• ×

الهجرة النبوية: رؤية

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

الهجرة النبوية: رؤية


2015/10/16

بقلم | الشريف محمد الحارثي


الهجرة النبوية.. رؤية إنَّ حدَث الهِجرة النبوية؛ لم يكن مُجرَّد انتِقال من مَكانٍ إلى مكانٍ، أو خُروج الدَّعوة من مَوطِنٍ إلى آخَر، وإنما كان قَضاءً مُبرمًا من الحكيم الخبير سُبحانه؛ قدَّره ليعلو الإسلام على كلِّ الأديان الباطلة، وليَجعَل كلمة الذين كفروا السُّفلى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ} [التوبة: 40 ]. وقد هاجر معظم المسلمين الذين استطاعوا الهجرة في شهري المحرم وصفر من السنة الرابعة عشر من النبوة، أي: بعد بيعة العقبة الثانية بشهر واحد أو أقل، ولم يبق في مكة إلا ثلاثة فقط؛ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وأبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وعائلته، وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وكان بقاء أبي بكر وعلي -رضي الله عنهما- بأمر من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولذلك كان المشركون في أشد حالات اضطرابهم وقلقهم. أضف إلى ذلك علم قريش ببأس الأوس والخزرج، وأنهم من أهل القتال، وأن المدينة حصينة جدًّا، وأن المدينة تقع على طريق القوافل التجارية لأهل قريش، والمتجهة من وإلى الشام، ومن ثَمَّ فإن المدينة تستطيع أن تخنق مكّة اقتصاديًّا، وكانت مكّة تتاجر بربع مليون دينار من الذهب سنويًّا مع الشام في رحلة الشتاء، كل هذه الأمور جعلت قريش في حيرة من أمرهم، وقد علموا أنه كلما مرَّ الوقت اقتربت ساعة الصفر التي سيغزو فيها المؤمنون مكّة. لكن زعماء قريش كانوا يدركون أيضًا أن ساعة الصفر هذه لن تكون إلا بعد أن يهاجر رسول الله إلى المدينة المنوّرة، ويوحّد صفوفه، ويجهّز جيوشه، ثم يأتي من جديد إلى مكّة. إذن فحجر الزاوية في الموضوع هو رسول الله، والوسيلة الوحيدة لوقف خطر المؤمنين الداهم هو السيطرة على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فسعت قريش بشتى الطرق إلى عرقلة الهجرة إلى المدينة، وإثارة المشكلات أمام المهاجرين، مرة بحجز أموالهم ومنعهم من حملها، ومرة بحجز زوجاتهم وأطفالهم، وثالثة بالاحتيال لإعادتهم إلى مكة. فكان اختيار المدينة مهاجرًا لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بوحي من الله تعالى، قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي يثرب))، وقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين))، البخاري. أُذِن للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الهجرة، فجاء إلى الصديق في وقت الظهيرة، تقول عائشة: فلما أذن له في الخروج إلى المدينة، لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهرًا، قال: ((أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟!))، قال: الصحبةَ يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة)) البخاري. وكان الصديق قد أعد ناقتين، فعرض إحداهما على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يركبها فقبل، وقال: ((بالثمن)). وبدأ آل أبي بكر بالتجهيز السريع للرحلة، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فجهزناهما أحدث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، وقد كان خروجهم من مكة ليلاً. يقول الصديق: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة. قال ابن حجر: “أسريت: في سير الليل” وكان ذلك في يوم الاثنين أو الخميس، قال الحاكم: “تواترت الأخبار أن خروجه كان يوم الاثنين، ودخوله المدينة كان يوم الاثنين”. أورد المباركفوري: “غادر الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م”. قال ابن حجر: “خروجه من مكة كان يوم الخميس، وخروجه من الغار -ثور- كان ليلة الاثنين”. فكأنه اعتُبر بداية رحلة الهجرة. وأوى رسول الله إلى بئر ميمون (في طريق منى) حيث واعد الصديق، ثم دخلا الغار، فيما بقي علي بن أبي طالب في فراش النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى يعمي على قريش خروج النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- تلك الليلة، وقد كانت قريش ترميه بالحجارة، وهي تظنه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. كَمَنَ -صلى الله عليه وآله وسلم- وصاحبه في الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، فيدلج من عندهما بسَحر، فيصبح مع قريش بمكة، فيسمع أخبار قريش، فإذا جاء الظلام انطلق إلى الغار يخبر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بأخبار قريش، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، فيما كان عامر بن فهيرة يرعى بغنمه عليهما، فيشربان من ألبانها، ويعود عند الغَلس إلى رعيان قريش. وصلت قريش باقتفاء الأثر إلى غار ثور حتى وقفوا على باب الغار، يقول أبو بكر: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا قال: ((ما ظنك باثنين يا أبا بكر الله ثالثهما))، البخاري. وبعد المُكث في الغار ثلاثة أيام انطلق النبي وصاحبه صباحًا بصحبة الدليل الليثي، وعامر بن فهيرة، وقد خلا الطريق لا يمر فيه أحد، وقصد رسول الله وصاحبه صخرة طويلة، وإذا براع لرجل من أهل مكة، فحلب لهما ورسول الله نائم، فبرّده الصديق له، فاستيقظ رسول الله، فشرب ثم شرب الصديق. ومر رسول الله وصاحبه بخيمة أم معبد بقُديد، وطلبا منها القِرى، فاعتذرت لهما؛ لعدم وجود طعام عندها، وعندها شاة هزيلة لا تدرّ لبنًا، فأخذ رسول الله الشاة، فمسح ضَرعها بيده، ودعا الله وحلب في إناء، حتى علت الرغوة، وشرب منه الجميع. وانطلق الركب من طريق الساحل، وشعرت قريش بخيبتها، فجعلت لمن قتل رسول الله وصاحبه ديتين، فلما جازا قديداً، أدركهما سُراقة بن مالك المدلجي يقول: فركبت فرسي .. تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها، فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عُثَان ساطع في السماء مثل الدخان. فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت وجئتهم، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قال: ((أخف عنا))، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر بن فهيرة، فكتب في رقعة من أديم، البخاري. وصل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى قباء؛ لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء، وكادت الشمس تعتدل. وقد كان الصحابة يخرجون كل يوم ينتظرون مَقدِمَ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى إذا ارتفعت الشمس عادوا إلى بيوتهم. ولما أتى النبي قباء كانت الشمس قد اشتدت، فدخلوا بيوتهم، وقدم رسول الله فبصر به يهودي، فصرخ: يا معشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يحيي أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- عند ذلك. فلبث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بالمدينة. وبلغ عدد مستقبليه -صلى الله عليه وآله وسلم- حين جاء المدينة -كما جاء في بعض الروايات- خمسمائة من الأنصار، ودخل والرجال والنساء فوق البيوت، والغلمان في الطرقات، يقولون: يا محمد يا رسول الله. يقول البراء: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله. البخاري. يقول أنس: فشهدته يوم دخل المدينة، فما رأيت يومًا قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه. ومشى موكب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في طرقات المدينة، وتطلع زعماء الأنصار إلى استضافة الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم-فكلما مر بأحدهم، دعوه للنزول عندهم، فكان يقول لهم: ((دعوا الناقة؛ فإنها مأمورة))، فبركت على باب أبي أيوب -رضي الله عنه- وأرضاه. فتمت الهجرة المباركة -على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم-.


مكة المكرمة –الخميس: 1/1/1437هـ




بواسطة : الشريف محمد حسين الحارثي
 0  0  819
التعليقات ( 0 )

-->