جبل خندمة
ورد ذكر الجبال في القران الكريم في عدة مواضع ، منها قول الله تعالى في كتابه الكريم \" وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ \"صدق الله العظيم (ق:7) .
وتختزن بعض الجبال جزءاً هاماً من قصص التاريخ الإسلامي كما تختزن جغرافيتها كثيراً من ذاكرة ذلك التاريخ . فالقرآن الكريم نزل على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أثناء اعتكافه في غار حراء بجبل النور. ودارت رحى معركة أحد على سفح جبل الرماة قرب جبل أحد , هذا الجبل الذي يحبنا ونحبه ، واشار بعض الإخباريين أن أبو البشر آدم عليه السلام التقى بزوجه حواء على قمة جبل الرحمة في عرفات , هذا الجبل المعروف الذي يقف على سفحه كل عام أثناء موسم الحج مسلمون كثر . ومن ضمن هذه الجبال ذات التاريخ ،جبل خندمة بمكة المكرمة.
والحديث عن الجبال شيق وله زوايا متعددة ، والاهتمام بالجبال يكون لأسباب مختلفة. فالجغرافي يرى في الجبال معالم للمدن والاماكن. والمؤرخ يرى في الجبال ذات التاريخ مصدراً هاماً لتاريخ المدن والبلدان والمناطق التي تقع فيها. وعلماء الارض يدرسون التركيب الجيلوجي للمنطقة التي تقع فيها هذه الجبال وما بها من معادن. ومتسلقي الجبال سواء كانوا هواة من أمثالي او محترفين من امثال البطل السعودي فاروق سعد الزومان الذي تسلق قمة افرست أعلى قمة جبل في العالم عام 2008م يرون في الجبال اماكن للمغامرة والاستكشاف.
وتشكل الجبال جزءاً هاماً من ذاكرة تاريخ مدينة مكة المكرمة التي تقع في المنطقة الغربية من وطننا الغالي المملكة العربية السعودية ، وهي منطقة تُعرف بالدرع العربي وهي من اقدم التكوينات الجيولوجية في المنطقة ، حيث تسود صخور الجرانيت فيها. عن ذلك يقول الباحث المعروف الدكتور عبدالله بن صالح الرقيبة ، في دراسة بعنوان (الحج الى مكة المكرمة : دراسة جغرافية لمنطقة الحج واعداد الحجاج ) ، إن مكة المكرمة تقع وسط تلال صخرية تسمى بالجبال الساحلية هي جزء من الدرع العربي. ويذكر الدكتور الرقيبة أن مستوى سطح مدينة مكة المكرمة يتراوح بوجه عام بين \" 240م فوق مستوى سطح البحر عند نهاية وادي إبراهيم من الجنوب و 919م عند قمة جبل الأحدب شمال مزدلفة وإلى الشرق من مدينة مكة المكرمة. ويضيف الرقيبة أن المسجد الحرام يقع على ارتفاع 277م عن مستوى سطح البحر. والخرائط الطبوغرافية تبين أن أهم المظاهر التضاريسية في هذه المنطقة هي التلال الجبلية النارية والوديان والشعاب التي تتخللها والتي تنحدر نحو الغرب والجنوب الغربي. ومن هذه الجبال ما يقع حول الحرم المكي الشريف ، من ضمنها جبل خندمة المعروف.
جبل خندمة
يَعِّرف ابن منظور في (لسان العرب) الجبل بأنه اسم لكل وتد من أوتاد الأرض إذا عظم وطال من الأعلام ، والأطواد ، والشناخيب ، وأما إذا صغر وانفرد فهو من القنان ، والقور والكم ، والجمع أجبال وجبال.
كما أورد لسان العرب أن (خندم) اسم موضع بناحية مكة المكرمة . ويذكر صاحبه ابن منظور أنه \" في حديث العباس حين اسره ابواليسر يوم بدر قال : إنه لأعظم في عيني من الخندمة ، قال أبو موسى : أظنه جبلاً. قال ابن الأثير : هو جبل معروف عند مكة ، قال ابن برى: كانت به وقعة يوم فتح مكة ومنه يوم الخندمة ، وكان لقيهم خالد بن الوليد فهزم المشركين وقتلهم ، وقال الراعش لامرأته وكانت لامته على انهزامه:
إنك لو شاهدت يوم الخندمة.
إذ فر صفوان وفر عكرمة.
ولحقتنا بالسيوف المسلمة.
يفلقن كل ساعد وجمجمة.
ضرباً فلا تسمع الا غمغمة.
لهم نهيت حوله، وحمحمه.
لم تنطقي باللوم أدنى كلمة.
وكان قد قال قبل ذلك:
إن يقبلوا اليوم فما بي علة.
هذا سلاح كامل وآلة.
وذو غرارين سريع السَّلة.
وورد أيضاً في لسان العرب ، \" رأيت هنا حاشية أظنها بخط الشيخ الشاطبي اللغوي صاحبنا ، رحمه الله ، قال : هذا الرجز نسبه ابن السيد البطليوسي في المثلث للراعش الهذلي وأنشده السِّله ، بكسر السين ، قال وأنشده الجوهري ترجمه سلل بفتحها ، ولم يسم الراجز ، وذكر ابن بري هناك انه حماس بن قيس بن خالد الكناني ، قال :كانت هذه الحاشية وكذلك شاهدت في حاشية المثلث ما مثاله : كان حماس بن قيس بن خالد أحد بني بكر بن كنانه يعد سلاحاً ويصلحه قبل قدوم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح فقالت له امرأته : لماذا تعده؟ فقال لمحمد وأصحابه وإني لأرجو أن أُخدّمك بعضهم , ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فما بي علة ... الأبيات
وورد ذكر الخندمة في أحد أهم المصادر التاريخية ، (أخبار مكة وما جاء فيها من الاثار) للأزرقي من علماء القرن الثالث الهجري ،كما يلي:
الخندمة الجبل الذي ما بين حرف السويداء الى الثنية التي عندها بئر ابن ابي السمير في شعب عمرو , مشرفة على أجياد الصغير , وعلى شعب ابن عامر ، وعلى دار محمد بن سليمان في طريق منى اذا جاوزت المقبرة على يمين الذاهب إلى منى , وفي الخندمة قال رجل من قريش لزوجته وهو يبرى نبلاً له ، وكانت أسلمت سراً ، فقالت له : لم تبر هذا النبل؟ قال : بلغني أن محمداً يريد أن يفتح مكة ويغزونا فلئن جاءونا لاخدمنك خادما من بعض من نستأسر\" ثم يكمل الأزرقي قائلاً: \" فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح قالت أين الخادم؟ قال لها : دعيني عنك وأنشأ يقول:
وأنت لو أبصرتنا بالخندمة
اذ فر (صفوان) وفر (عكرمة) وأبو يزيد كالعجوز المؤتمة.
قد ضربونا بالسيوف المسلمه لم تنطقي باللوم أدنى كلمة.
ونقل الفاكهي من علماء القرن الثالث الهجري ، في (أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه) والذي حققه معالي الدكتور عبدالملك بن دهيش عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما مُطِرَت مكة قط الا كان للخندمة عزه \". وقال الفاكهي ان في ظهر الخندمة : المفاجر ، وواحدها المفجر وفيها يقول الشاعر :
فبطن مكة اسقا فأسقا مُحسِّراً ، فمزدلفات فالمفاجر
كما ورد في كتاب (\"مناسك\" وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة ) لإبراهيم بن إسحق بن إبراهيم المتوفي سنة 285هـ والذي حققة الشيخ حمد الجاسر رحمه الله- أن مكة \" بين جبلين بين أبي قبيس وقعيقعان ويتصل بأبي قبيس الخندمة \".
أما عبدالله بن عبدالعزيز البكري الأندلسي من علماء القرن الخامس الهجري والمتوفى سنة 487هـ فيقول في ( معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) أن الخندمة : بفتح أوله وإسكان ثانيه ، بعده دال مهمله مفتوحة ، ثم ميم: اسم جبل بمكة\".
وأعتبر الشاعر المكي الشهير احمد بن إبراهيم الغزاوي رحمه الله- صاحب \"شذرات الذهب \" أن الخندمة أحد أخشبي مكة أذ يقول \"وهو على يمين الصاعد إلى منى وأحد أخشبي مكة ... ويقابله الثاني \"قعيقعان \" ولعله ارتأى ذلك لأن أبي قبيس جزء من سلسلة الخنادم مما قد يكون جعل خندمة في رأيه الأخشب الثاني لمكة المكرمة من قبيل إطلاق الكل على الجزء.
وفي أحد إصدارات نادي مكة الثقافي الكتاب الموسوم \" مكة المكرمة في شذرات الذهب للغزاوي , دراسة وتحقيق لبعض المعالم الجغرافية\" من اختيار وتصنيف وتحقيق كل من ، الصديق الدكتور عبدالعزيز صقر الغامدي والباحث الدكتور محمد محمود السرياني , والزميل الدكتور معراج نواب مرزا , جاء أن الأصفهاني قال في كتابه \" بلاد العرب\" .. \" جبل يقال له الخندمة وفيه بنيان \" مكة\" منها شعب إبن عامر . ومنها \" اجيادان \" الصغير والكبير .. ومنها أبوقبيس\".
ويورد الكتاب تعليق الشيخ الشاعر أحمد بن إبراهيم الغزاوي \"إذ يقول معلقاً على ما قال الأصفهاني , \" قلت : هذا ما كان معروفاً لأهل مكة في القرن الثالث الهجري . أما الآن فقد أقتصر إطلاق \" الخندمة\" على الجبل العالي المواجه \" لثبير \" في الأبطح على يمين الصاعد إلى منى فقط . وسمي ما وراءه الى (وادي إبراهيم) باسماء محدثة جديدة.
أما مؤرخنا المعاصر العلامة الشيخ عاتق بن غيث البلادي متعه الله بالصحة والعافية - في كتابه \" معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية \" فيقول الخندمة: بفتح الخاء المعجمة , وسكون النون , وفتح الدال والميم ثم هاء : ذُكِر في يوم فتح مكة ، وإذا ذكر المؤرخون الخندمة وما حدث فيها أوردوا قول حماس بن قيس البكري الكناني : أنك لو شهدت يوم الخندمة ........ الابيات .
كما يخبرنا البلادي أن \" أهل مكة يقولون : الخنادم جمع- هي جبال مكة الشرقية , تبدأ من أبي قبيس شرقاً وشمالاً , في سفوحها الغربية والشمالية أحياء كثيرة من مكة مثل : شعب ابن عامر , والملاوي , والمعابدة , والروضة , ثم تمتد شرقاً حتى تفئ على حي العزيزية , وأخرها هناك جبل\"الخيط\" وكان آخرها من الشمال الشرقي يسمى \"ثبير الخضراء\".
أما وسوقها وقريانها فشعاب وقمم ذات مجاهل وأوعار لاتكاد توطأ.
كما يذكر البلادي أن \" أنفاقاً شقت اليوم عبر جبال الخنادم تدخل من عند المسجد الحرام وتخرج من \" محبس الجن \" بطرف العزيزية الغربي \"
هذا هو خندمة جبل يشكل جزءاًً من ذاكرة تاريخ البلد الحرام ويروي قصص الماضي يوضح كيف يمكن للجغرافيا أن تكون ذاكرة للتاريخ.
كتبه
الدكتور عدنان بن عبدالبديع اليافي
3/3/2009م
الدكتور عدنان بن عبدالبديع اليافي
3/3/2009م