وترجل الفارس ...
وفاة الداعية الخَيِّر (ابن بيروت) عبد المجيد بن حسن منيمنة ( 1911 – 2015 م ) رحمه الله
وفاة الداعية الخَيِّر (ابن بيروت) عبد المجيد بن حسن منيمنة ( 1911 – 2015 م ) رحمه الله
فُوجِئتُ بعد صلاة الجمعة أمس بقراءة ورقة نعي (ابن بيروت) عبد المجيد بن حسن منيمنة رحمه الله، وقد توفي الأربعاء 18 ذي القعدة 1436 هـ / الموافق 2 أيلول 2015 م، وصلُّوا عليه ظهر الخميس في مسجد البسطة التحتا، ودُفِنَ في مقبرة الباشورة، رحمه الله رحمةً واسعة وأسكنه فسيح جناته.
وهذا الرجل العظيم الذي أفنى القسم الأكبر من حياته ( وُلِد سنة 1911 م، أي عاش مئة وأربع سنين! ) في الدعوة والعمل الاجتماعي الإسلامي، وكان صلباً في الحق لا يتزعزع، ولا يتورّع عن مجابهة أي مسؤول مهما علا شأنه، مطالباً بحقوق الناس عليهم، وحاضًّا إياهم على العمل لتلبية وتحقيق مصالح الناس والمجتمع والابتعاد عن شهوات الدنيا والتمسك بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف ...
هذا الرجل العظيم، مَن مِن أهل بيروت ولبنان يعلم سيرته ومبادئه وما قدَّمه من أعمال دعوية لأهل بيروت ولبنان؟! هل يجوز أن تكون سيرته مجهولة بين أكثر المسلمين؟! أَوَليس مِن الأجدر أنْ تُروَى كي تكون شاهدة على أهمية تلك المساهمات الخيرية التي يقوم بها الأفراد والجماعات؟ وأيضاً لتُحْفَظ تلك الأفكار والمبادئ عسى أنْ تجد دوماً مَن يحمل رايتها؟
وأرجو فيما أكتبه هنا أنْ أعرِّف بهذا الرجل العظيم، فمن أعماله الطيبة:
1 - تأسيس لجان المساجد في لبنان:
كانت البداية مشاركة (ابن بيروت) لإخوانه في أعمال لجنة مسجد محمد الأمين، وهي من أوائل اللجان التي شُكِّلَت في بيروت، ثم بدأ الأمر يتسع، فبعد كل صلاة جمعة، أو إثر أي احتفال ديني كان (ابن بيروت) يقف خطيباً داعياً لفكرة تأسيس لجنة المسجد وشارحاً أبعادها وحاضًّا المصلين الذين يجدون في أنفسهم القدرة على العمل والكفاءة أن يقوموا بتشكيل لجنة للمسجد الذي يرتادونه، وإذا ما وجد قَبولاً من البعض، كان يسارع إلى عقد اجتماع لهم والبدء بتشكيل لجنة يكون هو محرّكها ومنظّمها في البداية، وعندما يستتب عملها يتركها لأعضائها، وينتقل إلى مسجدٍ آخر لتتكرر نفس التجربة.
ولم تقف دعوته في بيروت، بل خصّص معظم أيام الآحاد لإيصال دعوته خارج بيروت، فمن مدن وقرى إقليم الخرّوب إلى صيدا إلى البقاع إلى القلمون وطرابلس إلى عكار، وفي أيّ مكان وُجِد كان يدعو إلى تشكيل لجان المساجد.
بل حتى عندما انتقل إلى مدينة جدّة السعودية للإقامة عند ابنته المقيمة هناك في إحدى مراحل الحرب اللبنانية، وفور وصوله إلى مطار جدة وصلاته في مسجده ألقى كلمة بالمصلين حضّهم فيها على العمل على إحياء رسالة المسجد وتشكيل لجنة تكون نواة هذا العمل، وبالفعل تشكلت لجنة عُرِفَت باسم لجنة جامع المطار الدولي الخيرية برئاسة الشيخ منصور منصور إمام المسجد وعضوية عدد من المصلين، وقامت اللجنة بإنشاء مكتبة ومركز لمحو الأمية بجانب المسجد، وانتسب إلى المدرسة في أيامها الأولى اثنا عشر تلميذاً بإشراف اثنين من المدرّسين المتطوعين، وأثار نشاط (ابن بيروت) حفيظة السلطات المحلية، واستُدْعِيَ إلى وزارة الداخلية للتحقيق، إلى أنْ تدخّل إمام المسجد موضّحاً حقيقة الموضوع ومعرِّفاً بالرجل، كما أجْرَت صحيفة المدينة المنورة في عددها رقم 3839 ليوم الخميس 4 ذو الحجة 1396 هـ مقابلة مع (ابن بيروت) حول تجربته الجديدة في مسجد مطار جدة، كذلك فعلت قبلها جريدة عكاظ في عددها الصادر يوم الجمعة 27 ذو القعدة 1396 هـ.
2 – الدعوة إلى إنشاء بنك إسلامي لا ربوي.
3 – الدعوة إلى إنشاء بيت مال المسلمين ( وجباية الزكاة)، الذي هو بمثابة المركز الرئيس الذي تُدار من خلاله كافة مشاريع بناء المؤسسات الإسلامية لتلبية حاجات المجتمع الإسلامي، لكن هذا المشروع لَقِيَ معارضة شديدة من رجال السياسة المنتسبين إلى أهل السنة!! وتوقف المشروع سنين طويلة حتى نهاية سنة 1978 م حيث أقرّ المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى النظام الأساسي والنظام الداخلي للصندوق المستقل لبيت مال المسلمين، لكن هذا الإقرار بقي حبراً على ورق حتى سنة 1982 م حيث تقرر البدء بخطوة تمهيدية للمشروع، وهو ما عُرِف باسم (صندوق الزكاة) المعمول به حاليًّا.
4 – المطالبة بتعطيل يوم الجمعة :
سعى (ابن بيروت) مع إخوانه في الجمعيات الإسلامية ولجان المساجد إلى استعادة المسلمين لحقّهم الطبيعي في تعطيل يوم الجمعة، فأصدرت الجمعيات الإسلامية بيانات تدعو للأمر، وأجروا اتصالات ولقاءات مع المسؤولين الدينيين والسياسيين، خاصة مع رئيس مجلس الوزراء آنذاك صائب سلام، الذي كلَّفته الدولة رسميًّا بالتوجه إلى الجامع العمري الكبير وإعطاء وعدٍ للمسلمين بالتعطيل يوم الجمعة، وكان ذلك عشيَّة الحرب اللبنانية ( سنة 1975 م ) التي عطَّلت تنفيذ هذا الوعد! ولم يتوقف (ابن بيروت) عن متابعة هذا الأمر إعلاميًّا ليبقى حاضراً في عقول وأذهان الناس، وآخر ما نشره كان بتاريخ 28 / 9 / 1990 م في جريدة ((اللواء)) تحت عنوان: (( لماذا لا تعطِّل العاصمة يوم الجمعة )). قال أبو معاوية البيروتي: وما زال الأمر على حاله حتى الآن!
5 – المطالبة بإقرار التعليم الديني في المدارس الرسمية لتعريف الأجيال الناشئة بدينهم وحماية لهم من الأخطار التي تحيق بهم، وذلك لإيجاد جيلٍ من الشباب المسلم متمسّك بدينه وتاريخه وقِيَمِه الأخلاقية والاجتماعية.
وفي سبيل ذلك عمل (ابن بيروت) في البداية على الدعوة لإصلاح المؤسسات التربوية الإسلامية، وخاصة مدارس ((جمعية المقاصد))، حيث أصدر بياناً وقّعته 29 جمعية إسلامية وأُرْسِل إلى رئيس وأعضاء جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، يدعونها إلى تقويم سيرتها الإسلامية والالتزام التام بأركان الإسلام وأصوله وقواعده، ولفت البيان أنظار الجمعية إلى سبع نقاط يُطالِب بها المجتمع اللبناني المسلم، وهي:
أ – التعميم على جميع مدارس المقاصد وجوب إقامة الصلوات الخمس للطلاب والطالبات والمعلّمين والمعلمات، وأنْ تُقام صلاتَي الظهر والعصر جماعة في مسجد المدرسة.
ب – عدم قَبول أيّ معلم أو معلمة في مدارس ومعاهد الجمعية لا يؤدّيان فريضة الصلاة، لأنّ جمعية المقاصد قد أُسِّسَت على هدف ((تعليم المسلمين أمور دينهم)).
ت – عدم السماح للطالبات والمعلمات بارتداء أزياء تُخالف الشريعة الإسلامية، والعمل على ابتكار زي إسلامي مقاصدي يكون قدوة حسنة للمسلمات في لبنان والعالم العربي.
ث – عدم قَبول أي طالب (مخنفس) وطرده من المدرسة بعد مراجعة ولي أمره، لأن وجوده يفسد أبناءنا.
ج – إنشاء مصلّى في مستشفى الجمعية وحث الموظفين وخاصة أطباء المسلمين على إقامة الصلاة، وتفضيل المصلين في جميع مرافق التوظيف في المؤسسات الإسلامية على غير المصلين، لأن الواجب يدعونا جميعاً لبناء العمود الأول في رسالتكم المقاصدية؛ نعني الصلاة.
ح – التنسيق العملي بين مدارسكم والمساجد المجاورة لها بحيث تسمح الجمعية (المقاصد) بمزاولة النشاط الثقافي والرياضي فيها أثناء العُطَل الأسبوعية والسنوية بإشراف إمام المسجد ومساعدة اللجنة العاملة فيه، لجمع أبنائكم المقاصديين وغيرهم من أبناء المسلمين من الأزقة والشوارع وأماكن اللهو، لتعليمهم الإسلام وتشويقهم لزيارة المساجد والعمل في سبيل رسالتها.
خ – إنّ استجابة الجمعية لمطالبنا يشجّعنا على مطالبة الدولة بضبط المظهر الاجتماعي العام بمنع المظاهر غير السليمة من مدارسها الرسمية وبقية المدارس الخاصة، وكذلك منع الأفلام الماجنة والمجلات الداعرة المنتشرة في كلّ مكان.
6 - تأسيس الجمعية الخيرية لرعاية أطفال المسلمين في لبنان.
7 – تأسيس جمعية مكافحة التدخين.
وغيرها من الأعمال الطيبة، جعلها الله في ميزان حسناته يوم القيامة.
قال أبو معاوية البيروتي: استفدتُ مادة هذا المقال من كتاب ((ابن بيروت، ستون سنة من العمل الاجتماعي الإسلامي)) لمحمود علي البغدادي، المطبوع في دار خضر/ بيروت، ولـ(ابن بيروت) عبد المجيد منيمنة رحمه الله مؤلفٌ بعنوان ((مذكرات ابن بيروت، تسعون عاماً))، لعلّي أنقل منه لاحقاً إنْ يَسَّر ربِّي.