بسم الله الرحمن الرحيم
لمحات مشرقة من سيرة أمير الحرمين الصالح الشريف يحيى بن بركات البركاتي
المتوفى سنة 1138هـ
لمحات مشرقة من سيرة أمير الحرمين الصالح الشريف يحيى بن بركات البركاتي
المتوفى سنة 1138هـ
تاريخ مكة حافل بأخبار الأخيار من أمراء الحرمين، وهذا الأمير واحد منهم، وقد اعجبتني بعض أخباره ومواقفه فالتقطتها لاتحاف القراء.
فأقول وبالله التوفيق: أمير الحرمين الشريف يحيى: هو ابن أمير الحرمين الشريف بركات بن محمد بن إبراهيم بن بركات بن أمير الحرمين أبو نمي الثاني محمد بن بركات، ولد بمكة ونشأ بها، وارتضع در الخلافة فالتحق بنسبها، ففاز بالقدح المعلى من طريف المجد وتالده، ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده، طالما خدم والده الخدم السنية، مدة دولته إلى أن اختطفته يد المنية، ثم وإلى خدمة أخيه الأمجد السديد أمير الحرمين الشريف سعيد بن بركات إلى أن عزل عنها بالشريف أحمد بن زيد.
فرحل الشريف يحيى مع أخيه الشريف سعيد إلى الأبواب السلطانية، وذلك في سنة ألف وست وتسعين، إلا أن سعيد توجه إلى مصر وهذا إلى الشام، فلاحت له بوارق السعادة فاستمطر غيثها بعد ما شام، فحسنت سيرته في تلك الجهات، وأنعمت عليه الدولة العثمانية في ذلك العام بحكومة بعض قرى الشام، ثم نقلوه إلى إمارة حاج بيت الله الحرام، فورد مكة المشرفة وأميرها السيد محسن بن حسين، وذلك في سنة ألف ومئة وثنتين.
ثم عزلته الدولة العثمانية ووجهته إلى مصر إكرامًا لنسبه الشريف وإجلالاً لمقامه المنيف، وقرروا له ما يوازي مخارجه، فهجر مكة من بها من ذويه، فخالط أعيانها بلطف شمائله، وشمل ضعفائها بجزيل بره، واستمر بها عدة سنين([1]).
ثم جاء التوجيه من السلطان العثماني أحمد الثالث(ت1142هـ)، بتعيينه نائبًا ومستشارًا لأمير الحرمين الشريف عبدالكريم بن محمد البركاتي(ت1131هـ)، وهذا نص الأمر السلطاني لأمير الحرمين الشريف عبدالكريم: «وقد استجبنا لالتماسكم بخصوص نقل مفخر السادات وأسوة أهل السعادات السيد يحيى ابن الشريف بركات من مصر إلى مكة المكرمة. وقد جرى بأمرنا الشريف تنبيه والي مصر الحالي الدستور المكرم المشير المفخم نظام العالم وزيري علي باشا - أدام الله تعالى إجلاله - كي يتم نقله على أن يبقى له ما يتصرف به في مصر من قرى وأموال وجراية وغير ذلك ومنع تعرض الآخرين، فإذا وصل إلى مكة المكرمة فليقم في المحل الذي ترونه مناسبا»([2]).
ولم يزل الشريف يحيى بن بركات مع أمير الحرمين الشريف عبدالكريم بن محمد برأيه الرشيد واجتهاده السديد، إلى أن عزلت السلطنة الشريف عبدالكريم بالشريف سعيد بن سعد بن زيد سنة 1123هـ، فلزم داره، واشتغل بالعمارة، وعكف على عبادته وتقواه، وألزم نفسه الحضور في المسجد لكل صلاة، ولم يزل هذا دأبه وشعاره، وقطبه الذي عليه مداره، إلا أنك إذا نظرت إليه بعين الفراسة، ظهرت لك من وجه الشريف مخائل الرئاسة، ولما استقامت في دائرة الفلك كواكبه، وصفت من الأكدار مناهله ومشاربه، زفت شرافة مكة إليه بعد انقضاء دولة سعيد ونجله سنة 1131هـ، وظل أميرًا على الحرمين إلى أن عزل شهر رجب سنة 1132هـ([3])، ثم تولى إمرة مكة سنة 1134هـ وتنازل عنها لابنه بركات سنة 1135هـ، فكانت مجموع ولاية الشريف يحيى على الحرمين سنتان وسبعة أشهر([4]).
وكان رحمه الله من خيار من حكم مكة، ويشهد لصلاحه وتقواه([5]) أن في ليلة دخول الشريف يحيى على زوجته الشريفة رضوة بن السيد أحمد بن هزاع وذلك في هلال ربيع الأول سنة 1132هـ ، خرج نصف الليل واتجه لعبيده وطلب جواده فركبه، فقيل له: ياسيدي أنت الليلة عريس، وإلى أين تتوجه، فقال خطر ببالي السراق يقولوا الليلة عريس، وينفلتوا على أمة محمد فدار العس إلى الصبح، ثم شهد المؤرخ الطبري(ت1173هـ) بأن مدة ولاية الشريف يحيى ما غفل عن العس كان الليل كله يدور بين أطراف مكة من المعابدة إلى الشبيكة، فإذا قارب الفجر دخل المسجد واستمر فيه حتى تطلع الشمس واقفًا تحت باب الكعبة يقرأ في كتاب له أدعية، ويميل إلى الفقراء والمساكين، وكانت أيامة مكة بغاية الأمن([6]).
وبعد زوال دولته رحل للشام، ثم جاء خبر وفاته في السادس عشر من شعبان سنة 1138هـ من الشام مع ركب الحاج الشامي، وأنهم دفنوه خارج الشام على جنب قبر بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن جميع أهل الشام شيعوا جنازته، فبعد صلاة الجمعة خطب له الريس علي بن عبدالسلام أعلا زمزم، وصلي عليه صلاة الغائب([7])، قال المؤرخ الطبري(ت1173هـ): «رحم الله مولانا الشريف يحيى فقد كان حسنة من حسنات دهرنا وما رأيت أصلح منه من أولاد أبو نمي بن بركات في عصرنا قولاً فعالاً بالحق، كان لا يكاد يفارق المسجد حتى كأنه من حماماته»([8]).
قلت: هذه اختيارات من سيرته، ومن تتبع سيرته يظفر بنماذج أخرى مشرقة من حياة هذا الأمير الصالح، وتستحق أن تفرد في كتاب لصلاحه وتقواه، وتاريخ مكة حافل بأخبار الصلحاء من أمراء الحرمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبها
الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
ص. ب: 10403 جـدة 21433
المملكة العربية السعودية
البريد الإلكتروني: hashemi89@hotmail.com
18 ذو الحجة 1436هـ
الشريف إبراهيم بن منصور الهاشمي الأمير
ص. ب: 10403 جـدة 21433
المملكة العربية السعودية
البريد الإلكتروني: hashemi89@hotmail.com
18 ذو الحجة 1436هـ
([1]) «تنضيد العقود السنية» (2/84-89).
([2]) الأرشيف العثماني: ADVNS.NMH.d.00006
([3]) «تنضيد العقود السنية» (2/86، 89)، «إتحاف فضلاء الزمن» (ق204).
([4]) «إتحاف فضلاء الزمن» (ق204)، «خلاصة الكلام» (ص170، 175-178)، «جداول أمراء مكة وحكامها» (ص35، 76).
([5]) «تنضيد العقود السنية» (2/84).
([6]) «إتحاف فضلاء الزمن» (ق207).
([7]) «إتحاف فضلاء الزمن» (ق264).
([8]) «إتحاف فضلاء الزمن» (ق264).