• ×

محاولات للحفاظ على القديم إرثا وتراثا

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

محاولات للحفاظ على القديم إرثا وتراثا

16 شوال 1436 - 02 أغسطس 2015

صالح عبدالله كامل

الجيل الفريد من مواليد أربعينات القرن الماضي ..والذين تتجاوز أعمارهم السبعين سنة، رحم الله منهم من رحل إلى جوار ربه، ومتّع من لا يزال حيا يرزق بالصحة والعافية وأنعم عليهم بحسن الختام.
أبناء هذا الجيل وأنا واحد منهم كانوا جيلا محظوظا حقا: إنهم عاشوا وشاهدوا ما لم يشهده مواليد الستينات مثلا، فقد أدوا فريضة الحج على الجِمال وفي «الشقادف» ومنهم من حجّ على حمار، وما زال الأحياء منهم يحجّون في مركبات مرفّهة وسيارات فارهة، وبعضهم ركب قطار الحرمين.
كانت إشارات «مورس» المبرقات وسيلة اتصالهم بالداخل والخارج، ومنّا اليوم من يحمل أكثر من هاتف جوال يوصله بالعالم في ثوان معدودة ..بعد ما كان ريقه ينشف وهو يستعطف «الترنك» أو السنترال من أجل مكالمة للقاهرة، على سبيل المثال.
وكان لموظفي السنترال «شنّة ورنّة» والكل يخطب ودّهم ويدعوهم إلى مجلسه حتى يحققوا بعض الأماني في التواصل.
وبعضهم صاروا من التجار ورجال الأعمال بحكم العلاقات الطيبة التي كونوها مع المجتمع.
أبناء جيلي شاهدوا نهاية الحروب العالمية والحرب الباردة، ولكنهم للأسف شافوا القاعدة، وداعش وبوكو حرام، وكانوا شهودا على أعظم الفتن في حياة الإسلام والمسلمين، لا بارك الله في كل من أيقظها.
أبناء جيلي كانوا محظوظين في حياتهم العلمية والعملية، فقد تلقوا العلم على يد أساتذة أفاضل، يستحقون بيت الشعر الذي أعلى منزلتهم:قم للمعلم وفّه التبجيلاكاد المعلم أن يكون رسولالم يكن المعلم في المدرسة أو حتى الكتّاب، معلما فقط، بل كان والدا وكان كل تلاميذه أبناءه.
وكان رعايته لا تقف عند «حوش» المدرسة، لو كان لها يومها «حوش»، بل كانت تسير معه أينما ذهب، وكنا نراها أينما التقينا به.
أما حظنا في الحياة العملية أن كل من درّسونا في الجامعة كانوا من أصحاب السعادة والمعالي.
كان ذلك في جامعة الملك سعود في الرياض، وكانت قد حدثت قطيعة موقتة بين المملكة ومصر، سُحب في خضمها الأساتذة المصريون، فما كان من وزرائنا إلاّ التصدي لهذه الأزمة وسدّ هذه الثغرة، فقد كانوا مؤهلين وعلى أعلى مستويات الفكر والثقافة، وكانوا رجال مسؤولية في الدولة، وحين تخرجنا ..تخاطفونا ووظفونا، لدرجة أنهم كانوا يتنافسون على استقطابنا، وتم تعييني في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تحقيقا لرغبة معالي وزيرها الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل.
والتقيت بعد أيام من تعييني هناك بمعالي وزير المالية الذي أصر بحكم مواهبي المحاسبية التي يدركها جيدا بحكم أنه أستاذي في الجامعة ..أصر - جزاه الله خيرا - أن أنتقل إلى وزارة المالية، وقد كان.
أعرف أن أبناء الجيل الحالي، وخاصة الخريجين منهم، سيحسدوننا كثيرا على هذا.
وكل من اتجه من أبناء جيلي إلى العمل الحر مباشرة أو بعد فترة من العمل الحكومي عاشوا زمن الطفرة وزمن المشاريع الكبرى وزمن الفرص العديدة، التي كانت في انتظار كل باحث حقيقي لها.
فانطلق كثير من الأعمال الريادية، فكثير من الأشياء والاحتياجات لم تكن موجودة، وعلى المبدعين أن يُعملوا أفكارهم ويجربوا حظوظهم.
ويوم أدركت بحكم المساحة المترامية الأطراف لبلادنا - حماها الله - أن هناك حاجة لإيجاد وسيلة تربط مدنها وقراها بعضها ببعض، فكرت في البريد الطواف واشتريت سيارات وجهزتها خصيصا لهذه المهمة وقدمت بها خدمة لمواطني بلدي الغالي، يوم كانت الرسالة، أو الجواب أو الكتاب وسيلة الربط الوحيدة لنقل مشاعر المحبة والوفاء وتبادلها بين الأهل والأصحاب والأقرباء.
وأعتقد أن أبناء هذا الجيل الحالي سيقولون، من يقرأ هذا منهم «يا صبركم يا جماعة، رسالة البريد تأخذ أقل شيء أسبوع حتى تصل من المرسل للمرسل إليه ..وإحنا نكسِّل الحين، ومعنا الجوالات، SMS و»الواتساب» أحيانا بالأسابيع ما نرسل رسالة لقريب أو صديق!».
أبناء جيلي كانوا يراعون مشاعر بعضهم بعضا حتى في مسألة الرزق، والتجارة عندهم صحيح كانت شطارة، بس ليس في المضايقة، بمعنى أنه لو فتح أحدهم دكانا في حارته، لا يجرؤ - عرفا - أن يقلده أو ينافسه آخر في نفس الحارة، لكن من الممكن أن يقوم بنشاط مغاير.
ولهذا حاولنا في غرفة جدة التجارية تنشيط هذا العرف، وقمنا بعمل خارطة استثمارية لكل مدينة حتى لا يتكرر نشاط واحد في حي واحد، هناك أحياء محرومة كلية من نفس النشاط ..تجنبا للتكدس وحدوث الهجرات إلى مناطق معينة وما يصاحب ذلك من زحام مروري وارتفاع في إيجارات المنازل..ونحن في الواقع بهذا نبحث عن مدن وأحياء متكاملة الخدمات متعددة الأنشطة.
والحقيقة أنني ومعظم أبناء جيلي نحرص بشكل مباشر وغير مباشر لنقل تلك الصورة القديمة عن الحالة التي كنا نعيشها ليدرك أولادنا الأعزاء حجم النعمة التي يعيشون، ومدى الرفاهية التي بها يتمتعون ..من أجل أن ندفعهم إلى مزيد من الشكر والحمد لله رب العالمين، والشكر ليس أقوالا، بل أعمال لتدوم عليهم كل هذه النعم، أوليس بالشكر تدوم؟ومن هنا تأتي المحاولات دائما للحفاظ على القديم إرثا وتراثا ليكونا شاهدي عيان لكل ما نروي ونقول، ولأن الحقيقة تؤكد أن من لا ماضي له ليس له حاضر، ومن ليس له حاضر فصعب أن يكون له مستقبل.
ذلك أن هذا الترابط الوثيق بين كل هذه المراحل هو الذي يبني اللُحْمَة ويقوي الصلات ويعمق العلاقات بين كل الأجيال في أحضان وطن عزيز متماسك يخطو إلى الأمام دائما بفضل الله خطوات واثقة على أرض صلبة مباركة.

* صحيفة مكة

بواسطة : صالح عبد الله كامل
 0  0  876
التعليقات ( 0 )

-->