• ×

ترجمة القاضي العالم الشريف منصور بن حمود المكرمي

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
الشيخ الشريف منصور(1) بن حمود بن حمود مكرمي آل خيرات
(1353هـ - 1419هـ)


القاضي العالم التَّقي، والشيخ الزاهد المتَّقي. الحكيم الهمام الفذ الأبي، الحليم حفيد النبيّ اليعربي [صلى الله عليه وآله وسلم]. سيّد قُضاة الآل، وإمام المُضاة منهم في قول الحقّ وحلّ الإشكال. المؤمن الصادق قولاً وفعلا، الورِع العِفّ شُربِاً وأكلا. الجواد الكريم حدّ البذخ، الباذل الهطَّال على المعوزين وذوي (المَرَخ) (2). صاحب اليمين التي لم تعرف حجم إنفاقها أختُها الشِمال، والذي كم من بطنٍ أشبع وعارٍ كسَا في الجنوب والشَمَال. مُقري الضيف، مخجل الطيف، طارد الحيف. نيشان المصر، إكليل القصر، خاتم العصر. فضيلة الشيخ القاضي الشريف أبو عبد الحميد؛ منصور بن حمود بن حمود بن محمد بن علي المكرمي بن أبي طالب بن محمد بن أحمد بن محمد بن خيرات بن شبير بن بشير بن محمد أبي نمي الحسني، عضو هيئة التمييز، مستشار لجنة وقف جَدِّه الشريف محمد أبو نمي الثاني.
ولد عام ثلاثة وخمسين وثلاثمئة وألف هجرية، بمدينة صامطة المحروسة من منطقة جازان جنوب المملكة العربية السعودية. اعتنى به والده ووجَّهه للعلم، وألحقه في سنوات صباه بالمدرسة الأميرية في مدينته التي كان يديرها الشيخ الداعية عبد الله القرعاوي، فتعلّم الهجاءة والكتابة وقراءة القرآن، ثم أخذ المبادئ من توحيد وفقه وحساب. توفي والده وهو لا يزال بالمدرسة المذكورة قبيل مناهزته للحُلُم، وتمّ على مواصلة دراسته، وتولاه بتلك الأثناء أعمامه، وقد كان له تعلّق كبير بوالدي (عمه) -رحمهم الله جميعاً-.
التحق بالمعهد العلمي بصامطة في سنة افتتاحه (1374هـ). ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض في العام 1381هـ، وأتمّ دراسته فيها بأوائل سنة 1386هـ، وعيّن فور تخرّجه ملازماً قضائياً، وبقي كذلك مدّة ثلاث سنين تقريباً أمضاها في ثلاث محاكم (محكمة الرياض الكبرى، ومحكمة صامطة، ومحكمة أحد المسارحة). عُيّن بعدها قاضياً في محكمة قلوة في بلاد زهران بمنطقة الباحة في أواخر العام 1388هـ، وعمل بها أكثر من أربع سنوات، ثم انتقل بعدها إلى محكمة الشُعبين برجال ألمع في منطقة عسير عام 1393هـ ومكث بها ما يقارب من خمسة عشرة سنة، ثم انتقل على إثر ذلك إلى صبيا رئيساً لمحكمتها في العام 1407هـ، وقضى بها مدّة سبع سنين، وفي العام 1414هـ رُقّي إلى قاضي تمييز وانتقل للعمل بمحكمة التمييز في مكة المكرمة، واستمر بها حتى توفي رحمه الله.

كان بالإضافة إلى وضيفته يقوم -متطوعاً ومحتسباً- بالإمامة والخطابة في الجُمع والأعياد في قرية الطرشية من أعمال صامطة، وقد أوتي صوتاً عذباً ندياً. وإلى جانب إتقانه العلوم الشرعية كان بارعاً في علم الأنساب، له إلمام ببطون العرب، ويكاد يكون عارفاً بجُل أنساب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن له معرفة واسعة بأيام العرب ويحفظ كثيراً منها ويستشهد بها في كثير من أحاديثه. أيضاً كان يحب أدب الفكاهة التي فيها ترويح عن النفس، ويحفظ من الأشعار الشعبية التهامية (القافات والأدلاع والطارق) الشيء الكثير، ويرويها أكثر ما يكون لمرافقيه في أسفاره، وأحياناً في مجالسه الخاصة.
* * *
عمل الشيخ منصور في سلك القضاء ثلاثين عاماً ونيف، اتصف خلالها بالعدل والنزاهة والاستقامة، وكان لا ينتقل من منطقة عمل بها إلاَّ وأهلها يبكون لفراقه، ويندبون خسارتهم إياه. ولقد رأيت التماساً وقّع عليه أكثر من ثلاثين رجلاً من مشائخ القبائل والعرائف والوجهاء في منطقة صبيا، كانوا قد تقدموه به إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى، ووزير العدل، وأمير المنطقة، ورئيس محاكم جازان، إثر صدور قرار ترقيته ونقله إلى مكة، يرجون فيه إبقاء الشيخ رئيساً لمحكمة صبيا على درجته التي رُقّي إليها، وقد عددوا مزاياه ومحاسنه، واعتبروا أن نقله عنهم خسارة لهم وللمنطقة.
كان محبوباً عند الكبار والصغار من الذين عرفوه، وعلى الأكثر وبصفة أخص عند الضعفاء والمساكين، والعجزة والمنكسرين. ولقد احترمه وأجلّه كل من عمل معه من الرؤساء والمرؤوسين، وأكبره كل من جالسه أو استمع إليه ناطقاً بحكم أو مدلياً برأي، وتعلق به كل من ذاق حلاوة عدله.. وجهوده في جمع كلمة الأشراف يعرفها جيّداً من له علاقة بوقف أبي نمي، ويحمده -حتى اليوم- جُل الأشراف في مكة وجازان وغيرهم؛ إذ كان له الفضل بعد الله في تعارف كثير منهم على بعضهم، بل ولقد سنّ طريقة لتواصلهم في المناسبات لا زال البعض يسير عليها حتى هذا الوقت.

وهاكم بعضاً من شهود الله له في الأرض:
- قال الشيخ علي شيبان رئيس المحكمة المستعجلة بجازان في خطاب تأبين طويل: (كان عالماً متقناً للعلوم الشرعية، عاقلاً متوقد الذكاء، صاحب فصاحة في المنطق مع حسن بيان، لطيفاً بشوشاً، عادلاً في حكمه، لا يخشى في الله لومة لائم. يتمتع بسعة بال وصبر وتحمل، ويقنع الخصوم بقبول الحق بأسلوبه الحكيم، يرتاح الناس بآرائه ويقنعون بها لما عُرف عنه من الإخلاص في القول والعمل).
- وقال الدكتور زاهر الألمعي في مقال نُشر بصحيفة عكاظ: (كان الشيخ منصور عظيماً، وليس بالضرورة أن يكون العظماء من أهل الجاه والسلطان، أو من أهل الثراء، أو ممن يظهر لامعاً عبر وسائل الإعلام.. فالرجال معادن، والمعدن لا يظهر دائماً إلاّ إذا احتيج إليه وجرى البحث عنه بوسائل مختلفة. إلى أن قال: لقد سمعت من يثني عليه قائلاً: خرج بعض الخصوم من عند القاضي منصور في يوم من الأيام محكوماً عليه وهو يقول: الذي يجعلني أطمئن إلى حكم الشيخ منصور أن خصمي لن يجد وسيلة للخديعة أو التأثير عليه في مجرى العدالة).
- وقال القاضي الشريف أحمد المعافا في كتابه فرجة النظر: (يتحلى بالأخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة، ولا يُستغرب الشيء من معدنه).
- ووصفه أخي الشريف محمد بن أحمد المكرمي آل خيرات بقوله: (رمز عظيم للتضحية والبذل والسعي الدؤوب لخدمة عشيرته الأدنيين أو الأبعدين وكل من دفعته الحاجة إلى طلب مساعدته في الأمور المشروعة، كما كان مثالاً في العطاء والوفاء ومساعدة المحتاج والمنكوب وفي السعي الدائب إلى جمع كلمة إخوانه وعشيرته على الخير والتعاون وفي العمل على إصلاح ذات البين).
- وقال الدكتور الشاعر الشريف حسن بن علي الحارثي -ولله درّه- شعراً :

ومنصـورٌ توسط عقــدَ درٍ= تفـرّدَ نظمـهُ بينَ القـلادِ
فمنصـورٌ حكيـمٌ ذو أنـاةٍ=خطيبٌ ملهمٌ في كـل نـادِ
إذا رُمتَ التعبد في صــلاحٍ=وجدت الشيخ من خير العبادِ
وإن رُمت التجلّـد في حمـاسٍ= فإن الشيخ من قـوم جـلادِ
وإنْ رُمت التودد والتصـافي=رأيت الشيخ من أهل الودادِ
وإنْ رُمت التزود بالعطــايا=هبات الشيخ تُجزل في النفادِ
* * *
في محكمة التمييز بمكة المكرمة كان ختام مشواره العملي، وفي بطحائها كانت خاتمة سيرته العطرة التي انبثقت منها أجمل معاني النبل والوفاء، ومن حرمها الآمن كانت نهاية رحلته الدنيوية المليئة بالطاعات وأعمال البر، وأحسب أنها مسك الختام التي توجت أعماله الجليلة وكفاحه الطويل في ذات الله.. إذ كانت وفاته رحمه الله بدارته في حي العزيزية بمكة المكرمة في مساء يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر شوال عام 1419هـ، عن عمر يناهز السابعة والستين.
وقد رثاه الكثير من الشعراء وكتب عنه كتّاب وأدباء من المنطقة ومن خارجها، مثل الشريف علي بن يوسف آل مهدي الحسني من الليث، الذي جاء في ذلك الوقت من مكة المكرمة إلى الطرشية لتقديم واجب العزاء اعترافاً منه كما قال بحق الشيخ عليه، وإكراماً ومواساة لذويه الأشراف آل خيرات وقدّم لهم مرثيته فيه، ومطلعها:
قد بكـت مكـة فحُقّ بُكاهـا=في بنيها فيالهول صداهـــا
كيف أمست بفقد من هو بـدر=في سماها يزيح عنها دجاهـا
وفيها :

إيـِهِ منصور كم بكتـك عيونٌ=وقلوب بحبهـا ووفـاهـــا
كنت فيهم مقدمــًا وجسـوراً=ودليلاً إلى رفيع علاهــــا
بكم الشمل قد توطد ركنـــاً=وعلا شامخاً وزال عناهـــا
يا شريفـاً إذا الرجال تناخـوا=كنت أنت الشريف معنىً وجاها
إلى أن يقول:

إنـه الخطب عمّنا في فقيـدٍ= زرع الحب روضة فجناهـــا
جئتُ ياشيخنا وما كنت أدري=أنني سوف أكتوي بلظاهـــا
كنتُ أسعى لمدحكم وفخوراً=أن شعري بدوحكم لا يضاهـا

- كما رثاه الشيخ الأديب إبراهيم بن حسن الشعبي من صامطة بقصيدة، منها:

فجـأتْ منيتـه بـلا إنـذار=عند الهزيع وغفوة السمـــار
فجأت كسيل جارف في حالك=أثباجه عصفت بجهد الــذاري
سبحان من نفذ القضاء بحكمه= فالأمر (كن) في سطوة الأقدار
عفواً أبا عبدالحميد وقد فقـد =نا البدر في الظلماء بعد نهـار
حقاً فقدنا فور موتك مخزنـاً= للرفق والإصلاح والإيثـــار
إلى أن قال:

يابن الأكارم والطباع كريمـة=قولاً وفعلاً دونمــا إنكــار
أنفقت ما في الجيب سراً تاركاً= لله رزق الأهل والأصهـــار
فكذاك نحسبه وإن حسيبه الـ = ــرحمن في يسرٍ وفي إعسـار
ونكاد نغبطه على ما قد حبـا=هُ الله عند تصـارع الأفكــار
يارب فارحمه وضاعف أجـره=أغدق عليه بفضلك المــدرار
فردٌ ولكن في حقيقة أمــره=ركبٌ يغذ السير في الأسحــار

- كما رثاه الشاعر الشريف عمر بن فيصل آل زيد بقصيدة بليغة، والشريف منصور بن علي حمود آل بشير، والأستاذ علي بن إبراهيم الحملي، والأستاذ إدريس بن محمد الحربي، والسيد الدكتور حمود بن محمد الصميلي -رحمه الله- وغيرهم.

- وبكاه أيضاً أخي الشريف الحسن بن أحمد مكرمي بهذه القصيدة:

بدمي سأكتبُ في رثائك أسطــرا=وعليك من شعري سأنثر جوهرا
وبسيل دمعي المستفيض مــرارة=سأظل أبكي في وفائك أدهــرا
ولَئِـنْ بكيتك مـا بكيتك خُدعـة=للنـاظرين ولا بكيتـك مُجْبـَرا
كلا ولكن مـن نيـاط مشاعــرٍ=سكبتْ عليكَ من المدامع أحمرا
هـذا لأنك يـا أعـزَّ جماعتـي=من صبيتي أغلى وأجمل منظرا
ولأنّـك المرسـومُ في قسماتـــه=قسماتُ وجـهٍ بالرسول تدثــرا
ولأن حمزة والحسـينَ وهاشمــاً=أجدادُك الصيدُ العضامُ وجعفرا
ولأنّ ( خيرات) العظيـمَ ونسلـَـه=هم من نَمَـوْكَ ونعم ذلك مفخرا
أفلا أكونُ وأنت ذلك كلـــه-=أهلاً لأنْ أبكي عليك وأُقـْهـرا
ولمنْ تفيضُ الدمعَ عينُ محبتـــي=إنْ لم تَفضْــهُ بمنتداك مُعطـَّرا
فعليكَ دمعي ما حييتُ وحســرتي =وعليك حُزْنِي ما حييتُ مسيّرا
وبربِّ هـذا البيت أقسـم أنــه=لولا نكيـراً أخشـَينَّ ومنكـرا
لقتلتُ نفسي بعد بُعـدِكَ حسـرةً=ولبِتُّ جنبكَ في "المشاعر" مُقـبرا
لكن رأيت الشـرَّ أهونُ بعضُــهُ =من بعضِـهِ فرأيت ألاّ أكفـُرا
ورضيتُ بالأحزانِ تحرقُ خاطــري=حتى أموت على اليقينِ وأُقبــرا
وعسى الإلهُ بأنْ يمـنَّ بعفــوه=وهو الكريمُ وأنْ يتوبَ ويغفــرا
بالله قلْ لـي يامثيـرَ توجعـــي=ومثيرَ آهـاتي عليك تحســرا
فيـم ارتحالك دون أي شكايــةٍ؟=ما بال قلبكَ في الدروب تسمـرا
أتـُراك بالهممِ الثقـالِ ملأتــه=أم بالهموم المزعجات فقصّــرا
أمْ أنَّ فيضَ المعطياتِ أهاضَـــهُ =حملاً فخرَّ فُجاءَةً مـا أنـــذرا
أواه يا ابن الأكرمينَ وكـم ْ فـمٍ=لك فيه ذكرٌ لا يزالُ مُعطـَّــرا
لمن المكارم في الحياة تركتهـــا =جوداً وأمجاداً وفكـراً نيـــرا
لمن الرجاحةُ والفصاحةُ والنـدى=لمن السماحةُ والبشاشةُ والقِـرى
لمن الأَيادي البيضُ بعدك سمحـةً=للسائلين أرامـلاً أو قُصّــرا
الله ! ما أقسى الحيـاةَ عليهـمُ !=وعلى اليتامى إذْ رحلتَ وأكـدَرا
وختامُها صلى الإلـهُ علـى الذي=كالصبحِ في فلَكِ الخلائقِ نــوّرا
اليـعرُبـيِّ الهاشمـيِّ محمــدٍ=والآل والأصحاب ما نجمٌ سـرى
والرحمةُ الكبرى عليكَ فيوضُهـا=مـا دام ذكرك بالجميل مسيَّـرا

ولقد جمع أخي الشيخ الشريف محمد بن أحمد ما قيل في الشيخ المترجم من قصائد مدح ورثاء وغير ذلك فأتت في كراس، سماه: "الشيخ منصور بن حمود المكرمي في عيون محبيه". وقد أعقب رحمه الله سبعة أبناء هم: عبد الحميد، وخيرات، ومحمد، وسعود، ومحمد أبو نمي، وحمود، ومستور..
رحم الله الشيخ منصور، وأسكنه الفسيح من الجنان، وبارك في ذريته وخلفه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


كتبه
خالد بن أحمد بن حمود آل خيرات.
الرياض 1430هـ.
وكان الفراغ منه بصباح الأربعاء 25 جمادى الأولى
البريد الالكتروني alkherati@hotmail.com


____________________
(1) له ترجمة في: «فرجة النظر في تراجم رجال من بعد القرن الثالث عشر» (2/322)، «معجم أشراف الحجاز» (3/1392) ، «الإشراف في معرفة المعتنين بتدوين أنساب الأشراف» (ص91).
(2)إشارة إلى قول الحُطيئة "ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ". وهي كناية عن الأيتام.


بواسطة : hashim
 0  1  5155
التعليقات ( 0 )

-->