تاريخ مسجد بنى حرام بالسيح
2015/11/13
بقلم | ضياء محمد عطار
مسجد بنى حرام : وهو أحد مساجد رسول الله e ومصلياته بالمدينة الشريفة على التحقيق . ويقع بشعب بنى حرام بسفح جبل سلع ، الذى كان مركز غزوة الاحزاب . والشعب عبارة عن موضع تحيط بجوانبه الثلاثة جبل سلع ، ومكانه بالجهة القبلية لمساجد الخندق ، على يسار المتوجه إلى وسط البلد عن طريق السيح جاعلا جبل سلع على شماله ، خلف مجمع مدارس البنات التى تطل على شارع السيح فى حارة الشناقطة أو العمارية كما يسمونها اليوم .
وقد ذكر الامام السمهودى فى تاريخه الوفا : أن مسجد بنى حرام مما اختلف فى صلاة رسول الله e فيه ، ثم ذكر أن سيدنا عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه زاد فيه على بناء أهله له مدماكين من أعلاه ، وطابق سقفه وكان أولا بخشب وجريد . وجعل فيه زيت مسجد رسول الله e ( أي جعل مصابيحه تضاء بزيت قناديل مسجد رسول الله e ) ثم قال : فهذا يقتضى أن النبى e صلى فيه انتهى . وقال أيضا : وينبغى لقاصد مساجد الفتح أن يزور مسجد بنى حرام الكبير ، وهو غير مسجدهم الصغير . وهذا المسجد هو الذى اتخذوه لشعبهم من سلع لما تحولوا إليه إنتهى باختصار . ثم قال : وقد روى رزين عن يحيى بن قتادة بن أبى قتادة عن مشيخة من قومه : أن النبى e كان يأتى دور الأنصار فيصلى فى مساجدهم .
ثم قال الامام السمهودى فى موضع آخر : وقد ظهر لى محله فى قرية بنى حرام بشعبهم ، غربى جبل سلع على يسار السالك إلى المدينة من مساجد الفتح ، فإذا جاوزت البطن الذى فيه مساجد الفتح وأنت قاصد المدينة ، يلقاك بعد ذلك بطن شعب ، متسع من سلع ، فيه آثار قرية ، هى قرية بنى حرام ، وذلك شعبهم . وقد انهدم المسجد بأجمعه ، وبقى أساسه وآثار أساطينه من الخرز المكسر . وفيها آثار الرصاص وعمد الحديد ، وآثار الرمل بأرضه . ولعل الله تعالى يبعث له من يحييه إنتهى . وذكر الامام عمر بن شبة فى تاريخه : عن ابن أبى يحى ، عن النضر بن مبشر ، عن جابر بن عبد الله الأنصارى رضى الله عنه ، قال : إن النبى e صلى فى مسجد الخربة ، ومسجد القبلتين ، ومسجد بنى حرام الذى فى القاع .
وأكد الامام السمهودى فى تاريخه الوفا : أن مسجد بنى حرام الذى فى القاع : هو مسجد بنى حرام الذى عند سلع هذا ، وقال : اسم القاع إنما يناسب ما قدمناه فى بيان منازل بنى حرام فى غربى مساجد الفتح ، فمسجد بنى حرام هذا من المساجد التى لا تعلم عينها ، ولكن تعلم جهتها .
قلت : ويظهر من معاينة الامام السمهودى للمسجد : أنه كان من بناء الامام عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه ، فإنه بنى جميع المساجد النبوية الشريفة بعمدان مقومة بالحديد والرصاص . ولكن لا أدرى لماذا قال هنا : إنه من المساجد التى لا تعلم عينها ولكن تعلم جهتها ، مع أنه صرح فيما سبق : أنه شاهد مكانه ، وظهرت له آثار أساطينه وعمده ، وتمنى على الله من يحييه . ولعل الامام السمهودى ، قال ذلك قبل أن يرى موضعه ، فلما رأى موضعه ، وعاين موقعه ، كتب معاينته له وتحققه من ذلك . والله تعالى أعلم ..
وقد ظهر لى أثناء بحثى عنه وكتابتى لكتاب مساجد صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيل الخلاف والشك الذى ارتآه الامام نور الدين السمهودى مؤرخ المدينة المنورة البلا منازع ، ويؤكد صلاته صلى الله عليه وسلم فيه تأكيدا تاما ، ويحقق الدليل القاطع لذلك قطعا لا ريب فيه ، من رواية الامام مسلم في صحيحه ، والامام ابن حبان في صحيحه ، والامام أبو داود في سننه ، واللفظ لمسلم : عن سيدنا جابر بن عبد الله الأنصارى السلمى رضى الله عنه وهو من بنى حرام ، وكان منزله في هذا الشعب ، أنه قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجدنا هذا ، ( يعنى مسجد بنى حرام هذا ) وفى يده عرجون ابن طاب ، فرأى فى قبلة المسجد نخامة فحكها بالعرجون . ثم أقبل علينا ، فقال : أيكم يحب أن يعرض الله عنه ؟ . قال : فخشعنا ثم قال : أيكم يحب أن يعرض الله عنه ؟. قال : فخشعنا ثم قال : أيكم يحب أن يعرض الله عنه . قلنا : لا أينا يا رسول الله . قال : فإن أحدكم إذا قام يصلى ، فإن الله تبارك وتعالى قبل وجهه ، فلا يبصقن قبل وجهه ، ولا عن يمينه ، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى ، فإن عجلت به بادرة ، فليقل بثوبه هكذا . ثم طوى ثوبه بعضه على بعض ، فقال : أرونى عبيرا . فقام فتى من الحى يشتد إلى أهله ، فجاء بخلوق فى راحته ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعله على رأس العرجون ، ثم لطخ به على أثر النخامة . فقال : جابر فمن هناك جعلتم الخلوق فى مساجدكم …
وفى هذا الحديث الشريف الصحيح دليل قاطع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في هذا المسجد ، وذلك في غير ايام الخندق ، إذ كان صلى الله عليه وسلم يبيت ههنا في هذا الشعب بكهف لبنى حرام .. ولعل الامام السمهودى رحمة الله عليه ولم يطلع على هذا الحديث ، ولذلك قال ما قال بأن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه خلاف ، ثم استدل على صلاته فيه ما جعله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه وقود سرجه ومصابيحه من خزانة وقود مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو اطلع على هذا الحديث لقال به بلا شك ، والحمد لله هذه من إضافاتى الى تاريخ هذا المسجد المبارك .
ولذلك نقول بالنسبة لبعض مساجد الخندق : فإنه لم يكن موضعه معلوما لدي الامام نور الدين السمهودى أولا ثم بحث عنه فوجد بعضا من آثار أعمدته وجدارنه . ولكن جاء من بعد الامام السمهودى علماء ومؤرخون من أصحاب السيرة ، فنقبوا عن مواضع بعض المساجد فعثروا عليها ، وتحققوا من مواقعها ، فقاموا بإعادة بناء تلك المساجد . ومنها مسجد المنارتين ، ومسجد المستراح وغيرهما ، مما ذكرها العلامة أحمد العباسى فى عمدة الأخبار وغيره .
وأما أول بناء لمسجد بنى حرام هذا فكان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودليله ما قدمنا من رواية الامام مسلم عن سيدنا جابر الحديث آنفا . فظل معمورا تقام فيه الصلوات الخمس ويصلى فيه بنو حرام من الأنصار ، حتى أعاد تجديد عمارته الامام عمر بن عبد العزيز بأمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك رحمهم الله جميعا ، ثم لم يزل يعمر حتى خرب في القرن التاسع من الهجرة كما شاهده الامام السمهودى رحمه الله . ثم أعيد بناؤه إن لم أكن مخطئا في القرن العاشر بسعى من الشيخ أحمد عبد الحميد العباسى صاحب عمدة الأخيار . لأنه قام بتنقيب عدد من المساجد التى دثرت في ذلك الوقت . وأما اليوم ، فهو عبارة عن بناء حديث ، بالأسمنت والحديد المسلح ، ولا تظهر عليه آثار القدم ، ولا يرى فيه سمات الآثار النبوية ، وقد بناه تطوعا حسبما سمعت ، والدنا الشيخ عبد الوهاب ابراهيم فقيه أحد أعيان المدينة المنورة الفضلاء متعنا الله بحياته ولكننى لم أساله عن ذلك . ومساحته تزيد على ثلاثين ذراعا فى ثلاثين تقريبا . وله مدخل واحد ومنارة واحدة ، وقبة ومحراب ، وقد زاحمته البيوت الشعبية من حوله . وأحد الأزقة التى بإحدى جهاته لا يكاد الرجل يمر من خلاله إلا وهو على جنبه ، ولقد صليت فيه مرارا . ولعل الله عزوجل يسخر له من يعيد بناءه على أكمل الوجوه ، ويعيد بناءه بالحجارة المطابقة ، بنمط تظهر عليه سمات الآثار النبوية الشريفة إن شاء الله تعالى .
ورأيت الامام السمهودى ذكر : أن بأعالى هذا الشعب كهف بنى حرام ، وأن رسول الله e قد توضأ من العيينة التى عند الكهف ، ثم دخل فيه . وأورد حديثا عن أبى قتادة ، قَالَ : خرج معاذ بن جبل رضى الله عنه لطلب رسول اللهِ e فلم يجده ، فطلبه في بيوته فلم يجده فاتبعه في سكة سكة حتى دل عليه في جبل ثواب ، فخرج حتى رقي جبل ثواب فنظر يمينا
وشمالا فبصر به في الكهف الذي اتخذ الناس إليه طريقا إلى مسجد الفتح ، فإذا هو ساجد . فهبطت من رأس الجبل وهو ساجد ، فلم يرفع رأسه حتى أسأت به الظن ، وظننت أن قد قبض ، فلما رفع رأسه قلت يا رسول الله : لقد أسأت بك الظن وظننت أنك قد قبضت ، فقال جاءني جبريل عليه السلام بهذا الموضع ، فقال إن الله تبارك وتعالى يقرئك السلام ، ويقول لك ما تحب أن أفعل بأمتك ؟ قلت : الله أعلم . فذهب ثم جاءني فقال : إنه يقول لا أسوءك في أمتك ، فسجدت فأفضل ما يتقرب به إلى الله السجود . وقد روى هذا الحديث الامام الطبرانى فى معجمه الأوسط وفى الصغير . ثم قال الامام السمهودى فى تاريخه عقب كلامه هذا : أن جبل ثواب لم أقف له على ذكر ، ولكن يؤخذ من قوله فى هذا الكهف الذى اتخذه الناس إليه طريقا إلى مسجد الفتح : أنه جبل سلع إنتهى .
قلت : وهذا الكهف موجود اليوم وقد هدم البناء الذى عليه . وقد زرته وصورته . وكان يشتهر المساجد السبعة بالأربعة ايضا كما رأيته فى تاريخ الشيخ على بن موسى المدنى : وصف المدينة عام 1303هـ . ولكن على اعتبار أنها سبعة ، فيبدو لى أن السابعة هى : مسجد بنى حرام هذا ، لكونه واقع فى محيط منطقة الخندق ، غربى جبل سلع ، ولكونه قريبا من المساجد الستة الأخرى ، وهو ما يميل إلى الواقع . ورأيت البعض يعد المسجد السابع أنه مسجد القبلتين وهو رأي يخالف الواقع ، لأن مسجد القبلتين بعيد عن الخندق مسافة وموضعا ، وعده من مساجد الخندق غير صواب ، والله تعالى أعلم . ومسجد بنى حرام هذا مسجد نبوى شريف ، وقد بنى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يؤكده الحديث الشريف الصحيح الى نستند عليه ، وقد ذكرته في كتابى المسمى : ارشاد القاصد لما بنى على عهد النبوة من المساجد ضمن المساجد التى كانت عامرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهنا أتمنى أن يلقى هذا المسجد المبارك رعاية من حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ال سعود رعاه الله ، وأن يحافظ عليه وعلى موضعه فلا تطاله مشاريع الهدم والازالة العشوائية ، لأنه تم ترقيمه ضمن العقارات المزالة هناك دون أن يعطى أي اهتمام به ولا بتاريخه ، ولا بكونه من المساجد التى بنيت على عهد النبوة وصلى فيه النبى صلى الله عليه و سلم . وأرجو أن تطاله اليد الحانية ، بإعادة تعميره ، وبنائه على نمط المساجد التاريخية والأثرية . ممثلة في هيئة السياحة والآثار ، التى يراسها صاحب السمو الملكى الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز حفظه الله ، والتى تسعى لإعادة تأهيل تاريخ المملكة العربية السعودية الاثري ، ولا سيما مثل هذه المساجد التى تعد تاريخا نبويا كريما ، واثرا اسلاميا جليلا وشاهدا عمرانيا عريقا . والله الموفق وهو الهادى الى سواء السبيل ..
————————————-
كاتب وباحث في تاريخ الحرمين الشريفين
عضو رابطة الأدب الإسلامى العالمية
المدينة المنورة