غـار ثـور
المرحلة الأولى من طريق الهجرة النبوية الشريفة
المرحلة الأولى من طريق الهجرة النبوية الشريفة
لا شك أن بعض الجبال تختزن جزئا هاما من قصص التاريخ الإسلامي كما تختزن جغرافيتها كثير من ذاكرة ذلك التاريخ. فالقران الكريم نزل على سيد المرسلين أثناء اعتكافه في غار حراء بجبل النور. ومعركة أحد دارت رحاها على سفح جبل الرماة قرب جبل أحد، هذا الجبل الذي يحبنا ونحبه . كما أن بعض الإخباريين كانوا قد ذكروا أن أبو البشر ادم عليه السلام التقى بزوجه حواء على قمة جبل الرحمة في عرفات ، هذا الجبل المعروف الذي يقف على سفحه كل عام أثناء موسم الحج مسلمون كثر. ولا شك أن من ضمن هذه الجبال التاريخية ، جبل ثور الذي تشرف بإيواء رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه في غاره لعدة ايام في بداية رحلة هجرتهم من مكة المكرمة الى المدينة المنورة، وهي هجرة لم تكن الاولى في تاريخ الاسلام فلقد سبقتها - كما هو معروف - هجرات بعض الصحابة الى الحبشة وغيرها.
ولقد بدأت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بصعود جبل ثور ودخول غاره حيث مكثا به ثلاث ايام ويرجح الأنصاري أن دخولهما الغار كان ليلاً ويقول الأنصاري أن ابوبكر الصديق كان قد \" أمر ابنه عبدالله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر\". كما كانت ابنته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما تأتيهما بالطعام مساءً. ويستطرد الأنصاري قائلاً: أنه بعد مضي ثلاثة ايام عليهما في الغـار وسكـن طلب قريش عنهما ، \" أتاهما صاحبهما الذي استأجرا ، ببعيرهما وبعير له ، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما أي زادهما - ، وهكذا بدأت الخطوة الثانية أو المرحلة الثانية من رحلة الهجرة الميمونة بمغادرة جبل ثور\" هذا الجبل الذي تيسر لي بفضل الله سبحانه وتعالى أن أصعده وأدخل غاره المعروف في رحلة علمية مع صحبة فاضلة من إخوان أعزاء منهم معالي الدكتور أحمد محمد علي وسعادة الدكتور أنور عشقي وسعادة الدكتور عادل بشناق وغيرهم من الأصدقاء وسألقي بعض الضوء على هذه الرحلة لاحقاً إن شاء الله.
ولالقاء نظرة تاريخية سريعة على هذا الجبل يمكن الرجوع إلى المصادر التاريخية المبكرة والمتأخرة ومن ثم سرد بعض المشاهدات الحديثة لمقارنة وضع الجبل على مر العصور والسنين.
نظرة تاريخية على جبل ثوروغاره:
يعرف ابن منظور في لسان العرب ثور بقوله: ثور (بفتح اوله وبالراء المهملة) جبل من جبال مكة المكرمة المعروفة ويسمى أطحل ، كما يسمى ثور أطحل ، اشتهر بغاره الذي أوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه في بداية هجرتهما الى المدينة المنورة. ويسمى هذا الغار أيضاً , غار ثور.
وجاء ذكر ثور في أحد أهم وأقدم المصادر التاريخية المبكرة ، (أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار) لأبي الوليد الأزرقي المتوفى سنة 250هـ حيث يقول المؤلف : ثور جبل بأسفل مكة على طريق عرنة ، فيه الغار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مختبئاً فيه هو وأبوبكر رضي الله عنه في بداية هجرتهما الى المدينة.
أما الفاكهي وهو من علماء القرن الثالث الهجري فقد ذكر في كتابه (أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه) والذي قام معالي الدكتور عبدالملك بن دهيش جزاه الله خيراً بتحقيقه أن ثور \" في طريق عرنه على يسارك وهو الغار الذي ذكره الله في كتابه حيث يقول : \" إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا\".
وفي معجم البلدان ، يقول ياقوت الحموي المتوفى عام 626هـ \" إن ثور اسم جبل بمكة فيه الغار الذي اختبأ فيه النبي صلى الله عليه وسلم \" كما نقل ياقوت عن الزمخشري أن ثور اطحل من جبال مكة بالمفجر من خلف مكة على طريق اليمن\".
وفي (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) لصاحبه قاضي مكة ، تقي الدين الفاسي المتوفى سنة 832هـ ورد أن ثور جبل باسفل مكة وأن الغار الذي به مشهور وأنه هو الغار الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز. ونقل الفاسي عن الرحالة العربي الشهير ابن جبير أن طول الغار ثمانية عشر شبراً ، وطول فمه الضيق خمسة أشبار وسعته وارتفاعه عن الأرض مقدار شبر في الوسط منه ، ومن جانبيه ثلثا شبر ، وعلى الوسط منه يكون الدخول وسعة الباب الثاني المتسع في مدخله خمسة أشبار. ويذكر الفاسي انه قد تم رفع باب الغار في عصره أي في سنة 800هـ ونقل الفاسي قول ابن جبير أن ثور من مكة ثلاثة اميال.
وفي المصادر المتأخرة ورد ذكر هذا الجبل وغاره ووصفه المؤرخين وغيرهم باسهاب. فقد تحدث إبراهيم رفعت باشا عن زيارته للغار بقوله أنهم قطعوا المسافة بين معسكرهم والجبل في ساعة وعشرين دقيقة بسير الخيل المعتاد. وقال أنهم تسلقوا الجبل في ساعة ونصف الساعة، ووصف الغار بقوله : \" ولما بلغنا الغار وجدناه صخرة مجوفة في قمة الجبل أشبه بسفينة صغيرة ظهرها إلى أعلى ولها فتحتان واحدة في مقدمتها وفي مؤخرتها أخرى\". وقال أن الواقف أعلى الجبل يشرف على كل ما حواليه من الجبال ويرى مكة وما حولها واضحة ظاهرة.
وذكر العلامة الشيخ محمد طاهر الكردي المولود في مكة المكرمة عام 1321هـ والمتوفى عام 1400هـ/1980م في كتابه القيم والذي يقع في عدة اجزاء والموسوم (التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم) أن ثور يقع في أسفل مكة ويبعد عن الكعبة نحو ثلاثة كيلومترات في الجهة الجنوبية، وبين الكردي رحمه الله أن ارتفاع الجبل (759) متر.
أما المؤرخ المعاصر العلامة الشيخ عاتق بن غيث البلادي ، فقد بين أن ثور : \" جبل ضخم يقع جنوب مكة يرى من عمرة التنعيم جنوباً ، ذو رؤوس مدببة ، أمغر ، يرتفع عن سطح البحر (500) متر ، فيه من الشمال غار ثور المشهور\". وحدد البلادي موقع ثور بأنه يقع بين سهل وادي المفجر شرقاً وبطحاء قريش غرباً ويفصله عن مجموعه جبال مكة فج يسمى المفجر.وهو أحد المفاجر الثلاثة. أما في الجنوب فيتصل بمجموعة جبال نهايتها جبل حُبشى ويبين البلادي أن لثور اليوم أربع طرق : أحدهما من كدي , والآخر من المثيب , والثالث من ريع بخش , والرابع من العزيزية .
مشاهدات معاصرة لجبل ثور وغاره:
ولعله من المفيد هنا أن انقل للقارئ الكريم بعض المشاهدات التي سجلتها عدسة ذاكرتي عن جبل وغار ثور أثناء زيارتي لهذا الجبل في أوائل القرن الميلادي الواحد والعشرين (يناير2001م شوال 1421هـ) مع الصحبة الكريمة التي ذكرت آنفاً حيث كنا قد تركنا جدة إلى مكة المكرمة فجراً ووصلناها قبل شروق الشمس وبدأنا صعود الجبل واستغرق ذلك زهاء ساعة ونصف حتى وصلنا إلى غار ثور وعند الولوج إلى داخله وجدناه متسعاً نسبياً وبين تكوينه الطبيعي انه يمكن أن يستوعب شخصين (بخلاف غار حراء الأكثر ضيقاً). ويطل غار ثور على مكة المكرمة وبطحائها بما في ذلك المنطقة التي كان من المتوقع أن تأتي قريش منها باحثين عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق - رضي الله عنه- ويشرف الغار على ما حوله من الجبال . ومن يدخل هذا الغار يرى أنه كان فعلاً المكان الأنسب للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ليس فقط ليكونا بعيدين عن الأعين بل وأيضاً لمراقبة حركة من كان يبحث عنهم أسفل الجبل، أضف إلى ذلك أن موقع جبل ثور في جنوب مكة في عكس الاتجاه الذي كان من المتوقع أن يسلكه من نوى الهجرة شمالاً إلى المدينة المنورة قد زاد في تمويه من كانوا يقتفون أثرهم من المشركين.
وبعد قضاء بعض الوقت على سفح الجبل وزيارة غاره عدنا أدراجنا نازلين إلى أسفله في مدة اقصر من المدة التي استغرقها صعودنا إلى أعلى الجبل. وبعد الظهر من يومنا عدنا إلى جده نحمل ذكريات هذه الرحلة لأحد المعالم التاريخية لمكة المكرمة , العاصمة المقدسة لوطننا الحبيب المملكة العربية السعودية.
كتبه
الدكتور عدنان بن عبدالبديع اليافي
3م12/2008م
الدكتور عدنان بن عبدالبديع اليافي
3م12/2008م