دوارق زمزم
الزمازمة مهنة خير وبركة اشتهر بها بعض أهالي مكة المكرمة لتجهيز ماء زمزم المبخر بالمستكة، خاصة في رمضان، وهناك بعض الزمازمة الذين يحرصون على توزيعه في الأحياء والمنازل بالرغم من وجود براميل السبيل لماء زمزم في جميع أحياء العاصمة المقدسة.
عرفت بعض الأسر في مكة المكرمة بلقب الزمزمي وهي نسبة إلى ماء زمزم لتوليهم مسئولية العمل في المسجد الحرام والقيام بتوزيع ماء زمزم قديما بالدوارق على ساحات الحرم وفي صحن المطاف. ورغم تطور أساليب توزيع مياه زمزم ووجود مكتب للزمازمة يتولى توزيع أكبر كمية من مياه زمزم على الزوار والمعتمرين، إلا أن الزمازمة لا يزالون متمسكين بمهنتهم التي يفتخرون بها وهم سقاة حجاج بيت الله الحرام.
دوارق وسقاة
يطلق المكيون عامة، والزمازمة منهم خاصة على الآنية التي تحمل ماء زمزم (الدورق) وجمعها (دوارق)، وهي كلمة أعجمية معربة، والدورق كما في مختار الصحاح هو مكيال للشراب فارسي معرب أورد (شهاب الخفاجي المصري) (977 - 1069) في كتابه شفاء الغليل: (أن أهل مكة يطلقون الدورق على جرة الماء)، إذن يكون استعماله بهذا اللفظ والمعنى قديما يسبق هذا التاريخ بأزمان، وقد اشتهر قديما أن الدوارق كانت تحفظ في سقاية العباس بن عبد المطلب شرقي زمزم. فقد ذكر ناصر خسرو في سفر نامة سنة 422 ه قال: وأمام البئر (أي بئر زمزم) ناحية المشرق بناء آخر مربع عليه قبة، يسمى سقاية الحاج، وضع به أزيار يشرب منها الحجاج.
وقد وصف بئر زمزم وسقاية العباس كل من ابن جبير وابن بطوطة، وكان ذلك الوصف مرتبطا بوصف الدوارق، فقد ذكر ابن جبير الدوارق في رحلته سنة 579 ه بعد وصفه لبئر زمزم وسقاية العباس، فقال: ويخرج مع الليل لسقي الحاج في قلال يسمونها الدوارق، كل دورق منها ذو مقبض واحد (وصف الدوارق الحالية نفسه في أيامنا هذه).
وأما السقاة أو الزمازمة، فهم طائفة مستقلة لهم شيخ ينصب من قبل أمير مكة، ووظيفتهم سقي الحاج في المسجد من زمزم، وأحيانا خارج المسجد في أزقة مكة وأسواقها وحوانيتها، وبعض الزمازمة يقوم بإيصال الماء إلى بعض البيوت ممن يرغب ذلك. وقد يوقف بعض الحجاج سجاجيد للصلاة يتولى فرشها في أوقات الصلوات الخمس، يحفظها لديه، وقد يختار بعض الحجاج إجراء سبيل في المسجد من ماء زمزم بالطبع، فيتولى سقاؤه تهيئة ذلك بالدوارق، وهي قديمة الشكل، فإنها تكون على شكل مخروطي لتثبت على المرافع التي تصنع خصيصا لها، وقد كانت تملا حصاوي المسجد.
وفي كثير من الرسومات القديمة للمسجد الحرام وجدت الدوارق مصفوفة على المرافع المعدة لها دائرة حول الكعبة الشريفة.
وفي صحيفة المدينة المنورة في عددها 9074، أجرت لقاء بالزمزمي محمود سليمان بيطار، فتحدث عن مهنة الزمازمة فقال: في الحقيقة نحن ورثنا هذه المهنة من والدنا الذي كان أحد كبار مشايخ الزمازمة. وقد أحببنا أنا وإخوتي هذه المهنة التي شرفنا الله بها، ونعتبر مهنة الزمازمة وساما على صدورنا، وأضاف قائلا: منذ وفاة الوالد ونحن نواصل أعماله التي كان يقوم بها في شهر رمضان المبارك، ونحن الآن نستعد في كل عام لشهر رمضان منذ وقت مبكر حيث يوجد لدينا أزيار نقوم بتعبئتها بماء زمزم وتبخيرها بالمستكة، وهي الطريقة المعروفة والمتبعة لدى الزمازمة في مكة المكرمة.
ذكريات رمضان الحلوة
ويضيف البيطار قائلا: إن الذكريات الجميلة في رمضان لا تنسى، فقد كان في الماضي أكثر الزمازمة يمارسون مهنتهم في رمضان، حيث يجهز الزمزمي الفرشة والدوارق والشراب داخل المسجد الحرام، وعندما يؤذن المؤذن للمغرب لا يفكر في الإفطار، بل يقف لسقاية العمار والصائمين.
ورغم ذلك فإنك تجد كل زمزمي سعيدا وفخورا بهذه الخدمة التي يقدمها للصائمين، والحقيقة نحن الآن نمارس المهنة استمرارا لإحيائها حيث كادت تندثر بسبب التكنولوجيا الحديثة وابتعاد الكثير من الناس عن التراث والاهتمام بصنعة الآباء والأجداد.
مستقبل الزمازمة
ويواصل الزمزمي محمود بيطار قائلا: إن مستقبل الزمازمة حاليا يبشر بالخير، فالمهنة تحظى بدعم من خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وكذلك هناك تطور في طريقة توزيع ماء زمزم عن طريق مكتب الزمازمة، والحقيقة نحن نجد التشجيع المستمر من المواطنين والمسئولين، ونقوم بالمشاركة في المناسبات التي تقام في مكة المكرمة وجدة، وكما قلت نحظى بتشجيع دائم.
وعن المناسبات التي يشارك فيها قال البيطار: لقد شاركنا في وضع حجر الأساس لمشروع جامعة أم القرى تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين، وسنويا نشارك في معرض الصناعات الوطنية، وكذلك لدينا مشاركات أسبوعية في نادي مكة المكرمة للفروسية، بالإضافة إلى الدعوات التي وجهت لنا للمشاركة في معرض المملكة بين الأمس واليوم، ولم تتح لنا الفرصة لظروف خاصة، وسوف نشارك في المستقبل إن شاء الله.
الدوارق في المدينة المنورة
مما ذكره السيد جعفر بن السيد إسماعيل المدني البرزنجي في القرن 13 ه في كتابه: "نزهة الناظرين في مسجد سيد الأولين والآخرين" باب ما جاء في وضع السقايين للدوارق بالمسجد الشريف، قال:
"وأما وضع السقايين الدوارق بالمسجد الشريف فالذي يظهر لي من كلام ابن فرحون أنه قديم، فقد قال وكان ممن أدركته من السقايين بالحرم الشريف الشيخ محمد السقا المعروف بأبي حسن هو جد أولاد الشيخ محمد الكازروني لأمهم، كان رحمه الله يملأ المسجد الشريف بالدوارق يضعها من باب الرحمة إلى باب النساء ويجعل في أعناق الدوارق مقطا يقيدها به حتى لا تسرق ولا تغير من مكانها وما علمته يأخذ على ذلك أجرة"..
سقاة الحرم النبوي
وفي كتاب "صور وذكريات عن المدينة المنورة" يحدثنا السيد عثمان حافظ عن دوارق الماء المبرد في الحرم النبوي قديما فيقول:
وكان عن يمين الداخل لباب السلام (زقاق الخياطين) وهذا الزقاق نافذ إلى (ذروان) وفيه معظم سبل الدوارق التي يأتي بها سقاة المسجد النبوي في أوقات الصلاة، وكان لمعظم أسر المدينة مكان مخصص بالمسجد النبوي يجلسون إليه ويضعون الكاسات النظيفة على الدوارق لسقيا الناس، وكنا نخرج من الكتاب في الظهيرة نبحث عن دوارق الماء المبرد فلا نجدها إلا عند دكة الأغوات (خلف المقصورة النبوية).
ولا يؤتى بهذه الدوارق بكثرة إلا في أوقات الصلاة، وكان من أكبر السبل من هذه الدوارق سبيل الشيخ (حسين جباد) بقرب باب الرحمة، وكان يضع أمامه عدة صناديق من الصناديق المصفحة بالزنك لحفظ الدوارق وجميع الصناديق التي توضع بها الدوارق داخل المسجد مصفحة بالزنك لئلا تلوث بقايا المياه المسجد.
وكان يأتي عند سبيل السيد الجباد علية القوم وساداتهم. يقول عثمان حافظ: أذكر أنني كنت أرى هناك السادة، السيد عبد الجليل مدني وإخوانه السيد عبد العزيز والسيد زين العابدين مدني والشيخ إبراهيم بري والشيخ إبراهيم خربوتي. وهناك كثير من السبل يجتمع حولها كبار أهل المدينة وممن كنت أراهم السيد إبراهيم هاشم، والسيد ماجد هاشم والسيد إدريس هاشم، والشيخ ذياب ناصر، والشيخ محمد حسن السمان والسيد حمزة الرفاعي وابنه السيد أحمد والشيخ محمد زاهد والسيد ماجد عشقي والشيخ محمد داغستاني والسيد زين العابدين والشيخ يوسف عبدالجواد والسيد زكي برزنجي والشيخ أحمد كماخي - رحمهم الله جميعا - وكنا نصلي المغرب دائما أنا وأخي السيد علي حافظ مع والدنا غفر الله له في تلك المنطقة. وكان الشيخ حسين جباد يعتني بنظافة طاسات الماء (الكولندي) ويقدم الماء المبرد بيده للذين يقصدون سبيله، وكانت سبل الدوارق في كل مكان بالمسجد النبوي سيما وقت المغرب. وليس ألذ وأشهى من ماء الدوارق المبرد.
المصدر: مجلة العربي الكويتية العدد ( 407 ) بقلم / محمد سليمان النفيسي .