• ×

مدينة جدة.. وقصة الفتى العجلي

زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط

مدينة جدة.. وقصة الفتى العجلي

03 شعبان 1436 - 22 مايو 2015
خضر بن سند

عرف المسلمون الأوائل مكانتها، وأول من جعلها ميناء للحرم المكي الشريف هو الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وبنيت فيها مساجد عتيقة جدا ومنها مسجد يقال له الأبنوس وما زال هذا المسجد يقال له الجامع العتيق وعليه نقوش وكتابات تعود للقرون الماضية الإسلامية الجميلة.
مع مرور الأيام أصبحت المدينة الساحلية الجميلة يقصدها العلماء كما يقصدها عامة المسلمين، فقد أصبحت فرضة البحر، وأصبحت ملتقى الحجاج والمعتمرين، اختلفت نظرة علماء المسلمين لها بسبب أهميتها، وأصبح بعضهم يرى هذه المدينة من أهم ثغور الإسلام، أصبحت المدينة تعرف باسم مدينة الثغر، وتعرف باسم خزانة الحرم، والثغر عند العلماء هي المدن التي يخشى من دخول الأعداء على بلاد المسلمين من طريقها بسبب وجودها في الحدود مع الكفار.
مرّت الأيام وأصبحت المدينة فعلا من الثغور وبدأ الخلاف بين العلماء في أهم الثغور الإسلامية، وقد أورد الغزالي رحمه الله في إحياء علوم الدين أن مدينة جدة أهم الثغور بسبب كونها هي مدخل الحرم المكي الشريف، فهي بوابة الحرمين كما تسمى اليوم.
اختار بعض العلماء الإقامة فيها ليس لكونها مصدرا للتجارة فحسب، بل لكونها ثغرا يثاب الإنسان على حمايته والدفاع عنه، وقال ابن جريج: جدة رباط ومكة جهاد، وقد وردت أحاديث موضوعة في فضلها ولكن لا قيمة لها من حيث السند ولا المتن.
منذ بداية القرن الهجري الأول بدأ العلماء والفضلاء يختارون جدة للسكنى بحكم أنها خزانة مكة، وظهرت في مطلع القرن الثاني الهجري أشهر قصيدة في مدحها وقد أوردها جمع من المؤرخين ومنهم ابن عساكر في تاريخه الشهير، وتدور القصة حول خصام طويل بين شعراء مكة والمدينة، أيهما أفضل؟ سكنى مكة أم المدينة؟، فانبرى لهم فتى عجلي قد تنسك وتعبد واختار جدة سكنا له، فأنشأ لهم قصيدة في حل الإشكال بينهم يقول فيها: إِنِّي قَضَيْتُ عَلَى اللَّذَيْنِ تَمَارَيَا فِي فَضْلِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَاسْأَلُوافَلَسَوْفَ أُخْبِرُكُمْ بِحَقٍّ فَافْهَمُوا وَالْحُكْمُ حِينًا قَدْ يَجُورُ وَيَعْدِلُوَأَنَا الْفَتَى الْعِجْلِيُّ جُدَّةُ مَسْكَنِي وَخِزَانَةُ الْحَرَمِ الَّذِي لا تُجْهَلُوَبِهَا الْجِهَادُ مَعَ الرِّبَاطِ وَإِنَّهَا لَبِهَا الْوَقِيعَةُ لا مَحَالَةَ تَنْزِلُمِنْ آلِ حَامٍ فِي أَوَاخِرِ دَهْرِنَا وَشَهِيدُنَا بِشَهِيدِ بَدْرٍ يُعْدَلُشُهَدَاؤُنَا قَدْ فُضِّلُوا بِسَعَادَةٍ وَبِهَا السُّرُورُ لِمَنْ يَمُوتُ وَيُقْتَلُيَا أَيُّهَا الْمَدَنِيُّ أَرْضُكَ فَضْلُهَا فَوْقَ الْبِلادِ وَفَضْلُ مَكَّةَ أَفْضَلُأَرْضٌ بِهَا الْبَيْتُ الْمُحَرَّمُ قِبْلَةٌ لِلْعَالَمِينَ لَهُ الْمَسَاجِدُ تُعْدَلُوقد ذكرت بعضها، والقصيدة موجودة بطولها في كتب التواريخ.
لم تكن المدينة خالية من علماء الحديث ونقلة العلم، فقد أصبح بعض رجالها من أعلام ورجال صحيح البخاري رحمه الله، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبدالملك بن إبراهيم الجُّدي، وظهر غيره من علماء جدة، وقد ذكرت بعضهم في كتاب علماء جدة، وليس غريبا على مدينة كان بعض علماء الأندلس يسمع من محدثيها ويروي عنهم أن يبقى فيها أثارة من العلم والخير، ولماذا لا يكون كذلك وهي مدينة تختلف عن بقية المدن بحكم موقعها من بلد الله الحرام.
وكثير من الناس كان يتوقع أن المدينة لم يكن لها ظهور علمي، وهذا قول باطل، فقد كانت المدينة معروفة للعلماء فهي ملتقى الحجاج والمعتمرين، ولولا ضيق المقال لذكرت نقولات مطولة للعلماء السابقين في فضائل سكنى جدة.
لم تكن جدة ملتقى العلماء فقط، بل حتى مقصد العشاق والأدباء، وقد أورد الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني قصصا للعشاق على شاطئ المدينة الساحلية.
لم تكن ليالي شعراء جدة للمجون والفسق بل كانت أحاديث عشاق وأحاسيس مرهفة هيجها هدير الموج الأزرق وصورة الغروب وأشرعة المراكب المغادرة والقادمة، وليالي البحر المقمرة الجميلة.
هذه المدينة عاشت للعلم والأدب، وفيها ملتقى أرباب العقل، وأرباب المال.
فهل تعود كما كانت في عصر الإمام السخاوي في مقدمة البلدان التي يرحل إليها طلبة العلم الشرعي؟..أرجوا أن يتحقق هذا، وما ذلك على الله بعزيز..

khedr.s@makkahnp.com

بواسطة : خضر بن سند
 0  0  6287
التعليقات ( 0 )

-->