر من أهم الجغرافيين على مستوى العالم، وأشهر من رسم خريطة للعالم، وهي أهم إنجاز حضاري وعلمي تحقق في القرون الوسطى في مجال الجغرافيا وتحديد شكل العالم، قضى من أجل إنجازها قرابة خمسة عشر عاماً، يقول ول ديورانت عن خريطة العالم التي رسمها الإدريسي وغيرها من خرائط لبعض البلدان: «كانت هذه الخرائط أعظم ما أنتجه علم رسم الخرائط في العصور الوسطى، لم ترسم قبلها خرائط أتم منها، أو أدق، أو أوسع وأعظم تفصيلاً. وكان الإدريسي يجزم كما تجزم الكثرة الغالبة من علماء المسلمين بكرويَّة الأرض، ويرى أن هذه حقيقة مُسلَّم بصحتها» (قصة الحضارة 13/ 358).
هذه الشخصية الفريدة متعددة الموهبة والقدرات لم يُكتب عنها الكثير، ربما لأنها كثيرة الترحال والانتقال، وهناك سبب آخر أن هذه الشخصية العلمية اختارت العيش في صقلية المسيحية إبان حكم الملك روجر الثاني، لهذا كتب عنها الغربيون أكثر من المسلمين، فالشريف الإدريسي هاجر عقله النابه من بلاده الأندلس التي حطمتها الخلافات والحروب إلى بلد نصراني يرحب بالعلماء ويكرم وفادتهم، واشتغل في بلاط ملكهم وتعاون معه على فك ألغاز النجوم والأفلاك ومعرفة الطرق البرية والبحرية وأوقات الفصول والمناسبات، من خلال بوصلات وإسطرلابات متنوعة، فأنتج هذا التعاون البحثي تلك الخريطة التي استعان بها ملاحو العالم لقرون طويلة على معرفة اتجاهاتهم إلى أين؟! (انظر ترجمته: الوافي بالوفيات للصفدي 1/ 73، الإعلام للزركلي 7/ 24).
تناول هذه الشخصية العالمية قد يشجع على فتح تساؤل مهم له علاقة بفقدان الإنسان العربي بوصلة المسار الصحيح إلى أين؟! والرغبة في معرفة اتجاهات المخارج عند حدوث الأزمات في أوقات الفتن المدلهمة، إن إعادة الاهتمام بسير الشخصيات التي عكفت على خدمة العالم الحائر كي لا يضيع في خضم البحار وسهوب الصحارى يقدح في النفوس الأمل بتكرار الحاجة لمن يعيد رفع شعلة الاهتداء على رؤوس الفنارات المتخفية خلف دخان الحاضر وضباب المستقبل، رغم أن هذا العالم الكبير المترامي الأطراف أصبح صغيراً جداً كمنزل مفتوح النوافذ والأبواب، وكل من يعيش فيه يحمل قناته الإخبارية وكاميراته المحمولة بين أصابعه، ويستطيع أن ينشر كل دقيقة ما يحدث حوله! ومع ذلك يُصاب الناس بالحيرة وتختلط الدروب ويتخبط الكثير بحثاً عن الاتجاه الصحيح!
«نرى في أنحاء العالم اضطراباً وصراعاً لم تواجه الولايات المتحدة سلسلة أزمات أكثر منه تنوعاً وتعقيداً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية»، بهذه العبارة التي قالها هنري كيسنجر يفتتح عدد من الباحثين كتابهم (خيارات أميركا في عالم مضطرب، نشر مؤسسة راند، الطبعة الأولى، تموز - يوليو 2015) فإذا كان الأميركيون وهم شرطي العالم اليوم صورتهم عن العالم كالحة وتتسم بالاضطراب والتأزم المعقد، وهم في الغالب من يصنع الحدث أو يقفز فوقه، فإن الفرد العربي يعيش حيرة حقيقية، ويشعر بمتاهة لا نهاية لها، ولا يدري عما سيسفر عنه الصباح، سواء كان ذلك الغموض في السياسة أو الاقتصاد أو الخطاب الديني أو عمل مؤسسات الدولة، بل أحياناً يرى نفسه كالأعمى يجري في حقل من الألغام، كما هي حاله في سورية والعراق واليمن وليبيا والصومال ولبنان وفلسطين، وأتمنى أن لا تزيد هذه القائمة طولاً! وبخواطر لا تخلو من الحيرة أعلق على حالتنا الراهنة في ما يأتي:
أولاً: يتساءل كثر ما هو المستقبل الآتي لمجتمعاتنا وأجيالنا حيال أزماتنا التي اشتعلت بعد الربيع العربي، واشتعلت معها اصطفافات وأحلاف كبرى خرجت لتواجه نتائج هذه الثورات وتبعاتها التي ولّدت إشكالات كبرى وعميقة لم يعهدها العالم من قبل، أهمها تلك الحروب الطائفية والأهلية التي قتلت مئات الآلاف وهجّرت الملايين ودمّرت مدناً وحواضر وأرجعت تلك المجتمعات المكلومة ألف عام إلى الوراء، فتجيّش الناجون من الموت وتحالفوا مع السلاح ونطقوا به في كل مطلب وصنعوا بالتالي خنادق وحدوداً لا تلتقي إلا على موائد القتل، وكل متأمل في هذا الحاضر العربي يحزن لأحواله، واستشراف غده يثير الفزع من مآلاته، ومع ذلك لنحاول أن نتنبأ بالمستقبل لعلنا نبصر وميضاً من نور يُشعل في قلوبنا الأمل من جديد.
ثانياً: إن استشراف المستقبل ليس مجرد معطيات علمية وتنبؤات إحصائية تعتمد على أرقام في الماضي والحاضر وأن معطيات الحاضر ستصنع نتائج المستقبل، كما هي غالبية الدراسات الاستراتيجية عندما ترغب في معرفة احتياجات أي مدينة من المدارس والمستشفيات بعد ثلاثين عاماً، فإن النمو السكاني والاقتصادي في الغالب يحمل معه أرقاماً تُقدِّر كمية هذا الاحتياج المستقبلي، بينما الإشكالات الفكرية والاجتماعية والسياسية ومعالجة الأزمات لا تسير وفق هذا الخط التراتبي، ولعلي أميل مع إدغار موران الذي يرى أننا لن نفهم الماضي إلا بعد سلسلة من تجارب الحاضر ووقائعه التي أنتجها الماضي، حينئذ سنفهم الحاضر بعدما أدركنا معاني أحداث الماضي في شكلها الواضح الراهن، ويسمِّي هذه المهمة الفاحصة بالنظرة الاسترجاعية التي ستقوم بالمهمة الاستشرافية، فتاريخ ١٧٨٨، وما قبله لم يُعرف أنه سيولّد انفجار الثورة الفرنسية إلا بعد قراءة بعدية جعلتنا نفهم جيداً تلك الإرهاصات والدوافع السُننية، من ظلم كهنوتي وغياب العدالة والفقر المستشري وانعدام الحريات وغيرها، فهذه الأسباب ساهمت في خلق الحاضر الذي أنتج ثورة عام 1789 في فرنسا، وكلما أعدنا قراءة الماضي من خلال تفاعلات وتطورات الحاضر اكتشفنا أن الاشتراكية كانت صورة من هذا التوالد المتكرر الذي بدأ مع الثورة الفرنسية، وربما تكون ثورات الربيع العربي تفاعلاً آخر جاء نتيجة سلسلة من الأحداث التي سبقت حالة الانفجار الثوري، وعادةً ما يكون اجتماع تلك العوامل محفزاً لكل ثورات التاريخ، نخلص من ذلك إلى أن الحاضر يُفهم من قراءة دقيقة للماضي وكذا المستقبل يُفهم من قراءة دقيقة للحاضر (انظر: إلى أين يسير العالم، تأليف: إدغار موران، ترجمة أحمد العلمي، الدار العربية للعلوم ناشرون الطبعة الأولى ٢٠٠٩، ص ٨ - ١٣).
ثالثاً: قراءة الحاضر ببصيرة ضرورية جداً لإدراك تنبؤات المستقبل، قراءةً فاحصة لا ينبغي أن تفوّت كلمة إلا وقد وعتها، خصوصاً تلك المجهريات الصغيرة والأحداث التي تقع في الزوايا المظلمة، فلا أظن أن الأجهزة الأمنية التي بلغت الغاية في الحذر والتجسس والضرب من حديد لكل من يقف أمامها، كما في مصر وتونس على سبيل المثل، تنهار بهذه السرعة أمام تلك الدردشات التافهة في «فايسبوك» و «تويتر»، ولم يكن أحد يتصور أمنياً أن يصبح وائل غنيم ومثله من الشباب (المودرن) أخطر من تيارات الإسلام السياسي المحظورة والمقموعة في السجون، كان تلك الأشياء الخافتة البعيدة من الضوء هي صانع الأحداث والتحولات التاريخية، وليس ما تعرضه شاشات التلفزة من تصريحات وأخبار ومشاهد مسيّسة.
رابعاً: إذا كان الحاضر ضرورياً لمعرفة المستقبل، فإن المستقبل ضروري أيضاً لمعرفة الحاضر، لأننا إذا اعتمدنا على القراءة الاستراجعية وانتقلنا إلى المستقبل، فإنه سيصبح حاضراً والحاضر سيصبح ماضياً، وعلى حسب السيناريوات المتوقعة سيظهر أمامنا لاعبون جدد وأبطال على وشك الانتهاء وصيرورات مختلفة قد تتحكم بالعالم الآتي، هذه الحركة نحو التغيير عادة ما نختزلها في سبب أو اثنين بينما طبيعة التغيير الواقع أو المتوقع محمّل بعلل مركبة ومتناقضة أحياناً، فهناك إبداعات ذكية وكذا انحرافات خطيرة، واتجاهات تقابلها اتجاهات مضادة، وأزمات وانقلابات، ووسائل أصبحت غايات والعكس، كل تلك العلل تبحث عن أحداث تنتجها في الواقع، وربما لا يعلم أحد الشكل النهائي الذي يمكن أن تنتجه تلك العوامل إذا اجتمعت، ولعل صورة مقطعية لمجتمعاتنا سنشاهد من خلالها للوهلة الأولى، شباباً عاطلاً، وطموحات محبوسة، واتصالات متوافرة، وطبائع متمردة، وتنافساً استهلاكياً، وعالماً شبكياً يُدار بخفة ونعومة وهيمنة، فهذه العلل والأدوات قد تنتج تفاعلاً مذهلاً وسريعاً لا ينتبه له الغافلون.
خامساً: إذا سلّمنا بأن عالم اليوم متسارع، لا يقيني، غامض، مضطرب، صعب الخضوع، مادي، خشن، استهلاكي، طماع، فإن القوى العالمية خصوصاً الغربية التي أدمنت الهيمنة وتحكمها عقلية استعمارية استحواذية لا بد من أن تفكر في أدوات تحكم قبضتها وسيطرتها على هذا العالم النامي والمتفلت، ومع ذلك تبدو الأمور لنا في عالمنا العربي فوضوية والعنان متروك لمن يغامر بفرض نفسه، بينما المشهد الكلي من أعلى يعتبر ما يحدث (فوضى مُحكمة) مرسومة بدقة عالية رغم عبثيتها، وكل خروج عن سيناريو المشهد المقرر الذي أراده المخرج، يحصل بعده مؤتمر في واشنطن أو جنيف أو موسكو أو فيينا فيضبط اللعبة من الانفلات، أو يختفي هذا الخارج عن المشهد مباشرةً بالموت أو بالسجن أو بالصمت المطبق، لهذا كانت مطالب الجماهير العربية وبروز الإسلام السياسي معها، أدوات هيمنة على الساحة بعد الربيع العربي، لكنها في الباطن تُعدُّ خروجاً عن المشهد المرسوم، لذلك كانت الأحداث التي بعد هذا الربيع الخريفي، جاءت لأجل ضبط المسار والتحكّم في الأوضاع، حتى لا ينفلت مرة أخرى، مع إرغام المارد الجماهيري بالعودة خائفاً إلى القمقم، وتأديبه بأوضاع مأسوية تجعله يندم ويحزن أن هتف يوماً: «الشعب يريد...»!
سادساً: إمبراطوريات الشرق والغرب اليوم تنخرها عوامل مأزومة رغم الهيمنة الصلبة، ما زادها وحشية نحو تزييف كل شيء والخداع بكل شيء. وهذا ما جعل عدداً من الموارد والكليات الإنسانية مجالاً للهيمنة من الأقوياء والاستحواذ الناعم أو الخشن عليها، وتطويعها بالرغبة أو الرهبة للانسجام مع خرائط العالم الجديد، وهي من وجهة نظري خمس قضايا رئيسة هي مكمن الصراع والاستحواذ: الطاقة والشباب والتقنية والدين والعلم، وقد يستغرب القارئ دخول العلم في سياقات الهيمنة رغم طبيعته الموضوعية التي لا تقبل الخضوع، بيد أن إدغار موران يزيل هذا اللبس بقوله: «لا تنتج تطورات العلوم التفسير فحسب، بل تنتج أيضاً العمى!» (المرجع السابق ٣٦). فهذه العوامل الخمسة قادرة أن تحدث التغيير وامتلاكها يمنح الاستحواذ، ولعل أكثر ما يثير مخاوفي منها أنها قابلة للتشكل لكل الأذواق والمشارب، فبعضها يمنح المتعة والاختناق، وبعضها يثري الروح بإفساد العقل، وبعضها يحقق الرفاهية بوضع القيود على الأيدي والرقاب، فهي أدواتٌ استعمارية مختلفة لا تحتاج إلى عسكر أو سلاح، بل تمتد بنعومة في مراكز البحث ودور العبادة والأسواق الكبرى وملاهي المتعة في الأرض كلها.
وأخيراً... قد يسأل القارئ ماذا تريد بعد هذا التوصيف المحمّل بالمؤامراتية التشاؤمية؟ أقول له: لا شيء أكثر مما كتبت، لا شيء سوى الانتباه والملاحظة لأنها أهم عوامل الاكتشاف، لا شيء سوى أن يعرف البعض أن ما في يديه ليس أساور من ذهب، بل هي قيود من رقّ، لا شيء سوى أن يعرف المغامرون الثائرون بمصائر الشعوب أنهم كانوا حمقى في لباس من الهيبة والحكمة، لا شيء سوى أن نعرف أن ما تعرضه شاشات الأخبار وتقاريرها المثيرة ليس سوى موعد الجرعة اليومية من مخدرات الذل والتبعية، لا شيء سوى أن نعرف أن اليقظة كالنوم كلها محملة بالخطر واحتمالية الاختناق في أي لحظة استغفال.
وهذا ما دعاني إلى أن أتساءل في أول المقال: هل كان الشريف الإدريسي، لو عاش بيننا، يستطيع اكتشاف خريطة العالم الجديد؟!
المصدر جريدة الحياة