مُبالَغاتُ المتَرْجِمين ..!!
قال د. عبد العزيز الحربي في ((لحن القول)) : يجدُ القارئُ في كتُب التَّراجِم ألوانًا من المبالغات، وفُنونًا من ألفاظِ الثناء الزائد، وإنه ليخيّلُ إليك أنّ من تقرأ عنه لا نظير له في عصره، ولا مضاهيَ له في مِصْره، ثم تجد في السِّفْر نفسه ترجمةً لآخر من أقران الأوّل، أو في طبقة تلاميذه، أو لواحدٍ من تلاميذه، أو شيوخه، خلَعَ عليه المصنِّف جُمَلًا من المديح، ووَصَفَه بالأوصاف البليغة، وقال عنه: إنه وحيدُ الدهر، وفريد العصر، وشيخ المحققين، وإمام المجددين، أو قال عنه: شيخ الإسلام، وعَلَمُ الأعلام، الأوحدُ، العلاَّمة، الحبر، البحر، الفهّامة، الذي لم يرَ الناس مثلَه، أو: الذي ما رأى مثل نفسه، أو: خاتمة الحفاظ – وليت شعري من أدراه بذلك – أو قال عنه: حفِظ كُتُبَ كذا فقضاهنّ في يومين، ثم عمد إلى كتاب كذا فحفظه في أربعة أيام سواءٍ، وما قرأ شيئًا أو سمعَه إلا حفظه، ولا خَطَّ سوداء في بيضاء إلا انتقشَ ما كتبه في قلبه، وجميعُ ما حفظه لا ينساه، بل هو جارٍ على طرف لسانه حين يشاء.
وربّما نقله المترجِمون عن المُتَرْجَم، وأنه قال عن نفسه: منذ أربعين سنة لم يَكتب ملك الشمال في صحيفة عملي شيئًا، أو قالوا عنه: إنه ختم القرآن بين المغرب والعشاء، أو: ختم القرآن بالقراءات في ليلةٍ واحدةٍ، أو: صلى الفجرَ بوضوء العشاء مدة أربعين سنة (وهذا أقرب إلى الذم لمخالفته السُّنة الشرعية والطبيعية) أو ختم القرآن في يوم عشر مرَّات، وهذا غير ممكن ..
والتزيُّد في الحفظ ادِّعاءً أو وَصْفًا كثيرٌ ومشهورٌ، والسرّ هي المبالغة في الإعجاب، وانبساط النفس، وهما يبسطان دائرة التصوُّر حتى تتجاوز الواقعَ، ويذهَلُ العقلُ عن الحقيقة المطابقة له. ويحصل ذلك غالبا ممن يجدون جهدًا في الحفظ، وحفظ المحفوظ، ومن كبار السن حينما يجدون تغيُّرًا في حفظهم، فيقول الواحد منهم: لـمّا كنتُ صغيرًا كنتُ أحفظ كلَّ ما أقرأ، وما كنت أنسى شيئًا، واليوم لا حفظَ، ولا تَذَكُّر. وقال لي بعضهم: كنا نحفظ كلَّ شيء أيام الطّلب، وكنَّا نقوم قبل الفجر نحفظ ونراجع، ثم لم أجد أثرًا لهذا الادعاء؛ وإنما هو عامّي مثقف.
وأما القومة قبل الفجر، فكلُّ من ينام العشاء مبكّرًا سيقوم لو شاء قبل الفجر. وأنا أسهر الليل كله، وهذا أعجب؛ لأن السهر في طلب العلم أشدُّ وَطْءًا مِن طَلبِه في النهار، وسمعتُ واحدًا من الراغبين في طلب العلم يقول عنّي: إنني أحفظ كتاب (المحلّى) لابن حزم من أوله إلى آخره. وقال آخر عن آخر: إنه حفظ القرآن في شهرٍ واحدٍ. وهذا مع إمكانه بعيد، وبُعْدُه من جهة أنّ هناك فرقًا كبيرًا بين مَن حفِظَ، ومَنْ هو حافظ.
الخلاصة: جرى عمل كثير من الناس تقليدا على تقديس من سلف، والذهول عن بشريتهم، وأنهم خلقٌ مثلنا.