بسم الله الرحمن الرحيم
عروس البحر الأحمر جدة مرفأ مكة وساحلها
عروس البحر الأحمر جدة مرفأ مكة وساحلها
جاء في كتاب معجم ما استعجم لصاحبه عبدالله الأندلسي المتوفى سنة 487هـ أن جده ساحل مكة معروفة ، سميت بذلك لأنها حاضرة البحر. وتقع جدة بين دائرتي عرض 25-21 و 45 21 شمالاً ، وخطي طول 5-39 و 20-39 شرقاً على الساحل الشرقي من البحر الأحمر في غرب المملكة العربية السعودية ، هذا الكيان الكبير الذي أسسه ووحد أرجائه وأمن طرقه جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله.
وجده ميناء المملكة العربية السعودية الرئيس وتسمى بوابة مكة ودهليزها ، وهي عروس البحر الأحمر ، يفد إليها حجاج ومعتمري بيت الله الحرام قاصدين مكة المكرمة والمشاعر المقدسة , كانت منذ القدم نقطة عبور من وإلى المدن والبلاد المختلفة الواقعة على البحر الأحمر الذي كان يعرف قديماً ببحر جده. ولقد ازدادت أهمية هذا الميناء بعد ظهور الإسلام وخاصة في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما أمر بجعل جدة ميناءً لمكة المكرمة بدلاً من الشعيبة عام 26هـ فأصبحت المدخل الرئيس لمكة المكرمة يقصدها جل من نوى الحج أو العمرة.
وجدة مدينة موغلة القدم , قيل أن أم البشر حواء هبطت بها في طريقها إلى عرفات للقاء أبو البشر آدم عليه السلام . لو ثبت ذلك لأمكن القول أن جدة هي أحد أقدم المستوطنات البشرية على الإطلاق .ولكن الثابت أن الآثار القديمة التي وجدت بالقرب من هذه المدينة تظهر أن ثمود سكنتها , كما أن من رواد جده القدماء , عمر بن لحي رئيس قبيلة خزاعة التي كانت بمكة بعد جرهم , وقد أشار إلى ذلك مؤرخ جدة الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري - رحمه الله - . ومعروف أن قضاعة بن معد بن عدنان وأبناؤه سكنوها .ومن أحفاد قضاعة من تسمى باسم هذه المدينة ، وهو جده بن جرم بن ربان ، ولدته أمه بجدة فسمي باسمها ، هذا الاسم القديم الذي عرفت به جدة على مر العصور ولم يتغير منذ القدم وإلى اليوم كما تغيرت أسماء كثير من المدن والبلدان فمدينة فيلدلفيا أصبحت عاصمة الأردن عمان , ودلمون تسمى اليوم البحرين ، وسيام أصبحت تايلاند ، وسيلان اسمها اليوم سريلانكا وبورما تغير أسمها إلى منمار .
ومنذ قبل الإسلام كانت جدة ميناء لمكة قبل أن تصبح الشعيبة مينائها حتى عام 26هـ عندما أمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان بإعادة جدة ميناءً للمدينة المقدسة. وكان تجار مكة منذ القدم يبحرون غرباً من جدة إلى الحبشة ودول أفريقيا الأخرى كما كانوا يبحرون جنوباً إلى اليمن وغيرها من الدول. وكانت جدة منذ قبل الإسلام مخزناً استراتيجياً ومستودعاً تجارياً لمكة. فحينما اسر المسلمون نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب في بدر ، طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم منه أن يفدي نفسه بألف رمح مما كان يخزن في جدة ففعل.
لكن جدة كانت سنة 26هـ على موعد مع اكبر أحداثها قاطبة حينما أمر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه خلال فترة خلافته , بتحويل ميناء مكة المكرمة من الشعيبة إلى جدة وجعل هذه المدينة الميناء الوحيد لمكة المكرمة بعد أن قدم إلى جدة وأغتسل في بحرها المعروف اليوم ببحر الأربعين.
وقد ورد تفصيل لهذا الحدث بقلم محمد بن احمد بن محمد النهروالي المتوفي سنة 990هـ في كتابه الموسوم \" كتاب الأعلام بإعلام بيت الله الحرام \" إذ يقول النهروالي : \"أن الحافظ النجم عمر بن فهد ذكر في اتحاف الورى , أن من أهم حوادث سنة ستة وعشرون أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أعتمر من المدينة المنورة فأتى مكة ليلاً فدخلها وطاف وسعى وأمر بتوسيع المسجد الحرام وجدد أنصاب الحرم , وطلب أهل مكة من أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يحول الساحل من الشعيبة وهي ساحل مكة قديماً في الجاهلية إلى ساحلها اليوم(في زمن النهروالي) أي إلى جدة لقربها من مكة ، فخرج عثمان رضي الله عنه إلى جدة ورأى موضعها وأمر بتحويل الساحل إليها ، ونزل إلى البحر واغتسل فيه وقال: أنه مبارك وقال لمن معه : ادخلوا البحر للاغتسال ولا يدخله أحد إلا بمئزر ، ثم خرج من جدة عن طريق عسفان إلى المدينة المنورة وترك الناس ساحل الشعيبة منذ ذلك الوقت وبدأوا الإبحار من ساحل جدة.
وأبان العصر الأموي الذي استمر من سنة 41هـ إلى عام 132هـ أي من عام 661م إلى 750م كانت جدة مرتبطة ارتباطا وثيقا بمكة المكرمة وتابعة لها وكانت مرفئوها وخزانتها . وكان الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان يغبط عامله سعد لأنه كان يتربع في جدة ويتيقظ في الطائف ويشتي في مكة.
وخلال العصر العباسي كانت جدة مدينة عامرة ومرفئا لمكة المكرمة وفرضه لها , تذكر المصادر إنها استقبلت في عهد الخليفة العباسي المهدي أساطين الرخام التي وردت من الشام ومصر إلى مكة المكرمة لعمارة المسجد الحرام , وقد تم نقلها إلى مكة المكرمة بواسطة العجل أي باستخدام الدواليب .
واستمرت أهمية جدة وارتباطها بمكة خلال العصر الأيوبي , إلا أن جدة وفي القرن التاسع الهجري أي في العصر المملوكي شهدت تطورات هائلة حولت مينائها إلى مرفئا عالمي وأصبحت المراكب تفد إليها مباشرة من الهند والخليج العربي والصين وغيرها .
وقد أعطانا الرحالة الذين زاروا جدة وهم كُثر , صوراً جلية توضح ارتباطها بمكة المكرمة والحج . فعلى سبيل المثال لا الحصر هذا عميد الرحالة العرب ابن جبير يصف جدة وصفاً مفصلاً، بأحيائها، وأزقتها، وباعتها، وعادات أهلها , وفنادقها وأهم مساجدها وطرق البناء بها وتحدث عن مينائها بإسهاب وعن وصول الحجاج إلي هذا الميناء . أما ابن المجاور، والذي جاء بعد ابن جبير بحوالي مائة عام في القرن السابع الهجري، فقد رسم لنا أقدم خريطة معروفة لجدة وضمنها كتابه \" تاريخ المستبصر \" وكان مقتنعاً بقدم اتخاذها مرفئاً لمكة المكرمة , كما وصف شدة ازدحام الحجاج بها. ثم أتى الرحالة الشهير ابن بطوطة بعد ذلك بمائة عام أخرى أي في القرن الثامن الهجري وتحدث عن جدة كما رآها وتحدث عن مبانيها التي كان الحجاج يستخدمونها , وتحدث عن ارتباط جدة بمكة المكرمة وذكر أن قاضيها وخطيبها كانا من أهل مكة المكرمة.
وفي بداية القرن التاسع عشر , تحدث الرحالة السويسري المسلم بوركهارت عن جدة التي زارها سنة 1814م بإسهاب واصفاً دكاكينها ومنازلها وصفاً دقيقاً مبيناً أهميتها للحجاج وحركتهم.
وقال بيركهارت أن القدوم إلى جدة من جهة البحر يتم عبر رصيفين يقفلان كل مساء , ويصف الأحياء التي يسكنها أصحاب البحر بأنها بجوار البحر . وبين بيركهارت أن معظم بيوت جدة كانت من دورين وأن البناء كان باهظ التكلفة . وذكر أن جميع أهل جدة تقريباً كانوا يعملون في التجارة سواء في البحر أو في الأسواق . ووصف شكل الدكاكين بجدة قائلاً: \" أن الدكاكين هنا مرتفعة عن الأرض بضعة أقدام , أمامها مقعد حجري يجلس عليه الزبائن , وهو مظلل من الشمس عادة بمظلة مصنوعة من الحصير مثبتة على أعمدة عالية , ووجهات الدكاكين لا تتجاوز ستة أو سبعة أقدام من حيث أتساعها . وعمقها يتراوح بين 10 أقدام و12 قدماً , وقد ألحقت بكل دكان غرفة صغيرة خاصة إلى الوراء. وبين بيركهارت انه كان بجدة عندما زارها 17 قهوة ونزلاً , وقال أن أهل جدة كانوا يفرطون في شرب القهوة . وذكر أنه كان بها 21 بائع للسمن وبين أهمية السمن للمطبخ الجداوي آنذاك . وتحدث عن وجود منصة فاكهة وخضار وأنها كانت يؤتى بها من الطائف الغنية بالبساتين . وذكر أنه كان بجدة خمسة فوالين يبيعون الفول في الصباح الباكر . وقال أنه كان بها دكان واحد لبيع الكباب وعشر منصات لبيع الخبز الذي كان يخبز في أفران جدة . كما تحدث عن أحد الدكاكين ،الذي كان يباع فيه الجبن اليوناني بالإضافة للحم المقدد والتفاح والتين المجفف والزبيب وقمر الدين , بأسعار تساوي ثلاث أضعاف أسعارها في القاهرة . وقال أنه كان بجدة آنذاك ثمانية عشر دكاناً للعقاقير , كما كان للملابس أحدى عشر دكان لبيعها , وكانت الملابس تباع بالمزاد العلني , وفي فترة الحج كانت الاحاريم تباع فيها , وقال أنه كان بجدة أربعة حلاقين , كانوا يقومون بدور الجراحين والأطباء , وانه كان بالسوق أربع خياطين وخمسة صانعي نعل وساعاتي واحد وسبعة صرافين .
كما ذكر عبد العزيز دولشتين ، وهو ضابط روسي قدم للحج عام 1888م , أسماء وكلاء المطوفين بجدة في ذلك الوقت، وكانت قائمة الأسماء هذه قد وردت في تقرير صدر في جدة عام 1883م. ووضح دولشتين إعداد الحجاج في جداول منظمة ووضع أسماء الإدلاء والمطوفين في جداول أخرى وبين أعمار بعض فئات الحجاج وجاء كل ذلك في كتاب قيم موسوم (الحج قبل مائة سنة ، رحلة عبدالعزيز دولشتين إلى مكة المكرمة).
هذه ملامح من تاريخ جدة , هذه المدينة العريقة المعروفة باسم عروس البحر الأحمر , وهي بوابة مكة المكرمة وخزانتها , على مر العقود والأزمنة , تبين ارتباطها القديم بمكة المكرمة والحج والمشاعر المقدسة . واليوم ازدهرت جده وكبرت وأصبحت هي وشقيقاتها من مدن المملكة العربية السعودية مدنناً عالمية تنافس كبرى مدن العالم في مختلف المجالات.
كتبه
الدكتور عدنان بن عبدالبديع اليافي
1/3/2009م
الدكتور عدنان بن عبدالبديع اليافي
1/3/2009م